كانت حصيلة عام 2014 في تونس براكين سياسية بالجملة بدأت مطلع العام بتنحي حكومة علي العريض، الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية، وحلفائها في «الترويكا»، وتوجت بانتصار خصومهم الموالين لليسار الاجتماعي ولحزب بورقيبة وبن علي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
واعتبر المراقبون ما جرى في تونس جزءا من صراع بين «الثوريين» و«الواقعيين» حسم لصالح أنصار السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي. لكن المشهد مرشح لـ«براكين» جديدة في العام الجديد، وتغييرات جوهرية في المشهد السياسي من بين ملامحها تأسيس المنصف المرزوقي والمقربين منه لحزب سياسي جديد، يحاول أن يستقطب ملايين الغاضبين والشباب المحبط وأبناء الجهات المهمشة، خصوصا في الجنوب والجهات الغربية للبلاد.
افتتح العام الحالي في تونس بموافقة البرلمان الانتقالي (المجلس الوطني التأسيسي) على مقترح قيادة «الحوار الوطني» بزعامة قيادات نقابات العمال ورجال الأعمال، نص على استقالة الحكومة «الحزبية» التي أفرزتها انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011، واستبدالها بحكومة «تكنوقراط» ومستقلين بزعامة المهندس المهدي جمعة، وزير الصناعة في حكومة علي العريض، أمين عام حزب النهضة الإسلامي.
وقد اعتبرت تلك الخطوة «منعرجا سياسيا» أنهى في مناخ سلمي حكم زعامات «الإسلام السياسي» دون تدخل مباشر من المؤسسة العسكرية، على غرار ما جرى قبل ذلك بأشهر في مصر، أو قبل عقدين في الجزائر.
* «انقلاب أبيض»
* وقد وصف عدد من رموز «التيار الثوري» في تونس استقالة حكومة «الترويكا »؛ أي النهضة وحلفاءها في حزبي المنصف المرزوقي، ومصطفى بن جعفر، بـ«الانقلاب الأبيض».
بل إن بعض رموز هذا التيار «الثوري»، مثل: محمد عبو، زعيم حزب التيار الديمقراطي، وعبد الرؤوف العيادي زعيم حركة وفاء، وعبد الوهاب معطر، القيادي في حزب المرزوقي، انتقدوا بعنف موافقة راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي، على المشاركة في «الحوار الوطني» تحت ضغط نقابات رجال الأعمال والعمال. واعتبروا تنازلات الغنوشي وموافقته على استقالة الحكومة التي أفرزتها الانتخابات، موافقة على «انقلاب أبيض» نفذ في تونس لأبعاد «الثوريين» عن الحكم وتكريس المصالحة مع حزب نداء تونس بزعامة الباجي قائد السبسي الذي وصفوه بكونه «وريث حزب زين العابدين بن علي التجمع الدستوري الديمقراطي»، وهو الحزب الذي وقع حله بقرار قضائي «مستعجل» بعد ثورة يناير (كانون الثاني)2011.
كما تسبب انسحاب حركة النهضة وحلفائها من الحكم في براكين سياسية داخل عدد من الأحزاب والحركات السياسية من، بينها: «النهضة»، و«المؤتمر»، و«التكتل». وكانت من بين نتائجه استقالات من قيادة حركة النهضة من أبرزها استقالة رياض الشعيبي، عضو المكتب التنفيذي والمنسق العام السابق لمؤتمر الحركة. وكان من نتائج تلك الاستقالات إضعاف موقع الحركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي نظمت أواخر العام بسب تعاقب حملات «الثوريين» المنسحبين على خصومهم رفاق الأمس وبينهم قيادات في الحركة.
وتؤكد الإحصائيات أن حركة النهضة خسرت كثيرا من المقاعد في انتخابات 26 أكتوبر البرلمانية بسبب ترشح عشرات من المنسحبين منها في قائمات منافسة لها، ومشاركتهم في الحملات الدعائية ضدها.
* احتكام إلى المجتمع المدني
* لكن راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة والمقربين منه - مثل مستشاره السياسي، لطفي زيتون، ونائب الأمين العام للحركة الوزير السابق للعدل، نور الدين البحيري، وعضو المكتب التنفيذي، رفيق عبد السلام - يعتبرون أن ما حصل مطلع عام 2014 لم يكن «انقلابا على الشرعية الانتخابية»، بل «انتصارا لخيار الاحتكام إلى المجتمع المدني بين الفرقاء السياسيين خلافا لما حصل في مصر في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) 2013».
ولئن يقر القياديون في حركة النهضة وأحزاب «الترويكا» والمقربون منهم بكون «المستجدات الإقليمية بعد تعثر الربيع العربي في مصر وسوريا وليبيا» ضغطت عليهم حتى يقبلوا بالاستقالة قبل تنظيم الانتخابات الجديدة، فإنهم ينوهون بكون «الحسم كان سلميا عبر خيار التوافق السياسي بوساطة من ممثلين عن المجتمع المدني وهيئات النقابات والمنظمات الحقوقية، وليس تحت ضغط دبابات الجيش الذي التزم الحياد».
* نهاية الإخوان المسلمين
* وحسب الدارسين لتطورات الأوضاع في تونس والمنطقة العربية، فإن «الحصيلة واحدة وهي إبعاد رموز قيادات الجماعات المحسوبة على الإسلام السياسي وتيار الإخوان المسلمين عن الحكم»، مثلما جاء على لسان الباحث في علم الاجتماع السياسي، المنذر بالضيافي، أو عميد كلية الحقوق الأسبق، الصادق بلعيد.
وذهب المؤرخ علية العلاني إلى أبعد من ذلك؛ إذ اعتبر أن «الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها قيادات الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وليبيا، أثرت سلبا على صورة حكومتي النهضة والترويكا في تونس، فبرز بعض ساستها في موقع المتهم باعتماد خطاب مزدوج ظاهره ديمقراطي تعددي مدني وباطنه استبدادي إخواني سلفي».
* انتقادات لسيد قطب والبنا
* إن رموز «الإسلام التونسي المعتدل» داخل حركة النهضة وخارجها - مثل عبد الفتاح مورو، نائب رئيس البرلمان الجديد والأمين العام السابق للحركة - يعتبرون أن «فشل الإخوان المسلمين في مصر وليبيا مثلا في بناء جسور حوار وشراكة مع التيارات السياسية العلمانية واليسارية والقومية، لا يبرر الحكم على حركة النهضة بالفشل والموت السياسي، لأنها حركة تبنت منذ 1981 مدنية الدولة والعمل مع الأحزاب الشيوعية والعلمانية، بل لقد سبق لراشد الغنوشي أن نشر كتابات تنتقد بعض مواقف بعض زعماء الإخوان المسلمين المصريين، وبينهم سيد قطب وحسن البنا، لا سيما فيما يتعلق بالتعددية السياسية والحزبية و(تكفير) فئات من المجتمع».
راشد الغنوشي ذهب إلى أبعد من ذلك خلال محاضرات سياسية ألقاها أخيرا في جامعات ومراكز أبحاث في الصين والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا؛ إذ اعتبر «انسحاب حكومة النهضة والترويكا، رغم شرعيتها الانتخابية، حجة على إيمانها بالتعددية وتقديمها المصلحة الوطنية». وأكد الغنوشي الفكرة نفسها بعد تهنئته للباجي قائد السبسي على فوز حزب نداء تونس بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية التي خسرت فيها النهضة 20 مقعدا مقارنة ببرلمان 2011 الانتقالي الذي لم يترشح له ممثلو النظام السابق.
* معركة «الثوريين» و«البراغماتيين»
* ولئن حسمت صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية التونسية الموقف مجددا لصالح «الواقعيين» و«الإصلاحيين» بزعامة الباجي قائد السبسي وحزبه ضد منافسيهم «الثوريين» بزعامة المنصف المرزوقي وأنصاره، فإن كل المؤشرات توحي بكون الصراع بين التيارين على واجهات كثيرة، بما في ذلك تنظيم مظاهرات في الشوارع.
وعلى الرغم من دعوات المنصف المرزوقي، وراشد الغنوشي، والباجي قائد السبسي، إلى التهدئة، تعاقبت المظاهرات وأعمال العنف في عدد من المدن التونسية - وخصوصا جنوبي البلاد - للتنديد بما وصفوه «تزييفا مقنعا للنتائج بسبب انحياز وسائل الإعلام والمورطين في المال الفاسد ضد المنصف المرزوقي، نتيجة تمسكه بخيار محاربة الفساد ورفض معارضة المنظومة القديمة ورموز الاستبداد».
ويخشى بعض علماء الاجتماع والنفس الاجتماعي - مثل عبد الوهاب محجوب - من أن يتسبب تراكم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في المحافظات الجنوبية والغربية للبلاد وفي الأحياء الفقيرة في خدمة «الثوريين» مجددا، واندلاع انفجارات تؤدي إلى إسقاط الحكومة التي سيشكلها قائد السبسي وحزبه بالشراكة مع بعض حلفائه.
* البديل
* في هذه الأثناء استبق المنصف المرزوقي وأنصاره «الانفلاتات الأمنية والاجتماعية»، وأعلنوا عن مبدأ تشكيل حركة سياسية واسعة جديدة تحاول أن تستوعب الـ45 في المائة من الناخبين الذين صوتوا ضد مرشح حزب نداء تونس و«ضد عودة رموز النظام السابق» إلى الحكم.
هذه المبادرة أعلن عنها المرزوقي في تجمع شعبي كبير في مقر حملته الانتخابية السابقة، أورد فيها أنه ينوي تزعم «الدفاع عن مكاسب الثورة، وعن المشروع الديمقراطي، والتصدي لعودة المنظومة القديمة التي كان من الواضح أنها تستعمل آلة حزب التجمع المنحلّ نظريا بكل ما عرف عنها من أساليب الترغيب والترهيب، مدعومة بآلة دعائية رهيبة وبحجم غير معروف من المال السياسي المحلي والأجنبي». وتعهد المرزوقي وأنصاره بأن يكون «القطب السياسي الجديد» فوق الأطر التقليدية ومتجاوزا التقسيمات السياسية والعقائدية الموجودة على الساحة.
فهل تنجح هذه المبادة وغيرها من محاولات الإصلاح الداخلي في صلب الحزبين الكبيرين؛ نداء تونس، والنهضة، في دفع تونس نحو متابعة أولياتها التنموية، ومحاولة رفع التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها، لا سيما من جهة حدودها الجنوبية مع ليبيا؟