إذا كنت ترغب في تناول «المحمَّر» و«المشمَّر» من المأكولات المصرية الشهية في قلب الإسكندرية، وفيما كان يسمى الحي اللاتيني، والذي يشبه الحي اللاتيني في باريس، فعليك التوجه إلى مطعم «أبو السيد» أو «بسترودس» سابقا. هنا يمكنك تناول طعامك وأنت تستمع بالشمس الدافئة بجوار واحد من أقدم المسارح اليونانية الرومانية في العالم أو في الداخل، حيث الأجواء الرومانسية الكلاسيكية الحميمية على أنغام الموسيقى الشرقية الأصيلة، بينما تستمتع بوجبتك أو مشروبك المفضل.
كان مطعم «بسترودس» أحد أهم معالم محطة الرمل منذ أن أسسه الخواجة اليوناني السكندري بسترودس في 1922، كان أبرز زواه الشاعر اليوناني الكبير كفافيس، والكاتب الإنجليزي لورانس داريل، وظل المطعم الوجهة المفضلة لكثير من أهل الإسكندرية والأجانب بعد الاستمتاع بالتجول في وسط المدينة أو عقب مشاهدة فيلم في سينما أمير المواجهة له، وذلك حتى بداية القرن الـ21.
كان المطعم يأخذك إلى أجواء باريسية حالمة، وخاصة وأنت تمر بطاولاته الأنيقة من البامبو، تعلوها مظلات باللونين الأبيض والأزرق كتب عليها «pastroudis» فتجد خليطا من الجنسيات يتحدثون الإنجليزية والفرنسية واليونانية والإيطالية والروسية والسويدية والعربية، وكان أشهر ما يتميز به «بسترودس» الصنف الفرنسي، البط بصوص البرتقال، والاستيك وكوكتيل الجمبري اللذيذ.
اليوم ينقلك المطعم لأجواء القاهرة الفاطمية وكأنك داخل أحد قصور السلاطين. تترامى إلى أذنك الموسيقى الشرقية التراثية مما يضفي أجواء طربية تفتح الشهية على ألذ المأكولات المصرية مثل: الملوخية بالأرانب، والعكاوي، والطواجن بأنواعها والشركسية والكشك والمحاشي بأنواعها، والموزة الروستو مع صلصة الزعفران، وفتة الكوارع، وسمك الصيادية وطواجن المأكولات البحرية إلى جانب الفول والفلافل. وبعد أن تستمتع بوجبة مصرية من العيار الثقيل سوف يأتي لك الحساب في شكمجية.
يروي وجيه يوسف عبد العال، أقدم العاملين بمطعم «أبو السيد» لـ«الشرق الأوسط» ذكرياته مع مطعم «بسترودس»: «أعمل هنا منذ عام 1979، أي نحو 35 سنة، عملت في البداية مع (بسترودس)، وكان مملوكا لعائلة كامل القصبجي المصرية التي اشترته من الخواجة بسترودس، وكان المحل بنفس تصميمه يضم كافيه ومطعما وحلوانيا، ويقدم أصناف المطبخ الفرنسي، وكان يشتهر بالديك الرومي المحشو، والاستيك والبيكاتا والأرز بالخلطة، كان زبائنه من كبار العائلات المصرية والأوروبية على السواء، وكان المطعم يجهز للولائم والحفلات الملكية والأرستقراطية في الإسكندرية».
ويحكي وجيه: «سمعت أن الملك فاروق تناول العشاء في (بسترودس) مرة مع حاشيته الملكية، وأذكر جيدا الفنان أحمد رمزي وعادل أدهم والمخرج يوسف شاهين، أشهر الفنانين السكندريين، وكانوا دائما ما يأتون إلينا كثيرا مع أصدقائهم من الفنانين، وكان أحمد رمزي كثير المزاح مع أصدقائه، وكان يحب أن يتناول مشروباته واقفا».
ويستكمل: «أذكر أننا كنا نعد ولائم لابنة عم الملك فاروق في قصرها بالإسكندرية أيام الملك فاروق، وكانت لديها فيلا كبيرة في شوتز. كنا نجهز ولائم الطعام لها، كما كنت أعد ولائم للسيدة جيهان السادات في القصر الرئاسي، ولدي صورة تذكارية معها، وقابلت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، حيث كنت أجهز ولائم في فيلتها في العجمي. وأيضا المغني اليوناني العالمي ديميس روسوس، ابن الإسكندرية، جاء لزيارتنا أكثر من مرة وشاركت في إعداد حفلة في مسرح السلام، كما أعددت مأكولات حفل الفنانة فايزة أحمد في حديقة أنطونيادس في 1981، وحفلات رجل الأعمال الكبير طاهر القويري».
أكثر ما يسعد المتر وجيه حاليا هو زيارة أحفاد كبرى العائلات الذين يتذكرونه في أفراح آبائهم وأجدادهم، ويتذكر بحنين للزمن الجميل، قائلا: «الزمن تغير، والمطعم تغير، كما تغيرت الأذواق والسلوكيات، حتى نوعية الزبائن تغيرت وأكثرهم سافروا، لكن أفرح كثيرا حينما يأتي أولادهم».
ويفتخر المتر وجيه: «الكاتب الكبير نجيب محفوظ كان زبونا دائما لدينا فصل الصيف، وخصوصا فرع (بسترودس) في جليم على الكورنيش، وأذكر أنه كان شخصا لطيفا جدا، يحب أكل الاستيك المشوي، وأتذكر أنه كان يأتي بمفرده وكان صوته خفيضا وكان يأكل في هدوء ويغادر بعدها، وأفخر بأنني شاركت في تجهيز حفل عيد ميلاد الكاتب الكبير توفيق الحكيم في قلعة قايتباي بمناسبة عيد ميلاده الـ83».
ولوهلة يبتهج قائلا: «الكينغ محمد منير صوّر أغاني له هنا أيام (بسترودس)، وتم تصوير مشهد من فيلم (رسائل البحر) في (أبو السيد)، وقد التقيت عمرو حمزاوي، وعماد الدين أديب، ودائما ما استغل فرصة وجودهم وأتحدث معهم في السياسة وتمتد معهم النقاشات السياسية بالساعات».
ذكريات كثيرة تحملها جدران «بسترودس»، لكن تغيرت معالم المكان، كما تغير اسمه، وتم تغيير الديكور وفقا لأجواء المطعم الشرقية، لكنه لا يزال له رونق خاص مختلف عن مطاعم المدينة، فمنذ الوهلة الأولى سوف تبهرك البوابة الخشبية العملاقة التي تذكرك بقصور السلاطين العثمانيين، والجدران المزينة بصور قديمة لحواري مصر وصور البورتريه لأشهر نجوم مصر أم كلثوم ونجيب الريحاني، أما الطاولات المستديرة والمقاعد الوثيرة الفخمة والأكواب والملاعق والتحف والأنتيكات المصرية والثريات ذات الطراز الشرقي تزيد من روعتها إضاءة المطعم الخافتة التي تضفي أجواء حميمية، وهو ديكور المطعم المتبع في كل الفروع في القاهرة والغردقة وشرم الشيخ ودبي والكويت، وغيرها.
ويتوسط مطاعم «أبو السيد» صورة بورتريه كبيرة لشخصية «أبو السيد» التي ترمز للرجل المصري بهيئته في نهايات القرن الثامن عشر بالجلباب والطربوش والشارب الكث، ويروي مطعم «أبو السيد» قصته على موقعه الإلكتروني بأنه سمي على اسم رجل مصري يدعى «سيد أبو السيد» كان يعيش في القاهرة إبان الحكم العثماني، وكان مشهورا بكرم ضيافته وروعة ما يقدمه لضيوفه من الأكلات المصرية، وذاع صيته، ووصل إلى السلطان، فتنكر السلطان ليتذوق طعام أبو السيد فأعجبه وقرر أن يعينه «كبير الطهاة»، لكن حياة القصور لم تعجب أبو السيد، فقرر الهرب، ودوّن وصفاته في مخطوط وخبأه في مكان سري، ثم ظهر هذا المخطوط بعد قرون، وأصبح مصدر إلهام لأطباق مطعم مصري أصيل سمي «أبو السيد» تخليدا لاسمه.
«أبو السيد» مطعم مصري على أطلال «بسترودس» اليوناني
كان من ضمن زبائنه كفافيس وداريل والملك فاروق ونجيب محفوظ
«أبو السيد» مطعم مصري على أطلال «بسترودس» اليوناني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة