أفلام الأوسكار بين واقعية التاريخ وشروط الدراما

{الشرق الأوسط} تدخل سباق الأوسكار

من «سلما»
من «سلما»
TT

أفلام الأوسكار بين واقعية التاريخ وشروط الدراما

من «سلما»
من «سلما»

«نظرية كل شيء» و«قناص أميركي» و«سلما» و«لعبة المحاكاة» و«فوكسكاتشر» و«فتاة مختفية»، «وحشي»، و«مستر تيرنر» هي بعض الأفلام الروائية التي ترددت عناوينها كثيرا في موسم الجوائز السينمائية منذ مطلع الشهر الماضي. والمشترك بينها ليس هذا الترداد وحده، بل حقيقة أنها، على عكس أفلام الترشيحات القوية الأخرى، مثل «بويهود» و«بيردمان» و«سوط» و«ذا غراند بودابست هوتيل»، مأخوذة من مراجع وأحداث واقعية.
التاريخ والسينما تحاربا كثيرا منذ البدايات. دائما ما خرج مؤرخون للتأكيد على أن السينما لا تنقل التاريخ كما وقع، بل كما يتراءى لها. والسينما ترد على أنها فن مجاز فيه تلوين الواقع ببعض الافتراضات والخيالات وإلا لما استطاع الفيلم الوصول إلى الجمهور الذي ينشده.
بالتالي، فإن السؤال المجاز هو هل تصرّف لينكولن على النحو الذي تصرّف به دانيال داي لويس في «لينكولن» لستيفن سبيلبرغ، أو هل كل ما يرد في ذلك الفيلم وقع فعلا وبالصورة التي شاهدناها؟ ماذا عن «ميونيخ» و«لائحة شيندلر» للمخرج نفسه؟ ماذا عن «ج ف ك» لأوليفر ستون أو «أرغو» لبن أفلك؟ و«الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس» لجون فورد أو «نيكولاس وإلكسندرا» لفرانكلين شافنر والعشرات الأخرى؟ متى تنتهي حدود التاريخ وتبدأ حدود السينما؟
تضخيم لغاية
تحويل أي مرجع، أو حتى كتاب روائي مبني على الخيال إلى فيلم سينمائي، عليه أن يسمح بتدخل السيناريو، ومن ثم الفيلم، فيما سطره المؤلف سواء أكان بيوغرافيا أو خياليا. في الوقت ذاته فإن هذا النقل لا معنى له (إلا بين يدي العباقرة مثل ستانلي كوبريك وأندريه تاركوفسكي) إذا شط كثيرا عن الواقع ودمج قليلا منه في غالبية من التصرّفات والمواقف المتخيّلة.
«سلما» (المشترك في سباق أوسكار أفضل فيلم وأفضل موسيقى مكتوبة لفيلم) يسرد أحداثا وقعت في مجرى حملة الزعيم مارتن لوثر كينغ الداعية للمساواة في الحقوق المدنية بين السود والبيض، وقد مدحته وسائل الإعلام لكن أخرى تحدّثت عن فجوات كثيرة في رصده ذلك التاريخ وما حدث في بلدة «سلما» عندما سار الأفرو - أميركيين في مظاهرة سلمية واجهها بوليس ولاية ألاباما بالعنف وذلك سنة 1965.
من بين تلك الفجوات المذكورة ما يبدأ باكرا في الفيلم: نستمع إلى مارتن لوثر كينغ (كما يؤديه ديفيد أويلاو الذي لم يجر ترشيحه بين الممثلين) وهو يلقي خطابا في أوسلو، النرويج سنة 1964 ويوحي لنا الفيلم أنه خلال إلقاء خطابه (بمناسبة تسليمه جائزة نوبل) كان العنصريون البيض ينسفون كنيسة في مدينة بيرمنغهام الأميركية. لكن الحقيقة أن تدمير الكنيسة وقع قبل عام من ذلك الخطاب. لكن المنتقدون لن يعدموا وسيلة للنيل من الفيلم على أساس أن هناك الكثير من التغييرات التي أحدثها على الواقع. بالطبع هناك تغييرات (والسينما التسجيلية ذاتها متهمة اليوم بأنها لا تنقل الأحداث كما وقعت بل تعيد رصفها) لكنها بالمقارنة مع أحداث فيلم آخر مثل «لعبة المحاكاة» هي أكثر التزاما بما وقع فعلا.
«لعبة المحاكاة» للبريطاني مورتن تلدام يسرد حكاية عالم الحسابات ألان تورينغ (بنديكيت كمبرباتش) الذي استطاع - بعد جهد بليغ - حل الشيفرات العسكرية للجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية بعدما عجز كل من استعانت بهم الحكومة البريطانية ومؤسساتها المخابراتية والعسكرية، عن فعل ذلك. بذلك، أسهم تورينغ، كما يقول الفيلم، بإنقاذ البحرية البريطانية من التدمير الكامل بل في انتصار الحلفاء على الألمان فيما بعد. هل هذا صحيح؟ وهل إذا ما أدرك الألمان أن أعداءهم نجحوا في تفكيك الشيفرة لن يستخدموا سواها؟
هناك تضخيم تشعر به وحرية في تناول الوقائع على نحو تبريره روائي محض. إنه من أجل إثارة الاهتمام يتم تبادل حوار ساخن بين تورينغ وباقي الشخصيات، بمن فيهم رئيسه القائد دنيستون (تشارلز دانس) وإدخال عنصر نسائي ربما كان موجودا بهذا الحجم أو غير موجود (تورينغ كان مثليا) وتصوير الشخصية بمسحة من التعاطف غير المحلل جيّدا وذلك لمنح البطولة ما تحتاجه من سمات.
مساحة الحرية
الفيلم البريطاني الآخر «نظرية كل شيء» لجيمس مارش أفضل شأنا في هذا النطاق. هو مرشّح لـ5 أوسكارات: أفضل فيلم، أفضل أداء رجالي (إيدي ردماين)، أفضل ممثلة (فيليسيتي جونز)، أفضل سيناريو مقتبس (كتبه أنطوني ماكارتن) وأفضل موسيقى مكتوبة خصيصا (وضعها يوهان يوهانسون)، ويدور حول مراحل من حياة العالم ستيفن هوكينغ عبر اقتباسها مما أوردته زوجته جين في مذكراتها المنشورة.
الالتزام الذي يبديه الفيلم حيال الكتاب، وهو التزام واضح لمن قرأ المذكرات، يجعل الفيلم أكثر واقعية. يحيل ما إذا كان ما نراه يحدث حدث فعلا أو لا إلى ذمّة الكاتبة وليس ذمّة الفيلم. طبعا هناك تدخل لحياكة التأثير الدرامي المنشود، لكن غالبا ضمن ما وضعته الزوجة السابقة في تصرف الفيلم من وقائع ولم يصدر عن عالم الفيزياء هوكينغ ما يناقض ذلك.
أميركيا، جاء تحويل حادثة واقعية حول زوج اتهم بقتل زوجته وإخفاء جثّتها إلى فيلم تشويقي، ليجذب اهتمام بعض النقاد إلى تفسير ما وقع وما لم يقع فعلا.
الفيلم هو «فتاة مختفية» Gone Girl للمخرج المثير للجدل ديفيد فينشر. لكن الصعوبة هنا هي فرز الخطوط وتحديد ما حدث وما لم يحدث. هذا لأن المعالجة تخضع لشروط الفيلم التشويقي الهادف لإدانة أكثر من طرف (الزوج والزوجة والإعلام على الأقل) بحيث لا يعدم الأهمية بمكان تحديد ما إذا كان الفيلم أمينا للواقعة أو غير أمين وإلى أي حد.
ليس بأهمية «نظرية كل شيء» أو «فوكسكاتشر» كما حققه بَنيت ميلر عن واقعة إقدام المليونير جون دو بونت (ستيف كارل) بقتل المصارع السابق ديفيد شولتز (مارك روفالو) على أساس أنه انتزع منه مبرراته وأحلامه بتسيد الوضع فيما يتعلّق برياضة المصارعة والتأثير على شقيقه مارك شولتز (شانينغ تاتوم). الغالب أن مساحة الحريّة للخروج عن تفاصيل القضية كانت أكبر من بعض ما تمتّعت به أفلام أخرى، لكن الفيلم (المرشّح أيضا لـ5 أوسكارات بينها أفضل ممثل لستيف كارل وأفضل إخراج لكن ليس في نطاق أفضل فيلم) ارتأى أن يلعب لعبته بقدر من الأمان للأحداث كما وقعت. التفسير قد يكون مختلفا حول مبرر الجريمة، وكذلك التفاصيل المكانية والديكوراتية وسواها، لكن الحكاية التزمت بما وقع على نحو واضح متمتّعة في الوقت ذاته بوجهة نظر المخرج فيها.
المسألة، في نهاية المطاف، معقّدة حيال ما يتم نقله ولماذا وما يتم إغفاله ولماذا، ثم حيال ما يتم تغييره ولأي سبب. الفيلم لا يجب أن يكون تكرارا ملتزما بالدقائق والتفاصيل والوقائع وإلا لافتقر إلى مبرر لإنتاجه. لكن المزج بين ما يستند إليه وما يستطيع أن ينجزه كفيلم فني جائز من دون أن ينقلب الفيلم على الوقائع المهمّة. وهذه مسألة بالغة التعقيد وقت الكتابة.
بوني وكلايد
* ما زالت محكمة النقد منعقدة بشأن أفلام كثيرة تناولت سير حياة مشاهير، ومن بين أهمها فيلم آرثر بن «بوني وكلايد» (1967). في ذلك الفيلم الممتاز كانت يد المخرج طليقة في تصوير الحكاية على هواه باستثناء اتباع الخط العام لها. لكن الفيلم وقع في نهاية المطاف بين اتهام البعض بأنه تمجيد للمجرمين الشهيرين واتهام آخرين بأنه كان فيلما بالغ العنف مشيرين إلى نهايته بالتحديد عندما يفتح رجال البوليس النار على المجرمين محولا إياهما إلى ضحيّتين.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.