مقاتلو سوريا.. 70 فصيلا رئيسيا يتحكمون في 60 % من الجغرافيا

قدرات قوات المتشددين تهدد فعالية خطط تدريب المعتدلين

مقاتلو سوريا.. 70 فصيلا رئيسيا يتحكمون في 60 % من الجغرافيا
TT

مقاتلو سوريا.. 70 فصيلا رئيسيا يتحكمون في 60 % من الجغرافيا

مقاتلو سوريا.. 70 فصيلا رئيسيا يتحكمون في 60 % من الجغرافيا

لا ينظر إلى المقاتلين السوريين المعارضين المعتدلين الذين تنوي تركيا تدريبهم على أراضيها، بدءا من أوائل الربيع المقبل، على أنهم القوة الكافية لقتال المتشددين في سوريا.
فالمقاتلون الـ5000 الذين يتحضرون للانخراط في معسكرات التدريب التي ستشرف عليها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، لا يساوون جزءا يسيرا من تعداد المقاتلين السوريين المتشددين الذين يسيطرون على أكثر من 60 في المائة من الجغرافيا السورية، بدءا من الحدود العراقية شرقا، وصولا إلى الحدود التركية شمالا، إضافة إلى نقاط تجمعهم في الداخل والوسط وجنوب البلاد على الحدود الأردنية.
لا تملك قيادة الجيش السوري الحر تقديرات واضحة حول أعداد المقاتلين المتشددين في سوريا، وسط معلومات عن انشقاقات وانضمامات، وتبدل شهري لخريطة الولاءات في البلاد. جلّ ما تملكه، ترجيحات بأن يكون عدد مقاتلي تنظيم داعش «يفوقون الـ20 ألف مقاتل، بعد سيطرة التنظيم على أرياف دير الزور، وإجبار المقاتلين المعارضين المتخاصمين معه، على الانضمام إلى صفوفه أو الرحيل عن المنطقة»، كما تقول مصادر في «الحر» لـ«الشرق الأوسط»، بينما تقدر أعداد المقاتلين المنضوين إلى «جبهة النصرة»، وهي ذراع تنظيم القاعدة في سوريا، بنحو 15 ألف مقاتل. وتقول المصادر إن أعداد «النصرة»، إذا ما أضيف إليها حلفاؤها، مثل «جند الشام» و«جند الأقصى» وكتائب إسلامية متشددة أخرى موجودة في الشمال وريف دمشق «يضاعف أعداد المقاتلين في محورها، ويجعلها القوة الموازية لـ(داعش) في عدد المقاتلين».
يعقّد انتشار أكثر من 70 فصيلا سوريا معارضا في البلاد، المشهد السوري، ما يصعب مهام الجيش السوري الحر، وقدرته على التأثير، وذلك بعد إقصائه، كما القوات النظامية، من أرياف واسعة من البلاد، وحصر وجوده في المدن، وبعض أرياف المحافظات السورية. ويقول مصدر في الحر: «صحيح أن الجيش السوري الحر يتألف من عدة كتائب وفصائل، لكنهم جميعا يأتمرون من القيادة المركزية، خلافا لفصائل متطرفة متعددة الولاءات، وتنقسم على أنفسها في كثير من المحافظات».
ويتصدر تنظيم داعش القوة العسكرية المعارضة في سوريا، نظرا إلى قدرته المالية وتجهيزاته العسكرية ومعداته وأسلحته، إضافة إلى خبرات مقاتليه، وخصوصا الأجانب منهم، علما بأن التنظيم يعد أكثر الفصائل التي استقطبت مقاتلين أجانب في صفوفها، يزيد عددهم على الـ3 آلاف مقاتل، وينتشرون في مناطق سيطرتها. قدرة «داعش» نفسها، بحسب المصادر: «أهلتها لتكون الأكثر قوة، والأوسع انتشارا وسيطرة في مناطق سورية، إذ تحكم السيطرة على أكثر من 40 في المائة من الجغرافيا المتصلة في البلاد، ولا تزال تقاتل على عدة محاور في الشرق (دير الزور)، وشرق حمص، وشمال البلاد في كوباني (شمال شرقي حلب) ومارع (شمال حلب)، إضافة إلى الشمال (الحسكة) وشمال شرقي حماه».
ولم يكن هذا الواقع قائما، في بداية 2014، قبل أن يتمدد تنظيم «داعش» في شرق البلاد وشمالها، منذ بدء عام 2014. فيما يُرجح أن يسيطر على أراض إضافية في الجنوب والوسط، بعد قضم المساحات التي يسيطر عليها خصومه في المعارضة، وذلك في العام الجديد، في حال لم تُقوّض جهوده التي بدأ التحالف العربي والدولي في ضربها منذ شهر سبتمبر (أيلول) الماضي.
وبينما يقاتل التنظيم للحفاظ على مكتسبات ميدانية حققها منذ سيطرته على الرقة في سبتمبر 2013. يتقدم ببطء على محوري شرق حمص وشرق حماه باتجاه منطقة السلمية التي تعد أهم النقاط الاستراتيجية بالنسبة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، كونها خط الإمداد الوحيد لقواته من حمص إلى منطقة حلب، حيث يخوض معارك عنيفة ضد مقاتلي المعارضة في محاولة لاستعادة أحياء واسعة في المدينة. ويقول معارضون إن معارك التنظيم تُدار بنظرة استراتيجية، تؤكد أن المقاتلين على الأرض يواكبون بتخطيط دقيق من وحدة القيادة والسيطرة العسكرية في التنظيم، تتيح للمقاتلين إدارة العمليات في مناطق واسعة، في توقيت واحد.
ورغم أن ضربات التحالف قوضت حركته إلى حد كبير، فإن التنظيم لا يزال بقدرة على خوض المعارك المتفرقة عبر شن سلسلة هجمات متزامنة على مقرات للقوات الحكومية ومعارضيه على حد سواء الحسكة وريف حلب، كان آخرها معارك مع الأكراد في الحسكة وكوباني، ومع الجيش السوري الحر و«جبهة النصرة» في مارع شمال حلب، فضلا عن تمدده حديثا إلى القلمون، والأنباء عن سيطرته على القلمون الشرقي، ما وضع مقاتلين معارضين فروا من دير الزور، وأهمهم فصيل «أسود الشرقية»، في مواجهته في القلمون بريف دمشق الشمالي.
ويقول معارضون إن «داعش» تضاعف كثيرة «نتيجة الولاءات التي اشتراها بالمال من مقاتلين متشددين كانوا يخاصمونه، وإجبار آخرين على الانضمام إليه، مقابل تجميد أحكام القتل بحقهم. وبرز ذلك، على نطاق واسع في دير الزور، كما في القلمون، حيث تشير تقديرات المطلعين إلى ارتفاع أعداد مقاتلي داعش من 300 ظهروا في شهر أغسطس (آب) الماضي في معركة عرسال اللبنانية الحدودية مع سوريا، إلى ألف مقاتل في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
ويرى معارضون سوريون بارزون أن حركة الانضمام إلى «داعش»، ليست جديدة، وهي «في ازدياد بشكل دائم»، كون التنظيم «أثبت أن لديه قدرة أكبر على المواجهة، وأنه تنظيم قوي قادر على استقطاب المقاتلين في سوريا والمهاجرين إليه رغم أن تقويض حركة نزوح المقاتلين المتشددين إليه من دول العالم».
وخلافا لـ«داعش» الذي يسيطر على أراض جغرافية متصلة في شمال وشرق البلاد، تتوزع قوى «جبهة النصرة» في جنوب البلاد وشمالها ووسطها، إضافة إلى ريف دمشق، تمثل كيانات غير منتظمة، وخاضعة لتغيير جغرافي مستمر بين التقدم والتراجع. لكن أكثر المناطق وجودا للنصرة، تقع في ريف إدلب، وفي درعا والقنيطرة (جنوب البلاد)، إضافة إلى القلمون حيث يبلغ عدد الجبهة نحو 3 آلاف مقاتل، مع بعض الوجود في ريف دمشق وريف حمص الشمالي.
ومنذ ظهور التنظيم في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2011. عبر عملية انتحارية في دمشق، بدأ يتمدد على شكل كيانات مستقلة على طول البلاد وعرضها، تأتمر بقيادة واحدة كانت موجودة في دير الزور، وتتبع فقهيا تنظيم القاعدة. قدرة التنظيم المالية، ساهمت في تمدده، وخلق حاضنة شعبية له في الشمال، من خلال التقديمات التي كان يقدمها للجمهور في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وبدأ بشراء ولاءات، سرعان ما ضاعفت عدده، قبل أن ينتقل إلى المرحلة الثانية في الصيف الماضي، وهي إقصاء الجيش السوري الحر من مناطق ريف إدلب، بهدف إنشاء كيان مواز لـ«داعش» في الشمال، وذلك بعد أن أعطى زعيمه أبو محمد الجولاني الأمر بأنه «آن الأوان لأن يكون للتنظيم إمارته» في شهر مايو (أيار) الماضي.
ويقول أتباع التنظيم إنه «اتخذ قرارا بمحاربة جميع الفصائل التي تتلقى دعما من الولايات المتحدة الأميركية أو حلفائها أو من دول غربية»، من غير أن ينفي أن «النصرة» تتلقى الدعم من «أشخاص في أوروبا أو أميركا، ولكن ليس عبر الحكومات الغربية». ويؤكد معارضون سوريون مناهضون للنصرة، أن التنظيم المتشدد «أتم الإجراءات العملية والعسكرية في ريف إدلب، تمهيدا لإعلان إمارة له في ريف إدلب، من غير أن تشمل الريف الغربي لحلب كيلا يصطدم مع فصائل عسكرية معتدلة ناشطة هناك مثل (حركة حزم) أو سواها». وقال إن قياديي النصرة في إدلب: «يروجون إلى أنهم لن يعلنوا عن الإمارة في هذا الوقت، لكنهم يطبقون قوانينهم ويحكمون السيطرة العسكرية، ما يعني تنفيذ أحكامهم من غير جلبة إعلامية».
ولم تقاتل «جبهة النصرة» وحدها ضد قوات «جبهة ثوار سوريا» التي يتزعمها جمال معروف، و«حركة حزم» المدعومة أميركيا والمتحالفة معها: «بل شاركت كل من ألوية (صقور الشام) و(أحرار الشام) الإسلامية، التابعة للجبهة الإسلامية في ذلك القتال بضراوة»، ذلك أن بعض الألوية الإسلامية «تجد منذ زمن في قوات معروف عقبة أمام وجودها، نظرا لأنها تستحوذ على معظم الدعم الخارجي»، في حين «تجد النصرة في جبهة ثوار سوريا حليفا للغرب الذي يقوم باستهداف مقراتها عبر غارات التحالف»، وأن «خطوة القضاء على معروف هو استباق لضرب حليف الغرب المرتقب الذي يعتقد أنه سيقوم بمهمة القتال برا ضد النصرة وباقي الفصائل الإسلامية الموضوعة على لائحة أهداف التحالف».
وباتت «النصرة» تسيطر على قسم كبير من ريف إدلب، بعد طرد قوات المعارضة المعتدلة في شهر يونيو (حزيران) الماضي من الريف الغربي للمحافظة، وطرد قوات «جمال معروف» التابعة للجيش السوري الحر من الريف الجنوبي للمحافظة وريف معرة النعمان، أوائل الشهر الماضي.
و«حركة أحرار الشام» مجموعة مقاتلة إسلامية متطرفة معارضة للنظام السوري، وقريبة إجمالا من «جبهة النصرة» التي تقاتل النظام على جبهة، بينما انخرطت أخيرا أيضا في قتال ضد «جبهة ثوار سوريا» التي تضم كتائب عدة مقاتلة ضد النظام، وتمكنت من طردها من مساحات واسعة من ريف إدلب. وكان نحو 50 قياديا في حركة أحرار الشام قتلوا في التاسع من سبتمبر (أيلول) في انفجار نتج عن متفجرات وضعت في مكان قريب من قاعة كانوا يعقدون فيها اجتماعا سريا. وتعد من أبرز الفصائل المقربة من تنظيم القاعدة، إذ كان أحد أبرز قيادييها وهو أبو خالد السوري الذي قتل في حلب في عام 2012 أبرز مساعدي زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن.
وبعد الهجمات على المعتدلين، سيطرت «جبهة النصرة» وتنظيم «جند الأقصى» و«حركة أحرار الشام» على معسكر الحامدية بشكل كامل عقب اشتباكات عنيفة مع قوات النظام التي انسحبت باتجاه بلدتي بسيدا ومعرحطاط جنوبا. وبهذه السيطرة على المعسكرين، تمكنت «جبهة النصرة» من ربط ريف إدلب الجنوبي بريف حماه الشمالي، وهي المعركة التي عملت عليها «النصرة» منذ الصيف الماضي، وفشلت بعد تمكن القوات الحكومية بقيادة العميد سهيل الحسن (الملقب بالنمر) من صد هجوم شارك فيه 1500 مقاتل للنصرة، قاده زعيمها أبو محمد الجولاني. وعلى الأثر، أبعدت القوات النظامية قوات النصرة من مناطق بريف حماه.
وتسعى «النصرة» في هذا الوقت، للسيطرة على كامل أرياف محافظة إدلب، وتربطها بريف حماه الشمالي، لتكون المحافظة خاضعة لسيطرتها، ونقطة ارتكاز لها في شمال سوريا غرب مدينة حلب، في مواجهة تنظيم داعش الذي يسيطر على مناطق في شرق حلب.
وعلى المقلب الآخر في البلاد، تعتبر درعا في الجنوب، نقطة ارتكاز للتنظيم المتشدد أيضا. وتتفاوت التقديرات حول أعداد المقاتلين المنضوين تحت جناحها، ففي حين تؤكد مصادر الحر أنهم «لا يتجاوزن الألفي مقاتل»، يقول حقوقيون إن أعداد النصرة وحلفائها من كتائب إسلامية «تزيد على 5 آلاف مقاتل»، لكنها «تقاتل إلى جانب قوات الجيش السوري الحر، ما يرفع عدد المقاتلين في درعا إلى أكثر من 25 ألف مقاتل»، في حين «يستطيع نحو 80 ألفا حمل السلاح».
وتسيطر المعارضة على 80 في المائة من أرياف المحافظة، وكان آخرها التقدم النوعي في بلدة نوى الواقعة في الريف الغربي لمحافظة درعا جنوب البلاد، بعد أشهر من الاشتباكات، وهو ما وصفته مصادر المعارضة السورية بـ«التقدم الاستراتيجي» كونه «يقطع خطوط إمداد النظام إلى محافظة القنيطرة في الغرب، ما يمهد للسيطرة الكاملة على المحافظة» الحدودية مع إسرائيل.
ولا تزال درعا، أكثر المناطق إلى جانب المدن، تتضمن مقاتلين معتدلين، إذ يبلغ عدد الفصائل المقاتلة، 27 فصيلا معتدلا، بحسب ما تقول مصادر الجيش السوري الحر في الجبهة الجنوبية لـ«الشرق الأوسط»، فيما تتوزع القوى الأخرى في ريف دمشق، وداخل مدينة حلب، وفي مدينة إدلب، إضافة إلى مدينة حماه وريفها.
ويعد مقاتلو «الحر» الأكثر وجودا في تشكيلات المعارضة السورية: «لكن قدرتهم مفككة، نظرا إلى انتشارهم الواسع، وضعف الإمكانات العسكرية والتقديمات، ما يجعل جهودهم مجمدة»، كما تقول مصادر الحر لـ«الشرق الأوسط». ورغم عددهم الكبير، فمع الانقسامات التي تزداد على ضوء صعود المجموعات المتشددة، لم يعد يسيطر الحر على أكثر من 5 في المائة من الجغرافيا غير المتصلة، تتوزع على كيانات في الجنوب والوسط والعاصمة والشمال، بعدما كان يسيطر على نحو 20 في المائة من الجغرافيا السورية في عام 2013.
وتكمن قوة المعتدلين الأقوى، في الغوطة الشرقية، نظرا إلى «وجود تشكيلات غير متشددة، يناهز عددها الـ25 ألف مقاتل معتدل في الغوطة الشرقية، بينهم جيش الإسلام الذي يتزعمه زهران علوش، وتمكن من طرد (داعش) من مناطق في الغوطة».
ويعد مقاتلو «الحر» الأكثر عرضة للاستهداف من القوات النظامية، كونهم يقيمون غفي مناطق محاذية لسيطرة النظام، حيث «لا تزال مدفعيته وقواته البرية فاعلة، وخصوصا في المدن وأطرافها»، على النقيض من مواقع سيطرة «داعش» التي لا تستطيع القوات الحكومية استهدافها «إلا عبر الطائرات، ما يجعلها أقل عرضة للقصف من غيرها».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.