سيد قرطاج الجديد

الباجي قائد السبسي يعيد تونس لحظيرة بورقيبة

سيد قرطاج الجديد
TT

سيد قرطاج الجديد

سيد قرطاج الجديد

أكدت نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية استطلاعات الرأي التي رجحت منذ مدة فوز السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي برئاسة الجمهورية على منافسيه الـ26 ثم على الرئيس المؤقت والمعارض السابق لحكم زين العابدين بن علي المنصف المرزوقي. فمن هو «السيد الجديد» لقصر قرطاج؟
لماذا اختار غالبية الناخبين التونسيين زعيما يعيدهم إلى حضن زعيمهم الأسبق الحبيب بورقيبة بعد أكثر من ربع قرن من إزاحته عن الحكم من قبل رئيس حكومته زين العابدين بن علي، في أجواء رحبت فيها كل الأطراف السياسية وقتها بالتغيير وبإحالة «الأب الكبير» إلى التقاعد السياسي.
بصرف النظر عن تباين التقييمات للمسيرة السياسية للباجي قائد السبسي لا يختلف اثنان حول «الشبه الكبير» بين صورة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وصورة الرئيس الجديد لتونس في مخيال الكهول والشباب. بل إن إدارة الحملة الانتخابية لسيد قرطاج الجديد روجت صورا للزعيمين جنبا إلى جنب لتأكيد الشبه الطبيعي بينهما خاصة عندما يرتدي قائد السبسي نظارات شمسية تشبه نظارات بورقيبة. كما يعتبر غالبية الكهول والشيوخ في تونس قائد السبسي «الأقرب إلى بورقيبة» بفضل نجاحه في كاريزميته ومخاطبته التونسيين مباشرة - دون نصوص مكتوبة - وبلهجة شعبية يجمع فيها بين النكتة وتحريك المشاعر في اتجاهات مختلفة في وقت قياسي مع استحضار بعض الحكم والآيات القرآنية وأبيات الشعر.

* الخطاب.. والحجة

* لكن قوة الباجي قائد السبسي ليست مرتبطة فقط بفصاحته التي تذكر الناس بخطب بورقيبة «النارية»، بل بكونه حاول أن يملأ الفراغ السياسي الذي أحدثه انهيار رأس الدولة فجأة في تونس مطلع 14 يناير (كانون الثاني) 2011.
وقد حاول قائد السبسي البروز بمظهر رجل الدولة الذي انخرط في مسار الثورة وتبنى مطالب الشباب المهمش والمحبط بعد أن عجز خليفتا بن علي رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع ورئيس الحكومة محمد الغنوشي عن شد الشعب الهائج إليهما، وهما اللذان كانا حتى سقوط حكم بن علي في بيت الطاعة ومن أبرز مسؤولي الحزب الحاكم والدولة.
وقائد السبسي من مسؤولي الدولة في تونس منذ منتصف خمسينات القرن الماضي؛ حيث كان مستشارا لبورقيبة، ثم تولى كثيرا من المناصب، بينها وزارات: الداخلية، والدفاع، والخارجية، وأيضا في عهد بن علي؛ حيث كان رئيس البرلمان في سنتي 1990 و1991، وعضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم حتى 2003، وغاب لفترة عن واجهة الأحداث ليعود بعد هروب بن علي ويتولى رئاسة الحكومة في فبراير (شباط) 2011.

* ديمقراطي انشق عن بورقيبة وبن علي

* ولعل من بين نقاط القوة عند الباجي قائد السبسي بالنسبة لكثير من صناع القرار السياسي والاقتصادي في تونس أن مسيرته تراوحت بين «رجل الدولة» الذي تحمل مسؤوليات كبيرة في الحكم في عهدي بورقيبة وبن علي والديمقراطي المعتدل الذي انشق على بورقيبة عام 1971 مع ثلة من الوزراء الذين طالبوه بالديمقراطية بزعامة أحمد المستيري وحسيب بن عمار.
كما يحسب الديمقراطيون لقائد السبسي أنه كان من بين أوائل السياسيين الليبراليين الذين انسحبوا من الصدارة في عهد بن علي منذ توفي 1991 أي في المرحلة التي شهدت فيها تونس منعرجا أمنيا شمل مواجهات مع المعارضين الإسلاميين والحقوقيين وبينهم المنصف المرزوقي رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
هذا الرصيد وظفه أنصار الباجي قائد السبسي لصالح زعيمهم لإظهاره في مظهر رجل التوافق بين الموالين للزعيم بورقيبة ورموز الدولة من جهة والديمقراطيين من جهة ثانية.
وإن أطنب المؤرخون المعارضون لقائد السبسي - مثل الجامعي محمد ضيف الله - في إبراز تحمله مسؤوليات على رأس حقائب الداخلية والدفاع والخارجية في مراحل قمع بورقيبة لمعارضيه الزيتونيين واليساريين والقوميين والإسلاميين، فإن أنصاره ينفون تورطه في القمع مباشرة ويشيرون إلى أنه كان الأقرب إلى وسيلة بن عمار حرم بورقيبة التي كانت تعتبر مناصرة للانفتاح والتعددية بخلاف زوجها. كما يستدلون بعودة الباجي قائد السبسي إلى الحكومة وحزب بورقيبة ما بين 1980 و1981 بعد تعيين الليبرالي محمد مزالي رئيسا على رأس الوزارة الأولى وموافقة بورقيبة على التعددية الحزبية والانفتاح السياسي.. وكانت وسيلة وقتها تدعم بورقيبة في توجهه الانفتاحي تحت تأثير عواصم صديقة حسب شهادات بعض وزراء بورقيبة وقتها مثل الطاهر بلخوجة.
لكن قائد السبسي نشر مذكراته مع بورقيبة وحرمه وسيلة في كتاب من الحجم الكبير عام 2009 تحت عنوان «البذرة الصالحة والزؤام» نفى فيه ما سبق أن نسب إليه بكونه كان المقرب دوما إلى وسيلة وأطنب في تفسير علاقاته المباشرة بالزعيم الحبيب بورقيبة شخصيا.
وفي كل الحالات يعتبر الكاتب والإعلامي نور الدين بالطيب في هذا السياق أنه يمكن وصف الباجي قائد السبسي ببورقيبة ديمقراطي إذا سلمنا جدلا بكون العقود الأولى من حكم بورقيبة تميزت بالاستبداد إلى جانب نجاح تونس خلالها في بناء دولة حديثة خصصت ثلث موازنتها للتعليم والثقافة مثلما ورد في دراسة أعدها الباحث الجامعي والمؤرخ سعيد بحيرة عن «الهوية والدولة الوطنية في تونس».

* تلميذ بورقيبة

* ويعتبر الباحث الجامعي والمؤرخ عبد الجليل التميمي - الذي يرأس مركز دراسات جامعية أعد كتبا عن مسيرة بورقيبة الإنسان والسياسي وعن غالبية المقربين منه ووزرائه - أن من بين نقاط القوة عند الباجي قائد السبسي أنه كان تلميذا لبورقيبة منذ أن بلغ الـ16 من عمره.. أي منذ عام 1941 وقبل أن يسافر إلى جامعة السوربون في فرنسا ليدرس العلوم القانونية والحقوقية مثل بورقيبة وعدد من زعامات الحركة الوطنية التونسية وبينهم الأمين العام للحزب صالح بن يوسف ويعود من باريس محاميا مثلهم.
ويسجل الجامعي والقيادي في حزب نداء تونس المنصف عاشور - وهو من رموز اليسار التونسي سابقا - أن انتخاب قائد السبسي أعاد التونسيين إلى حضن الزعيم بورقيبة لن «سي الباجي» انتمى منذ عام 1941 إلى حركة التحرر الوطني مثل شباب جيله وتحديدا إلى «الحزب الحر الدستوري» الذي تزعم نضالات التونسيين ضد الاحتلال الأجنبي.

* البذرة الصالحة والزؤام

* لكن بعض معارضي قائد السبسي وخصومه - مثل المحامي والحقوقي العياشي الهمامي والمحامية سامية عبو - يعتبرون أن «رصيد قائد السبسي مع بورقيبة وبن علي ورقة تستخدم ضده وتؤكد تورطه في منظومة الاستبداد والفساد». ويعتبر هؤلاء أن إشراف قائد السبسي على الإدارة العامة للأمن الوطني ثم على وزارتي الداخلية والحكومة أثناء قمع بورقيبة معارضيه «ورقة إدانة ضد السبسي لأنه ينبغي التمييز بين بورقيبة الزعيم الوطني ضد المحتل وصاحب المواقف التقدمية في مجال تحرير المرأة وبورقيبة الديكتاتور».
إلا أن قياديين في حزب نداء تونس - مثل الكاتب والمفكر خالد شوكات - يعترضون على الإساءة إلى زعيمهم حاضرا وماضيا بما في ذلك فيما يتعلق بمواقفه من التعددية والديمقراطية في عهد بورقيبة ويستدلون بكونه من بين مؤسسي أولى صحف المعارضة في السبعينات مثل « الرأي» و«الديمقراطية» وكان ضمن الفريق الذي أسس نواة أول حزب معارض لبورقيبة - حزب الديمقراطيين الاشتراكيين - رغم انسحابه المبكر منه بسبب خلافات مع بعض رفاقه المؤسسين.

* العلاقات الخارجية

* في سياق متصل يعتبر الباجي قائد السبسي أن أبرز نجاحاته كانت مسيرته الدبلوماسية، لا سيما عندما تولى حقيبة الخارجية ما بين 1980 و1986 وترأس تحركات الدبلوماسية التونسية في مجلس الأمن الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) 1985 بعد الغارة الإسرائيلية على مقر القيادة الفلسطينية بتونس. وقد اعتبر امتناع واشنطن وقتها عن استخدام حق النقض « انتصارا للدبلوماسية التونسية وللباجي قائد السبسي شخصيا»، خصوصا أن بورقيبة هدد وقتها بإغلاق السفارة الأميركية بتونس في صورة استخدام الإدارة الأميركية حق النقض.
وحاليا تعلق قيادات سياسية وشخصيات مستقلة كثيرة آمالا واسعة على شبكة العلاقات الدولية لقائد السبسي خلال رئاسته للحكومة الانتقالية من مارس (آذار) إلى ديسمبر (كانون الأول) 2011.
وكان قائد السبسي خلال تلك المرحلة شارك بصفة مراقب في قمة الدول العظمى في فرنسا والتقى بالمناسبة الرئيس الأميركي أوباما وكبار قادة العالم ودافع عن مقولة «تطابق الإسلام والفكر العربي مع التعددية والديمقراطية»، وعن «توظيف الدبلوماسية الاقتصادية في خدمة مصالح دول الجنوب وبينها تونس».
ولئن توترت علاقات تونس بالجزائر والقاهرة وبعض العواصم العربية نسبيا خلال حكم الترويكا فإن الرهان الأكبر اليوم بالنسبة لتونس في عهد قائد السبسي والحكومة الجديدة إصلاح الأخطاء القديمة وتفعيل الشراكة العربية العربية، على حد تعبير محمود بن رمضان القيادي في حزب نداء تونس، الذي أعلن أن الرئيس الجديد يراهن على توظيف الدبلوماسية التونسية في ترفيع الشراكة والاقتصادية مع الدول الخليجية والأوروبية دعما للاقتصاد التونسي الذي يواجه صعوبات حقيقية.

* الخوف من عودة الاستبداد

* في الأثناء تبدو تونس مقسمة في تقييمها بين مرحبين بعودة البلاد إلى حضن «الزعيم بورقيبة» عن طريق «الأب الكبير قائد السبسي» - مثلما أورد الإعلامي والكاتب صالح الحاجة - ومتخوفين من عودة رموز الفساد والاستبداد من مسؤولي النظام السابق الذين انخرط أغلبهم في حزب نداء تونس «ردا على تغول الإسلاميين وحلفائهم من اليساريين الراديكاليين».
لكن زعامات تيارات إسلامية كثيرة وبينها قيادات في حزب حركة النهضة - مثل رئيسه راشد الغنوشي - تعارض منذ مدة التخوفات من عودة الاستبداد مع قائد السبسي. وقد أدلى الغنوشي قبل الاقتراع العام وبعده بتصريحات مساندة سياسيا لقائد السبسي حاولت طمأنة التونسيين باستحالة العودة إلى الاستبداد في بلد مثل تونس انتخب برلمانا تعدديا وصادق على دستور توافقي وانتخب شخصية ديمقراطية توافقية مثل قائد السبسي على رأس الدولة. في هذا المناخ العام من التفاؤل يتطلع غالبية التونسيين إلى أن ينجح قائد السبسي في تحقيق وعوده ووعود حزبه الانتخابية وبينها تشكيل حكومة لا تقصي أي طرف سياسي ومعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة في البلاد منذ أعوام.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».