من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية

من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية
TT

من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية

من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية

أصبحت القرم اليوم كما كانت منذ 160 عاما بالتمام والكمال مركزا للاهتمام الدولي رغم تغير الظروف، فقد اندلعت حرب القرم عام 1854 بين روسيا من ناحية وكل من الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا وبعض الحلفاء الأوروبيين غير المؤثرين من ناحية أخرى، فكانت أول حرب كبرى منذ الحروب النابليونية كما أنها مثلت أول تحد حقيقي لتوازن القوة الأوروبية منذ اتفاقية فيينا الشهيرة في 1815، فلقد وضعت هذه الاتفاقية نوعا من التوازن كما ذكرنا في مقالات سابقة، بحيث لا تستطيع أي دولة أوروبية الانفراد بالسلطة والنفوذ في النظام الإقليمي الأوروبي، فمنحت روسيا قسطا من الأراضي في شرق القارة ونفس الشيء للنمسا في هذه المنطقة وفي الجنوب، وأعادت فرنسا الثورية المتوسعة إلى عهدها السابق دون القضاء عليها، ومنحت بريطانيا بعض الامتيازات البحرية حول القارة لتضمن مثل هذا التوازن، وقد استمرت أوروبا تنعم بالسلام النسبي، ولكن الدولة العثمانية ظلت نقطة الضعف الأساسية في هذا النظام، فلقد بدأت عناصر الضعف تضربها بقوة، ولكن القوى الأوروبية رأت الإبقاء عليها كما هي بلا أي تعديلات في حدودها خاصة الأوروبية والتي كانت تقدر بنحو 284 ألف كيلومتر مربع في شرق القارة الأوروبية، حيث رئي أن أي فراغ سياسي في هذه المنطقة كان من شأنه أن يخلق حالة تنافس وصراع بين القوى الكبرى في القارة. ولذا فمن أجل الإبقاء على التوازن السياسي في هذا الجزء من المسرح السياسي، لذلك قرر الساسة الأوروبيون الإبقاء على الدولة العثمانية كما هي دون أي تغيير مع عدم السماح لروسيا بالاستيلاء على المضايق العثمانية (البسفور والدردنيل) أو تهديد الملاحة في المتوسط.
على الرغم من ذلك، فإن روسيا رفضت هذه السياسة حيث كانت لها مطامعها في الدولة العثمانية خاصة في شرق أوروبا، وكانت عيناها معقودتان على المضايق التركية لمنافسة بريطانيا وفرنسا في المتوسط، وبالتالي فإن محاولات روسيا تحقيق هذا الهدف لم تكن لتخفى مدة طويلة، فسرعان ما بدأ القيصر الروسي نيقولا الأول يستعد لبدء مغامرته مع الدولة العثمانية، حيث استدعى السفير البريطاني في سان بطرسبورغ وبدأ مفاوضاته مع لندن لمحاولة إعادة توزيع التوازن شرق النظام الأوروبي من خلال اقتراح مباركة استيلاء بريطانيا على مصر وكريت مقابل استيلاء روسيا على المقاطعات العثمانية في شرق أوروبا، وهنا أطلق وصفه الشهير على الدولة العثمانية والذي أصبح فيما بعد رمزا سياسيا مهما عندما نعتها بأنها «رجل أوروبا المريض»، ولكن بريطانيا لم تكن على استعداد لإعادة توزيع التوازن داخل النظام، وأصبح الأمر متروكا للقيصر لحسم مستقبل الصراع الخفي، فأعلن الرجل عام 1853 الحرب على الدولة العثمانية وعبرت جيوشه إلى شرق أوروبا لبدء الحرب، كذلك قام بتقوية أسطوله في البحر الأسود تحت قيادة قائده Nikimov ووجهه للاشتباك مع الأسطول العثماني والذي لقي هزيمة قاسية في معركة «سينوب» الشهيرة والتي كان من نتائجها منح روسيا السيطرة الكاملة على هذا البحر الاستراتيجي، وهو ما لم يكن مقبولا للقوى الأوروبية الأخرى.
وعند هذا الحد لجأت بريطانيا وفرنسا والنمسا لمحاولة السيطرة على الوضع دون جدوى فلقد كانت روسيا عاقدة العزم على تحقيق حلمها، فباتت الحرب وشيكة خاصة وأن التحالف الغربي لم يكن بلا أهدافه أو مطامعه أيضا، فلقد كانت بريطانيا عاقدة العزم على منع الروس من السيطرة على المضايق بأي ثمن حتى لا تنافسها روسيا في المتوسط، كذلك فإن الاستفزازات الروسية مثلت في حقيقة الأمر قضية صارت لها أبعادها الداخلية تؤثر مباشرة على الرأي العام الداخلي والذي كان يتشوق لحرب مع روسيا، أما فرنسا فلقد كان الوضع مختلفا بعض الشيء، فلقد مثلت هذه الحرب فرصة مواتية لإمبراطورها الجديد «نابليون الثالث» ابن أخ نابليون الكبير لإثبات الذات بعدما أصبح حاكما لفرنسا، فلقد كان الرجل يريد أن يثبت لكل الفرنسيين أنه جدير بلقب الأسرة، فكان في حاجة إلى حرب لإثبات هذا الأمر، وذلك على الرغم من أنه أعلن مرارا وتكرارا على الرأي العام أن بناء الإمبراطورية الفرنسية سيكون من خلال السلام لا الحرب، وقد عقب المفكر الفرنسي العظيم «أليكسيس دي توكفيل De Toqueville» على سلوك الإمبراطور الفرنسي بجملة شهيرة قال فيها «... كل آرائه وشعاراته وحتى مؤامراته مستعارة من أسوأ المنابع... وقد يكون من المفيد له أن ينسى تاريخ عمه»، ولكن الرجل لم يتغير ولم ينس تاريخ عمه، وكان يحتاج لحرب ينتصر فيها، ناسيا أنه ليس عمه ولا يملك ولو جزءا صغيرا من مقوماته العسكرية وبدرجة أقل السياسية.
إزاء تجمع كل هذه العوامل، فإنه كان من المتوقع أن تبدأ العمليات العسكرية لدول التحالف في أي لحظة، وتمثلت القشة التي قسمت ظهر البعير في الخلاف الفرنسي - الروسي على رعاية الأماكن المقدسة في القدس والتي كانت جزءا من ممتلكات الدولة العثمانية، فلقد استغلت روسيا إحدى الفقرات الخاصة باتفاقية بينها وبين الدولة العثمانية لتفرض حمايتها على الأقليات الأرثوذكسية فيها، ولكن الإمبراطور الفرنسي رأى في بلاده حامية الأقليات الكاثوليكية في الدولة العثمانية، ورفض إخضاع هذه الأماكن للحضانة الروسية، وعندما فشلت المفاوضات بين روسيا من ناحية وفرنسا وبريطانيا والنمسا من ناحية أخرى، وتوغلت قوات القيصر في شرق أوروبا، أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا في مارس (آذار) 1854 التضامن مع الدولة العثمانية ودخلت في الحرب في صفها لوقف العدوان الروسي، لتبدأ حربا من أغرب الحروب في التاريخ الأوروبي الحديث كما سنرى.
لقد وصل الأسطولان الفرنسي والبريطاني إلى إسطنبول لحماية المضايق كخطوة أولى، وكانت جيوش الحلفاء تستعد لدخول شرق أوروبا في محاولة لتقديم العون للجيش العثماني الذي بدأ حربه على حدوده الشرقية مع روسيا، ولكن الجيش العثماني تحت قيادة «عمر باشا» استطاع أن يوقف الزحف الروسي قبل وصول الدعم العسكري الأوروبي بعد معارك فاصلة اضطرته للعودة خلف حدود نهر الدانوب، وقد سجل الكاتب العظيم «ليو تولستوى» الذي شارك في هذه الحرب بعض ملامح هذه المعارك كما استغل هذه الحرب ليكتب 3 روايات جديدة، وأصبح على جيش وأسطول التحالف أن يقرر خطوته التالية، فكان القرار المشترك بنقل مسرح العمليات إلى القرم في البحر الأسود لتحقيق الهدف المشترك الثاني بتقليم أظافر روسيا بحريا في هذا البحر المهم حتى لا تمثل تهديدا لهما ولتجارتهما وللدولة العثمانية على حد سواء.
حقيقة الأمر أن جزءا كبيرا من سوء التخطيط لهذه الحرب من قبل الحلفاء يكمن في ضعف القيادة البريطانية ممثلة في «لورد راجلان Raglan» والذي لم يكن على دراية كاملة بالطوبوغرافيا الخاصة بشبه جزيرة القرم، كما أنه لم يدرك أيضا خطورة انتشار وباء الكوليرا بين جنوده وأن الجيش غير مستعد للدخول في معركة بلا وجود إمدادات كافية أو حتى خطة واضحة المعالم قابلة للتنفيذ، ولكن الغطرسة وضغط الرأي العام البريطاني جعلاه يندفع نحو فتح جبهة جديدة في صراع بحري وأرضي هو غير مؤهل لدخوله دون التجهيزات اللازمة، وأن الانتصار كان سيأتي بثمن باهظ للغاية، خصوصا مع تواضع قدراته القيادية والعسكرية كما سنرى.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.