قبل نهاية عام 2014 بيوم واحد كتب مارك شولتز على فيسبوك وتويتر مهاجما المخرج بَنِت ميلر وفيلمه الجديد «فوكسكاتشر». السبب هو أن الفيلم يوحي بأن بطل العالم الحائز على ميداليتين ذهبيتين في المصارعة الحرّة كانت له علاقة جنسية مثلية مع الملياردير جون إ. دو بونت أيام ما قام الملياردير باحتواء مارك شولتز في فريق سمّاه «فوكسكاتشر تيم» ورغب منه أن يربح الميداليات الذهب وأن يحقق لأميركا ريادتها السابقة في هذه الرياضة.
كان ذلك في منتصف الثمانينات، وسواء ارتبط بطل العالم بعلاقة مثلية مع الملياردير، الذي كان يرأس الفريق ويضم في راحات ممتلكاته الشاسعة أفرادها، أم لم يرتبط، فإن الفيلم يوحي بأن شيئا ما كان تحت رادار تلك العلاقة. هذا الشيء قد يكون الدافع الخفي لقيام جون إ. دو بونت بقتل شقيق مارك، وهو ديف شولتز، في عام 1996، الجريمة التي حوكم عليها بالسجن من 13 سنة إلى 30 سنة. في عام 2010 مات جون إ. دو بونت في السجن فعلا.
* تحسين صورة
* الدافع الخفي الذي يوحي به الفيلم هو أمر، والغلاف الخارجي هو أمر آخر.
«فوكسكاتشر» من أفضل أفلام العام الماضي ولا عجب أن مخرجه بَنِت حصل على جائزة أفضل مخرج من مهرجان «كان» السينمائي. لجنة التحكيم (التي رأستها النيوزلندية جين كامبيون) منحت الذهبية لفيلم «سبات شتوي» للتركي نوري بيلج شيلان، وإن سألت الكثير من النقاد عمّن كان يستحق السعفة فعلا لانقسموا لـ3 فئات واحدة تحبّذ فيلم شيلان، والأخرى فيلم بَنِت والثالثة الفيلم الروسي «حوت» لأندريه زفياغنتسيف.
الغلاف الخارجي المذكور هو أن الفيلم إنما يصوّر البارون دو بونت رجلا ذا مثاليات وطموحات ضلّت طريقها فارتطمت بالوهم. حين تبنّى مارك شولتز أراد بالفعل الخير له ولنفسه ولأميركا كوطن. قال له: «السوفيات يساندون لاعبيهم» (ويعني بذلك الدولة ذاتها) ثم أكمل: «أريد العزّة لأميركا وأتوسم فيك هذا النجاح».
لكن دو بونت (كما يؤديه بإجادة فريدة ستيف كاريل) أخذ يخلط بين الحقيقة والوهم تحت ضغوط نفسية. يظهره الفيلم على أنه كان يحاول دوما الفوز برضا والدته (دور قصير بارع جدا لفينسيا ردغراف) التي كانت ترى في المصارعة «رياضة وضيعة». حبّها «الرياضي» كان للجياد التي كانت تملك منها ما تعتبره أفضل الأنسال. مع هذا الرد منها تلقّى الابن صفعة عاطفية، ثم صفعة أقوى عندما دخلت أمّه المقعدة (تجرّها إحدى المشرفات) عليه أثناء تدريبه الفريق. حين يلاحظها، ينصرف لمحاولة التأثير إيجابا عليها. تحسين صورته في عينيها. كان يحتاج إلى حنانها وهي لم تكن تملك ما تهبه له وقد غدا في منتصف العمر. تخرج من القاعة وينطفئ الأمل من عينيه.
أول ما ماتت، دخل الاصطبل حيث تلك الخيول الجميلة وأطلقها.. لم يعد يريد أن يراها.
المخرج بَنِت ميلر يسرد الوضع النفسي بالموجز من اللقطات والأعين. لا حاجة لأكثر من ذلك صوتا أو صورة. والنتائج المترتّبة هي على النحو ذاته. في أحد مشاهد الفيلم الدالة، يتابع دو بونت فيلما تم تسجيله قبل سنوات قليلة عندما استقبل مارك شولتز (شانينغ تاتوم) في قصره. بذلك عاد إلى أحلامه. وتبعا للإحباط الذي واجهه مع والدته، رأى في مارك شولتز ذلك الحلم الذي لم يتحقق. لكن عدم تحقيقه بالنسبة إليه لم يكن سببه والدته بل شقيق مارك الأكبر ديف شولتز (مارك روفالو) فهذا صد هيمنة دو بونت على شقيقه وحافظ على المسافة بينه وبين دو بونت عندما عرض عليه العمل مدرّبا في فريقه فلم يخنع له كشقيقه مارك. جون دو بونت أحال فشله إلى ديف الذي ساعد شقيقه على الخروج من حلم دو بونت ورؤيته وعالمه. عليه قاد سيّارته إلى حيث كان ديف مشغولا بتصليح سيارته. هناك، وأمام عيني زوجته (سيينا ميلر) أطلق عليه ما لا يقل عن 3 رصاصات قاتلة.
* لعبة الهيمنة
* النقاد الغربيون هم الذين حمّلوا الفيلم ما لم يحمله. الفيلم لا يُشير إلى علاقة مثلية، حتى ولو أن مسارات العلاقة النفسية قد تشي بانجذاب ذكوري بين الاثنين دو بونت ومارك شولتز. المخرج ميلر يغزل الفيلم بعناية، ولو أنه أراد قول ذلك بوضوح لما منعه شيء. لم يمنعه شيء من تقديم شخصية مثلية في فيلمه الأسبق (والأول له مخرجا) «كابوتي» (عن الصحافي والكاتب المعروف) ولو أن مثليته لم تكن موضع عرض أو تداول. يبدأ ميلر تقديم شخصية مارك الذي كان نال الميدالية العالمية في المصارعة الحرّة قبل 3 سنوات من بدء حكاية الفيلم، لكنه لم يحقق بعد ذلك إنجازا يُذكر. يعيش في شقة فوق دكان، ويقف في الصف في الملاجئ الخيرية. لديه شقيق رياضي بدوره يقوم بالتدريب (وسبق له أن فاز بالميدالية الذهبية ذاتها أيضا) ومتزوّج وأكثر استقرارا. أيام حالكة لا إضاءة فيها والممثل شانينغ تاتوم يعايشها بصعوبة. فجأة يأتيه هاتف من سكرتير دو بونت ومارك يستجيب. يطير إلى ذلك المكان الشاسع المحاط بممتلكات العائلة التي جنت ثروتها بصنع الكيماويات. دو بونت يستقبله ويمنحه الأمل والطموح ويحذّره من أخيه: «يريدك أن تبقى تحت إبطه. عليك أن تستقل».
ومارك يستقل من تحت إبط شقيقه لكنه يقع تحت إبط دو بونت. يرفض الحديث لأخيه ويقابله بجفاء قبل أن يكتشف أنه كان مموها بأكثر من الكوكايين الذي وفّره له دو بونت. لا عجب أن دو بونت قتل ديف لأنه لم يعتد أن يخسر أحدا، فما البال بحلمه بأسره؟
* مصارع روسي!
* تستطيع أن تتحدّث عن هذا الفيلم طويلا. عن الإخراج وتوظيفه المفردات البصرية وكيفية ذلك. عن الخلفية وما اختاره المخرج منها. وعن النهاية التي تصوّر مارك وقد استمر في توهانه بعد فقدانه شقيقه فأصبح مجرد لاعب في المباريات المفبركة يتم تقديمه على أنه «بطل روسي». يسقط أرضا ويتلقى نصيبه من الأجر.
لكن أبرز ما تستطيع الحديث فيه هو التمثيل.
هناك غرابة لا تحد في أن ترى الكوميدي ستيف كاريل في دور جون دو بونت بأنف كبير ونظرات مات التعبير فيها وبقامة تعاند للوقوف في وجه ما تتصدّى له. يزيح كلا من مارك روفالو وشانينغ تاتوم. شخصيّته هي الأعمق وستيف كاريل يوفّر ما تحتاجه شكلا ومضمونا. حين يأتي الأمر إلى مارك وشانينغ هناك غرابة أخرى: هل كان هذان الممثلان مصارعين قبل أن يصبحا ممثلين؟ طبعا لا. لكنهما يقبلان على إتقان المطلوب لدرجة أنهما الشخصيّتان فعليا. لكن ستيف كاريل يبقى جوهرة الفيلم. يجسّد الرجل الثري الذي يحاول أن يتصرّف كما لو كان جارك العادي. هنا تكمن المفارقة لأنه كما يخفق الفقير في التصرّف كثري، يخفق الثري في التصرّف كفقير. دو بونت كان غريب الأطوار من دون هذا التصرّف، لكنه يصبح أكثر غرابة كلما حاول أن يدخل حياة الآخرين قبل أن ينتهي مهزوما من قبل والدته وخيولها ونظرتها إلى ما يحاول أن يقدم عليه ومن قبل أحلامه ومارك وشقيقه ديف.
* 3 أفلام واتجاه واحد
* هذا هو ثالث فيلم للمخرج بَنِت ميلر بعد «كابوتي» (2005) و«مونيبول» (2011). الأول يتعاطى مع الصحافي الذي يستثمر مأساة قاتل لأجل مصلحته الخاصّة. الثاني دار حول ملاعب الكرة. الفيلم الحالي، يتحدّث عن ذلك الاستثمار وينتهي بجريمة قتل ويتعامل مع رياضة أخرى.