بعد أكثر من عقدين من الحرب الباردة التي دعمت خلالها الولايات المتحدة الأنظمة المناهضة للشيوعية وروجت لسياسات السوق الحر في أميركا اللاتينية، اختفت الحكومات المحافظة بشكل فعلي من المنطقة.
كان التحول باتجاه اليسار جاريا منذ بداية الألفية، لكن السنوات الأخيرة شهدت ميل المحور السياسي لنصف الكرة بشكل أكبر، إذ تكرر فوز المرشحين الذين قطعوا وعودا بمزيد من الإنفاق على البرامج الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة في الانتخابات واحدة تلو الأخرى. وبنهاية ولاية الرئيس التشيلي المحافظ سباستيان بينيرا في مارس (آذار) سيكون وجود الرؤساء أصحاب التوجهات اليمينية في السلطة مقتصرا على دول أميركا الوسطى الصغيرة وباراغواي.
كان اليمين في أميركا اللاتينية يعرف نفسه في السابق بأنه مؤيد لقطاع الأعمال وداعم للقانون والنظام ويعقد تحالفا وثيقا مع الولايات المتحدة، لكن الكثير من أحزاب اليسار والوسط في المنطقة اختارت بعض هذه التوجهات في وقت صاروا فيه أكثر اعتدالا، تاركين للمحافظين قدرا ضئيلا من القضايا التي يمكن للمحافظين الترشح من أجلها، بحسب مراقبين في المنطقة.
ويقول كارل مياكام، مدير برنامج الأميركيتين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن: «أعتقد أن اليمين يعاني بشدة لإثبات ذاته في هذه البيئة الجديدة». وأشار مياكام، الذي كان مستشارا سياسيا للسيناتور الأميركي السابق ريتشارد لوغر، إلى أن المحافظين في أميركا اللاتينية بإمكانهم بذل مزيد من الجهد لإثبات ذاتهم، باستغلال وسائل السوق لزيادة الحراك الاجتماعي عوضا عن الاستراتيجيات التي تديرها الدولة التي يقدمها اليسار. وقال: «يبدو أن الرفاق في مواقع القيادة الحالية في اليمين لا يملكون الإجابات. نحن بحاجة إلى الاستعانة بوجوه شابة جديدة».
وعلى الرغم من هيمنتهم، فإن قادة اليسار في أميركا اللاتينية لا يشكلون كتلة متجانسة، وظهرت بينهم اختلافات سياسية كبيرة، وخصوصا فيما يتعلق بقضايا حماية التجارة والعلاقات مع الولايات المتحدة. لكن في القضايا الجيوسياسية المهمة، تمر المنطقة بمرحلة إعادة تنظيم واسعة، إذ أدى تركز الاهتمام الدبلوماسي الأميركي على مناطق أخرى في العالم، مثل آسيا والشرق الأوسط، إلى تراجع نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة.
وبدأت الأدلة على ذلك تتضح من خلال توافد قادة دول مجموعة دول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي (سيلاك) إلى هافانا استعدادا لقمتهم التي افتتحت أمس برعاية الرئيس الكوبي راؤول كاسترو، البالغ من العمر 82 عاما. وكانت هذه المنظمة التي تضم 33 دولة قد تأسست عام 2011 كبديل لمنظمة دول أميركا ومقرها واشنطن.
وعلى الرغم من لعب المنظمة الوليدة دورا رمزيا على الأغلب حتى الآن، فإن اجتماعها - في دولة شيوعية، من بين كل الأماكن - كان ذا طابع ملحوظ بالنظر إلى أنه لم يحدد تاريخا للقمة القادمة للأميركيتين، تلك الاجتماعات التي ترعاها الولايات المتحدة.
وخلال القمة الأخيرة التي عقدت في كولومبيا في أبريل (نيسان) 2012 أظهر قادة الطيف السياسي لنصف الكرة الجنوبي إجماعا نادرا عبر الإصرار على ضرورة عدم استثناء كوبا، التي لا تحمل عضوية منظمة دول الأميركيتين، من حضور القمة التالية. وجرى حجب جدول أعمال القمة بسبب الفضيحة الجنسية لعملاء الاستخبارات الأميركية الذين أرسلوا لحماية الرئيس باراك أوباما.
يعود الفضل في إنشاء مجموعة «سيلاك» إلى فنزويلا إبان حكم هوغو شافيز الذي عدها أداة لتحقيق الحلم المفقود بتوحيد أميركا اللاتينية لمثله الأعلى سيمون بوليفار الذي عاش في القرن الـ19. وبوفاة شافيز في مارس (آذار) من العام الماضي صار يسار أميركا اللاتينية الأكثر تطرفا دون زعيم واضح، وبات خلفه نيكولاس مادورو مشغولا إلى حد بعيد بالنجاة سياسيا من خلال محاولته السير على نهج شافيز. وقال خوسيه رافاييل زانوني السفير الفنزويلي السابق في مصر وإيران «مادورو ليس بالزعيم العالمي، وليس زعيما حتى في فنزويلا».
لكن نموذج الحكومة القوية الذي روج له شافيز خلال فترة حكمه التي امتدت لـ24 عاما كانت بمثابة تحذير للمرشحين اليساريين في المنطقة، الذين سارعوا إلى تبني المسار الذي وضعه الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا، الذي اتسم بمزيد من الإنفاق الاجتماعي على الفقراء وإفساح المجال أمام الشركات الخاصة ورأس المال العالمي.
ويرى محللون أن المقارنة بين شافيز ولولا تحولت إلى مقياس مبسط للتوجهات اليسارية في المنطقة، لكنها لا تزال مقياسا مفيدا. ويقول كارلوس روميرو، محلل الشؤون الخارجية في كراكاس: «العنصران المهمان هنا هما العلاقات مع الولايات المتحدة والعلاقات مع الشركات الخاصة، وفنزويلا تمثل الوجه المتطرف».
بيد أن مدرسة شافيز لا تزال قوية في دول مثل الأرجنتين وبوليفيا والإكوادور ونيكاراغاوا، حيث شهد أصحاب التوجه اليساري في هذه الدول انتعاشة عبر المواجهة المتزايدة مع واشنطن، وتركيز السلطة التنفيذية وفي الكثير من القضايا كانت هناك محاولات للتضييق على الصحافة والمعارضين السياسيين.
لكن في دول أخرى مثل أميركا الوسطى لا تزال واشنطن تحظى بالكثير من النفوذ. ففي هندوراس، لا يزال السكان المحليون يشيرون على البعثة الدبلوماسية الأميركية بالسفارة، كما لو كانت الوحيدة في البلاد.
وفي أقصى الجنوب، تنوعت علاقات أميركا اللاتينية، نتيجة لتعزيز التجارة مع الصين وظهور البرازيل كقوة اقتصادية وجيوسياسية مهيمنة في أميركا الجنوبية. وتسعى الرئيسة البرازيلية ذات التوجه اليساري ديلما روسيف إلى الترشح لفترة جديدة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل وقد تلعب إدارة حكومتها لكأس العالم الذي سيجرى صيف العالم الحالي دورا في إعادة انتخابها.
وفي المكسيك ترك حزب العمل الوطني السلطة مرة أخرى بعد 12 عاما من الحكم، لكن الرئيس إنريكي بينا نيتو وحزبه الحزب الثوري الدستوري تبنيا الكثير من السياسات التي تبناها اليمين من قبل. فخلال العام الأول من رئاسته بدأ بينا نيتو بمنح حقوق احتكار النفط الحكومي إلى الشركات الخاصة، وسعى من أجل توسيع اتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة والدول الأخرى، وأضعف النقابات القوية في المكسيك.
ويرى محللون أن الانقسامات الشاملة في أميركا الجنوبية ليست انقسامات يمين مقابل يسار، بل حول تجارة حرة مقابل الحمائية. ورغم استمرار دول مثل الأرجنتين وفنزويلا، وإلى حد بعيد، البرازيل في حماية صناعاتها المحلية والتدخل بقوة في اقتصاداتها، فإن دولا مثل تشيلي وبيرو وكولومبيا والمكسيك تدعم المقترح الأميركي بإنشاء «منطقة باسفيك ريم» للتجارة الحرة.
وكانت كولومبيا، الحليف الأساسي للولايات المتحدة، معقلا تقليديا للمحافظين في أميركا الجنوبية، لكن الرئيس خوان مانويل سانتوس تحرك نحو الوسط وشارك في محادثات سلام مع متمردي منظمة «فارك» ودخل في عداء من الرئيس الأسبق ألفارو أوريبي، الذي كان حاملا للواء اليمين الكولومبي. ويسعى سانتوس لإعادة انتخابه في مايو (أيار) المقبل وقد حقق تقدما كبيرا في استطلاعات الرأي على منافسه التابع لحزب أوريبي.
ويرى ليون فالنسيا، أحد زعماء حرب العصابات السابقين والذي تحول إلى محلل سياسي في بوغوتا، أن كولومبيا دولة تتمتع بخصوصية في منطقتها وأن استراتيجية الفوز في الانتخابات في أميركا اللاتينية في الوقت الراهن هي الاشتراكية اليسارية، وفي كولومبيا اليسار يعادي الاشتراكية لأنه يسار راديكالي ماركسي مرتبط بالعنف.
إضافة إلى كولومبيا والبرازيل يتوقع أن تجرى الانتخابات الرئاسية خلال العام الحالي في السلفادور وكوستاريكا وبنما وأوروغواي وبوليفيا. ويتمتع المرشحون اليساريون بموقف أكثر قوة في غالبية السباقات.
خلال الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة قلقة إزاء استجابة الشعوب الفقيرة في أميركا اللاتينية إلى نداء الراديكاليين الشيوعيين وثورة فيدل كاسترو في كوبا. وفي ظل ترسيخ الحكم الديمقراطي الذي أعقب ذلك، لم تبد سوى دولة قليلة رغبة في إجراء تغييرات كبيرة، لكنها بدأت تميل إلى دعم المرشحين الذين يؤيدون الإنفاق الاجتماعي وتقديم شبكات ضمان أوسع، بحسب جيوف ثالي، مدير برنامج في مكتب واشنطن الخاص بأميركا اللاتينية. وقال جيوف: «المشاركة السياسة الأوسع نطاقا من قبل الفقراء والطبقة الوسطى أدت إلى حركات سياسية وأحزاب تنادي إلى القضاء على التمييز».
* خدمة «واشنطن بوست» ـــ خاص بـ«الشرق الأوسط»