رغم أن الأقليات الدينية والعرقية تبدو هي الضحية المباشرة للصراعات السياسية والمذهبية في العراق لكنه وطبقا لما يراه الباحثون المتخصصون في هذا الشأن فإن العراق كبلد عرف بتنوعه الديني والإثني والمذهبي سيكون هو الخاسر الأكبر بسبب نهاية مبدأ التنوع الذي عرف به وبداية التقسيم الحقيقي للبلد. وإذا كانت دموع النائبة في البرلمان العراقي عن الطائفة الإيزيدية فيان دخيل وهي تجهش بالبكاء على أثر ما جرى للإيزيديين في جبل سنجار بعد احتلال تنظيم داعش للموصل وامتداده إلى كافة مناطق التنوع الجغرافي والإثني هناك وما تعرضوا له من جرائم كبرى قد نبهت العالم إلى حقيقة ما يجري لهذه الطائفة إلا أن الحقيقة التي تبدو غائبة حتى الآن أن مستقبل العراق كبلد متنوع حتى بمكوناته الكبرى الأساسية الـ3 «الشيعة والسنة والأكراد» بات في خطر حقيقي.
الباحث في شؤون الأقليات في العراق سعد سلوم يلخص هذه المأساة السياسية والمجتمعية في حديث لـ«الشرق الأوسط» قائلا إن «العراق بعد عام 2003 انتقل من دولة الأمة إلى دولة المكونات وقد تم تقسيم المجتمع العراقي إلى أغلبيات وأقليات أو مثلما أسميها أنا جماعات كبرى وأقليات وأقصد بالجماعات الكبرى الأكراد والشيعة والسنة التي بدأت صراعا مفتوحا لتقاسم السلطة والثروة بينما بقيت الأقليات خارج لعبة التقاسم هذه». ويمضي سلوم في شرح أبعاد ما حصل وتوابعه ونتائجه المستقبلية قائلا إن «ما ترتب على ذلك أمر في غاية الخطورة وهو ما يمكن أن أسميه إعادة الانتشار بحيث تكون هناك هويات صافية وليست متنوعة مثلما كان عليه الأمر في الماضي»، معتبرا أن «التنوع هو صمام أمان ضد مخطط تقسيم العراق وبالتالي فإنه إذا كان التنوع عاصما من التفكك فإن نهاية هذا التنوع تعني نهاية العراق كبلد موحد في المستقبل وقد لا يبدو هذا المستقبل بعيدا من منطلق أن الحديث عن التقسيم حتى لو كان بمسميات تبدو طبيعية لأول وهلة مثل الفيدراليات وغيرها لم يعد الآن أمرا غير طبيعي مثلما كان عليه الأمر من قبل بل حتى قبل سنوات قلائل حين كان هناك مستوى من التنوع آخره كان سهل نينوى». ويضيف سلوم أن «الأقليات في العراق دفعت الثمن المباشر للصراع بين الكبار الـ3 الذين وزعوا السلطة حتى ببعدها الرمزي بينهم (الجمهورية والوزراء والبرلمان) بحيث أصبحت حكرا على السنة والشيعة والأكراد ولكن هؤلاء الكبار سوف يدفعون الثمن الأكبر في المستقبل وهو عدم وجود عراق موحد». لكن العراق لا يزال يصنف على أنه من أكثر البلدان العربية تنوعا بالأعراق والأديان والطوائف القديمة والحديثة. فهناك الصابئة المندائيون إلى جانب المسيحيين من السريان الاراميين والكلدان والآثوريين والإيزيديون. ومن حيث التنوع فإن الأقليات الدينية والعرقية في العراق لا تشكل سوى أقل من 3 في المائة من سكان العراق غير أنه طبقا لمدونات التاريخ فإن مساهمتهم في الميادين والمجالات المختلفة السياسية والفكرية والاقتصادية والإبداعية أكبر بكثير من هذه النسبة العددية التي تناقصت كثيرا خلال السنوات الأخيرة وازدادت وتيرتها الآن بعد التاسع من يونيو (حزيران) 2014 عندما احتلت «داعش» الموصل والتي يعدها الباحث العراقي سعد سلوم في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بمثابة «المعادل العراقي لأحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة الأميركية».
اضطهاد الكبار وتعايش الصغار!!
رغم كل ما كان يقال عن المظلوميات بحق أقوام ومكونات وأديان عراقية خلال الحقب الزمنية السابقة لا سيما حقبة البعث التي استمرت نحو 35 سنة (1968 - 2003) فإن المفارقة الكبرى أن مفهوم الاضطهاد والإقصاء والتهميش تغير كثيرا بين زمنين. ففي تلك الحقبة كان الشعور السائد بالاضطهاد يشمل مكونين أساسيين من المكونات الـ3 التي يتشكل منها المجتمع العراقي وهما الشيعة والأكراد حين كانت السلطة توصف بأنها سنية الطابع. وبينما كان الحكم في العراق منذ عام 1921 وحتى سقوط النظام العراقي السابق عام 2003 كان يدافع عن فكرة قوامها أن العراق كان دولة أمة. لكن بعد عام 2003 أصبح العراق دولة مكونات. وبينما وجدت الأقليات في الحقب الماضية نوعا من التعايش مع الكبار بسبب قوة السلطة والقانون فإن شعور الشيعة والأكراد من تهميش وإقصاء وظلم إنما هو ناتج عن عدم حصولهم على ما يوازي حجمهم على صعيد السلطة بكل تفرعاتها. لكن بعد عام 2003 ومع تغيير معادلة السلطة والدولة إلى دولة المكونات فإن الأقليات بقيت على الهامش لا سيما بعد أن باتت حجوم الكتل تحسب نتائجها على أساس ما يحصلون عليه من مقاعد نيابية تحدد حصة كل مكون من الوزارات والمؤسسات وما يترتب عليها من مغانم ومغارم. وفي الوقت الذي فتك فيه الإرهاب لا سيما إرهاب «القاعدة» بجميع العراقيين طوال السنوات الماضية فإنه كلما طورت «القاعدة» أساليب عملها وصولا إلى «داعش» التي أعلنت الخلافة الإسلامية فإن الأقليات هي التي نالها النصيب الأوفر من هذا الاضطهاد رغم التعاطف الدولي معها. لكن هذا التعاطف اتخذ شكلا واحدا يكاد يكون هو الأبرز وهو تشجيع الهجرة والنزوح وهو ما يعني إفراغ العراق من سكانه الأصليين (المسيحيون والصابئة والإيزيديون سكنوا العراق منذ آلاف السنين وبنوا حضارات كبرى مثل سومر وأكد وآشور).
سهل نينوى.. الآمال الضائعة
طبقا للتوزيع الديمغرافي للأقليات الدينية والعرقية في العراق فإن المناطق الشمالية من البلاد تكاد تكون هي المعقل الرئيسي لا سيما المسيحيون (الكلدان والآشوريون) والإيزيديون بينما يتركز وجود الصابئة المندائيون (تقدر أعدادهم الآن بأقل من 300 ألف نسمة) في المنطقتين الوسطى والجنوبية. وبينما كانت هذه الأقليات تحث الخطى نحو تشكيل محافظة في منطقة سهل نينوى تحت اسم «محافظة سهل نينوى» مثلما تم الإعلان عنه العام الماضي فإن ذلك كان قد جاء في إطار البحث عن منطقة آمنة لهذه الأقليات مما يعانونه من اضطهاد الكبار لهم وذلك بغمط حقوقهم وعدم منحهم ما ينسجم مع مكانتهم وأهميتهم من حقوق. ومع أن عمليات تفجير كنائسهم وأماكن عبادتهم كانت جزءا من استراتيجية تنظيم القاعدة في إفراغ البلاد من هذه المكونات الأساسية فإنه مع سيطرة تنظيم داعش على غالبية المحافظات الشمالية والغربية وفي المقدمة منها الموصل في العاشر من يونيو 2014 فإن كل ما عملته «القاعدة» بحق هذه الأقليات لم يكن إلا جزءا يسيرا مما فعله «داعش» أو يخطط لفعله. لأن عمليات الحرق والتفجير كانت قد طالت جميع الطوائف العراقية ولم تقتصر على أقلية أو أكثرية. لكن استراتيجية «داعش» مع الأقليات في العراق تبدو مختلفة بالكامل لأنها تقوم على منطق الإبادة الشاملة. عضوة البرلمان العراقي عن المكون الإيزيدي فيان دخيل تلخص هذه المأساة في حديثها لـ«الشرق الأوسط» بالقول إن «ما حصل للإيزيديين في العراق لم يحصل على مر التاريخ». وتضيف دخيل التي نجت من موت محقق حين سقطت الطائرة التي كانت تقلها عند اصطدامها بجبل سجنار حيث كانت تنقل مواد إغاثة أن «الشعب العراقي بكل طوائفه ومكوناته وقومياته تعرض إلى أعتى الهجمات الإرهابية من الشمال إلى الجنوب، لكن ما حصل للإيزيديين لم يحصل على مر التاريخ»، مشيرة إلى أن «النساء الإيزيديات يبعن الآن بالأسواق في سوريا والموصل». وتقول دخيل أيضا إن «على الأحزاب والكتل السياسية أن تنتبه لهذه المشكلة فالعراق ينهار وهناك شعب يباد ويمحى فيما هم ينشغلون بالحكومة ومن يترأس هنا وهناك».
وفي إطار البحث عن المناطق الآمنة والأخرى الأكثر أمنا في بلاد لم يعد فيها مكان آمن لمكون أو طائفة أو عرق أو دين فإن النائب في البرلمان العراقي عن الصابئة المندائيين خالد الرومي ينظر للمسألة من زاوية نسبية حيث يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إنه «ليس لدى الصابئة المندائيين وجود كثيف في المناطق الشمالية من العراق على غرار المسيحيين والإيزيديين والشبك وبالتالي فإن مخاوفنا كأقلية تتركز الآن بشأن ما إذا كان (داعش) سيتمدد إلى مناطقنا الوسطى والجنوبية، حيث لنا وجود كبير على قلته في بغداد والمحافظات الجنوبية مثل العمارة»، موضحا أن «لدينا عائلة صابئية واحدة في الموصل تمكنت من الخروج قبل أن تحصل التداعيات الأمنية بالكامل كما كانت لدينا عائلتان في الفلوجة وقد تمكنتا من النزوح قبل احتلال داعش الفلوجة». وأشار الرومي إلى أن «وضع الأقليات في العراق قبل عام 2003 اختلف كثيرا عن وضعها الحالي في إطار مفارقة لافتة للنظر، حيث إنه في الوقت الذي كانت فيه تعيش في أمان طالما إنها لا تخالف النظام رغم أنها كانت مهمشة أيضا إلا أنها اليوم ومع ظواهر الانفتاح والديمقراطية والحديث عن نيل الحقوق تدفع ثمن مواطنتها مرتين، مرة بتعرضها إلى الاضطهاد العرقي والديني والذي تحول الآن إلى شبه إبادة جماعية وثانيا عدم مشاركتها في القرار السياسي». وبشأن وجودهم في السلطة الآن يقول الرومي إن «الصابئة المندائيين لديهم مقعد واحد في مجلس النواب، ومثله في مجلس محافظة بغداد»، مبينا أن «النائب الواحد لا يتمكن من تلبية متطلبات واحتياجات المكون الذي ينتشر في 14 محافظة عراقية». ويرى الرومي أن «تخصيص المقعد الواحد تم من قبل القادة السياسيين للكتل الكبرى وطالبنا أكثر من مرة بزيادة عدد المقاعد إلا أننا لم نتلق أي استجابة من رئاسة البرلمان ومن رؤساء الكتل الكبرى». وأشار إلى أن «النائب الواحد يعاني معاناة كبيرة داخل مجلس النواب لأنه يمثل مكونا كبيرا له متطلباته واحتياجاته ويعمل على تلبيتها، بالإضافة إلى الصعوبات التي نواجهها داخل مجلس النواب»، موضحا أن «التنقل بين 14 محافظة أمر صعب للغاية». وبين أن «أعباء كبيرة تقع على النائب الذي يمثل الصابئة المندائيين داخل مجلس النواب من خلال عمله في اللجنة المختصة واللجان الفرعية الأخرى والعمل على تشريع القوانين التي تهم الصابئة والأوقاف والتواصل مع رؤساء الكتل والنشاطات الاجتماعية الأخرى كل ذلك يشكل عبئا على النائب الذي يعمل بمفرده على خلاف الكتل النيابية الأخرى التي تمتلك أعدادا كبيرة من النواب». وبالعودة إلى منطقة سهل نينوى التي أريد لها أن تكون محافظة حامية لفكرة التنوع الديني والعرقي في العراق فقد بدت وكأنها هدف أول لتنظيم داعش عندما اجتاح الموصل في العاشر من يونيو الماضي. وجغرافيا تقع هذه المنطقة إلى شمال وغرب مدينة الموصل. وتتألف من 3 أقضية هي الحمدانية والشيخان وتلكيف. ويعتبر السهل الموطن التاريخي لمسيحيي العراق، وهم يشكلون النسبة الأكبر منه إلى جانب وجود الإيزيديين والتركمان والشبك والعرب. كما أن هناك وجودا للكنائس العراقية الرئيسية في هذه المنطقة وهي الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، الكنيسة السريانية الكاثوليكية، وكنيسة المشرق القديمة وكنيسة المشرق الآشورية. وتحولت منطقة سهل نينوى إلى نقطة تجمع مسيحيي العراق بعد فرارهم من المناطق الساخنة في بغداد وجنوب ووسط العراق قبل عدة سنوات. ويعد سهل نينوى من المناطق المتنازع عليها بحسب المادة 140 من الدستور العراقي. وبسبب «داعش» فقد تبددت الآمال الضائعة باستحداث محافظة إلى مسعى لإقامة منطقة آمنة من قبل الأمم المتحدة لحماية هذه الأقليات. ويرى رئيس كتلة الرافدين المسيحية في البرلمان العراقي يونادم كنا في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أنهم «كانوا قد خطوا خطوات مهمة على صعيد توفير المنطقة الآمنة في سهل نينوى، فقد سلموا مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لكن الأمور تغيرت بعد احتلال داعش»، منتقدا سلوك المجتمع الدولي «حيال ما تتعرض له الأقليات في العراق حيث لم يحرك ساكنا، واكتفى ببيانات الشجب والاستنكار التي لا تقدم ولا تؤخر». أما عضو البرلمان العراقي عن المكون المسيحي عماد يوخنا فيقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك عجزا وصمتا دوليين حيال ما جرى وما يجري للمسيحيين ولباقي الأقليات العرقية والدينية في العراق»، معتبرا أن «هذه المكونات تعايشت على مدى آلاف السنين ولم يحصل لها مثل ما يحصل اليوم لأن هناك تجانسا مجتمعيا وثقافيا داخل العراق وبالتالي فإن ما يحصل لنا اليوم ليس بعيدا عن نظرية المؤامرة لإفراغ العراق من سكانه الأصليين». وانتقد يوخنا «تأخر القوى السياسية وأطراف كثيرة بمن فيها أطراف سياسية ومجتمعية في الموصل عن التنديد والإدانة لأن ما يحصل للمسيحيين وللإيزيديين والشبك يشمل الجميع في النهاية. من جهتها فإن تقارير المنظمات الدولية تطرح مشكلات أساسية في هذا الخصوص حيث ترى منظمة «هيومان رايتس ووتش» أن «الأقليات الإثنية والدينية في العراق التي تشكل 10 في المائة من مجموع سكان البلاد، ضحية عنف غير مسبوق قد يؤدي إلى زوالها»، مشيرة إلى أنها «تواجه درجات من العنف غير مسبوقة، وهي مهددة في بعض الحالات بالزوال من وطن أجدادها». وبحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن 50 في المائة تقريبا من المسيحيين العراقيين، الذين يقدر عددهم بمليون في آخر إحصاء لسنة 2003. يحتمل أنهم غادروا البلاد إلى البلدان المجاورة، بينما استطاع الآخرون الفرار إلى الدول الغربية من أجل الانضمام إلى عائلاتهم الكبيرة هناك، تاركين وراءهم أنقاض أكثر من 30 كنيسة دمرها الإرهاب.
الأقليات في العراق.. وبداية دولة المكونات
تبدو الضحية المباشرة للصراعات السياسية والمذهبية.. لكن البلاد هي الخاسر الأكبر
الأقليات في العراق.. وبداية دولة المكونات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة