إنها الدورة الأولى لجائزة بوكر مان بعد التغييرات التي أدخلت على نظامها الداخلي، فجرى توسيع جغرافيتها فشملت بلدانا مثل تايلاند، وإيطاليا، وكالكوتا، التي رشح كتاب منها للقائمة الطويلة والقصيرة، والتي أثارت اعتراضات واسعة. وكانت النتيجة التي أعلنت ليلة أمس في احتفال نظمته لجنة الجائزة في العاصمة البريطانية، فوز الكاتب الأسترالي ريتشارد فلاناغان عن روايته «الطريق الضيق إلى عمق الشمال»، وهكذا بقيت الجائزة ضمن دول الكومنولث.
عنوان الرواية «الطريق الضيق إلى عمق الشمال»، مستوحى من هايكو للشاعر الياباني الشهير باشوا، وهي تدور حول تجربة طبيب جراح، دوريغو إفانس، جرى أسره أثناء الحرب العالمية الثانية في معسكر ياباني. ويصبح هذا الأسير بطلا وطنيا في أستراليا بعد مواجهاته البطولية مع آسريه اليابانيين. وهناك يقابل فتاة «ذات عيون متوهجة»، اسمها آمي، لكنه كان حبا مستحيلا، بسب الحرب «التي تضغط عليهما، تعيقهما، تحطمهما». لكن دوريغو، بعد مرور زمن على الاحتفالات الصاخبة ونسيان الناس له، سيجد نفسه وحيدا مع ذكرياته، مسترجعا تلك الأحداث الرهيبة التي مر بها مع رفاقه الأسرى، متحسرا على أن «الجلادين لم يحاسبهم أحد، وفلتوا بجرائمهم»، غير أنه سيترفع عن زمنية تلك الأحداث وأمكنتها، طارحا أسئلته الكبرى حول الحياة والوجود والعنف والحضارة التي أنتجت العنف، لكنه أصبح أكبر منها. صحيح، إن الحرب انتهت بالنسبة دوريغو بالمعنى العسكري، وأغلق معسكر الاعتقال الياباني، لكنهما مستمران على المستوى الذهني والنفسي، والضحايا لم يتعافوا، ولن يتعافوا قط، ولكنهم لم يهزموا، وسيترفعون بقوة الروح والتأمل إلى ما فوق مستوى الفجيعة التي صنعها الآخرون لهم. هذه هي رسالة الرواية، إذا صح التعبير. إنها دراسة في الطبيعة البشرية، بخيرها وشرها، أكثر من كونها رواية حول الحرب، وإن كانت تبدو كذلك من السطح.
وفلاناغان هنا يستلهم حياة أبيه، المهداة الرواية له. ارتشى فلاناغان، الذي وقع أسير حرب أثناء الحرب العالمية الثانية، وأجبر على العمل في مشروع سكة الحديد نفسه، الذي بات يعرف «سكة الموت»، وكان الغرض منها أن تربط بين بورما وتايلاند. ومن المفارقة، أن الأب الذي نجا من الحرب، مات عن 98 عاما، بعد يوم واحد من انتهاء ابنه من رواية قصته، بعد أن اتصل وتأكد من انتهاء الرواية، كما يذكر فلاناغان نفسه.
وبهذا يكون فلاناغان قد انتزع الجائزة من البريطاني هاوارد جاكوبسون، وهو صحافي يعمل في جريدة «الإندبندت» البريطانية، وكان مرشحا بقوة للفوز بها عن روايته «جي»، الصادرة عن دار جوناثان كيب، بالإضافة إلى روائيين من أميركا هما: جوشوا فريس عن روايته «لكي تنهض ثانية في وقت ملائم»، الصادرة عن دار «فايكنغ» البريطانية، والروائية كارين جوي فولر عن روايتها «نحن تماما خارج السيطرة»، الصادرة عن «سيربنت تيل»، بلندن، ونيل موخرجي، عن روايته «حياة الآخرين»، تتشادو وويندوس، والروائية إلى سميث عن «كيف تكون كلاهما»، الصادرة عن هاميش هماملتون.
وهي المرة الثالثة التي يفوز بها كاتب أسترالي في تاريخ الجائزة الذي بدأ منذ نحو 64 عاما، بعد توماس كينيلي وبيتر كيري، الذي فاز بها مرتين.
والسؤال الآن، الذي يثار بعد إعلان كل جائزة كبرى، هل يستحق فلاناغان الجائزة؟ يقول عن نفسه بأنه ليس كاتبا جيدا، لكنه جيد في إعادة الكتابة. وبالفعل، أعاد كتابة روايته هذه 7 مرات، واستغرقت منه 11 عاما. ويذكر أنه كان قد قرر أن يترك الكتابة فعلا ويعمل في المناجم، بعد أن تملكه اليأس من إنجاز عمل مهم، وبسبب فقره أيضا، على الرغم من أنه حقق شهرة ملحوظة بعد إصداره روايتها الأولى «موت دليل نهري»، 1994، التي وصفها الملحق الأدبي لجريدة «التايمز» البريطانية في حينها بأنها «من أفضل الأعمال الأولى في الأدب الأسترالي». ولكنه نجح هذه المرة في تقديم رواية «تقطع الأنفاس»، كما عبر رئيس لجنة التحكيم الفيلسوف البريطاني إي سي غريلنغ. إنها رواية الحرب والحب، اللذين يرسمان منذ الأزل مصائرنا البشرية، ويتجاوزان حدود الزمن والجغرافيا. ومن هنا خاطب الرواية الإنسان أينما كان. فالتراجيديا التي تولدنا الحروب المجنونة، كالحرب العالمية الثانية التي تعكس أحداثها الرواية، من خلال ذلك المشروع السيئ الصيت، مشروع سكة حديد بورما - تايلاند الذي سخر اليابانيون أسرى الحرب لبنائه الحرب، لا تزال موجودة في كل مكان بأشكال مختلفة. الطريق الضيق هو الطريق نحو الجحيم، لكنه في الوقت نفسه، هو طريق الخلاص الإنساني، بمعنى أنه طريق يوحد المصائر الإنسانية، فوق الانتماء الوطنية والهويات المتصارعة، في كفاحها ضد الآثام التي يصنعها الإنسان لنفسه.
ومن المعروف، أن جائزة «بوكر مان» هي من أهم الجوائز العالمية المخصصة للرواية، على الرغم من قيمتها المادية المتواضعة نسبيا، إذ لا تبلغ سوى 50 ألف جنيه إسترليني، لكن قيمتها الأدبية كبيرة جدا، مما يحقق للفائزة أو الفائزة بها، وحتى المرشحين لها ضمن القائمة القصيرة، شهرة عالمية واسعة، وكذلك مبيعات جيدة في سوق الكتب.
ويبدو أن فلاناغان الفقير حقا كان سعيدا بشكل خاص بما ستوفره له الجائزة من اطمئنان مادي يساعده على الاستمرار في الكتابة كما قال.
ولد ريتشارد فلاناغان عام 1961، وتعود عائلته لأصول آيرلندية. ترك دراسته عام وعمره 16 عاما، لكنه درس لاحقا في جامعة تاسمانيا، حيث أصبح رئيسا لاتحاد الطلبة. نال درجة بكالوريوس في الآداب، لكنه درس لاحقا التاريخ، وحصل على درجة الماجستير. من رواياته الأخرى «صوت يد واحدة تصفق»، و«ونتيغ غولد بوك أوف فش».
جائزة {بوكر مان 14} البريطانية للأسترالي فلاناغان روائي «الحب والحرب»
قرر قبل فوزه اعتزال الكتابة والعمل في المناجم
جائزة {بوكر مان 14} البريطانية للأسترالي فلاناغان روائي «الحب والحرب»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة