مشهد ثقافي سوري سوريالي تشكل الأزمة ملامحه

زوابعها اجتاحت المسرح والسينما والفن التشكيلي ومعارض الكتب

فريق عمل مسرحية «إكليل الدم» لزيناتي قدسية
فريق عمل مسرحية «إكليل الدم» لزيناتي قدسية
TT

مشهد ثقافي سوري سوريالي تشكل الأزمة ملامحه

فريق عمل مسرحية «إكليل الدم» لزيناتي قدسية
فريق عمل مسرحية «إكليل الدم» لزيناتي قدسية

ربما جاء عرض مسرحية «إكليل الدم» لزيناتي قدسية، على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، حدثا ثقافيا مثيرا للغرابة، وربما الصدمة أيضا. لكن حضور أعداد متزايدة من الدمشقيين إلى فندق الشيراتون، لمشاهدة فيلم يعرض في قاعة صيفية في الهواء الطلق، الذي لا يخلو من بعض دخان قذائف الهاون المتساقطة على وسط العاصمة، في أكثر أحيائها «أمانا»، أو محاضرة للجمعية الكونية في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، أو أخرى للجمعية الجغرافية في مقرها بمنطقة الميسات، وتساقط البراميل المتفجرة على قرى الريف السوري، ما يجعل المشهد الثقافي السوري، سورياليا بامتياز، كأن ما يجري يقع في مدينة أخرى لا تمت لهؤلاء بصلة.
حال تعكس هامشية المثقف العربي وضعف دوره قبل أي شيء آخر. تقول الكاتبة سعاد جروس: «لا أظن أن ما تعيشه منطقتنا العربية عموما، وسوريا خصوصا (أزمة)، بل هو أشبه بزلزال هائل نجم عن تفجر الأزمات المتراكمة دفعة واحدة، ومن بينها أزمة الثقافة. لقد كشف ما يحصل، عن أن الثقافة العربية والمثقفين العرب، كانوا ولا يزالون خارج دائرة الفعل، إذ لا تأثير يذكر لهم، والفعل والتأثير هما لمنظومات الاقتصاد والمخابرات والسياسة والدين وما ملكت إيمانهم من وسائل إعلام. أما المثقفون العرب، فقد انكشف سترهم، وتبين حجم الهوة التي تفصلهم عن واقع تربطهم به مخيلة ثبت أنها كانت ضحلة وقاصرة. وهاهم يقفون حائرين في قراءة ما يجري، ليس لأنه عصي على الاستيعاب، بل لأن الثقافة العربية خارج الفعل لعقود طويلة. لقد تكشّف أن النتاج الثقافي العربي بغالبيته، كان رجع صدى ثورات المجتمعات الغربية. ما يجري الآن أتى على الهشيم والأخضر واليابس، وها نحن جميعا على قدم المساواة، مثقفين وغير مثقفين، يأكلنا الانتظار».

* المسرح يراوح والموسيقى تتقدم
على خشبات المسرح الرسمي (المسرح القومي)، لم يتوقف العمل. وهذا لا ينفي تأثر حال المسرح بغياب أهم الممثلين والعاملين والتقنيين في هذا الحقل وهجرتهم. أما المسرح الخاص، فقد غاب تماما عن الساحة. الأعمال المسرحية التي تعرض في هذه المرحلة، تصدّت بشكل عام، لما يدور في البلاد من وجهة نظر رسمية. وقد غيّرت أحوال دمشق الراهنة حتى من مواعيد تقديم هذه العروض، التي باتت تقدم في أوقات مبكرة من النهار (الرابعة بعد الظهر مثلا)، كحال جميع النشاطات الثقافية الأخرى من محاضرات وندوات.
يقول الكاتب المسرحي، جوان جان، رئيس تحرير مجلة «الحياة المسرحية» التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية، إن النشاط المسرحي لم يتوقف هذه الأيام، وتحديدا نشاط المسرح القومي في دمشق، وهو الجسم الرئيس الذي يستوعب النشاط المسرحي للمسرحيين السوريين. وآخر عرض قُدِّم كان بعنوان «إكليل الدم» لزيناتي قدسية، نصًا وإخراجًا. وجسدت شخصياته، مجموعة من الفنانين المسرحيين من غير الأكاديميين، لكنهم موهوبون من دون شك. كذلك جرى عرض مسرحية «الطوفان» تأليف جوان جان، وإخراج سهيل عقلة. وفي الوقت نفسه، واصل المعهد العالي للفنون المسرحية تقديم عروض التخرج بشكل منتظم. كما أن النشاط المسرحي استمر في بعض المحافظات كاللاذقية وطرطوس والسويداء وحلب والحسكة، وإن بشكل أقل من حيث الكمّ عما يعرض في دمشق، وهذا الأمر ليس جديا على أي حال. غير أن الأزمة التي تعيشها البلاد، أثّرت سلبًا على حضور العروض المسرحية. لكن جوان يقلل من حجم هذا التأثير على الجمهور، ويقول إنه بدأ يخفّ تدريجًا، بعد أن تأقلم الكثيرون نوعا ما، مع الأوضاع الاستثنائية القائمة. وقد بدا واضحا أن السوريين باتوا مؤمنين بأن الانقطاع عن النشاط الاجتماعي والثقافي أمر غير مجدٍ، ولا يفيد بشيء، لذلك نراهم يعودون تدريجًا إلى ممارسة هذا النشاط.
ضمن هذه اللوحة السوريالية لحال الثقافة في البلاد، لفت النشاط الموسيقي النظر؛ إذ شكل مشهدا مغايرا. فقد تقدّم أكثر من 400 طفل لامتحان القبول في «معهد صلحي الوادي» لتعليم الموسيقى في دمشق، خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. وجرى اختيار 130 طفلا منهم. ولم يكن الإقبال على الالتحاق بمعاهد محمود العجان وفريد الأطرش الموسيقية في مدينتَي اللاذقية والسويداء، أقل أهمية ولفتا للنظر. وهذا يؤشر، مرة أخرى، على محاولات الجمهور التأقلم مع الأوضاع والظروف الناشئة بعد ما يقارب الأربع سنوات على بدء «الأزمة».

* عجائب السينما وأحوالها
وتبدو دور العرض السينمائي، والنشاط الإنتاجي في سوريا، أكثر المشاهد سوريالية. ففي الوقت الذي أغلقت «سينما الشام» أبوابها مع بداية الأزمة، وبنت «سينما سيتي» جدارا إسمنتيا أمام واجهتها، ظل قائما لمدة تزيد على 3 أعوام، حيث عادت وفتحت أبوابها قبل 3 أشهر، شهدت دمشق افتتاح صالة صيفية، هي الأولى في سوريا، في فندق شيراتون في ساحة الأمويين، القريبة من رئاسة الأركان السورية ومبنى الإذاعة والتلفزيون، وأهم المقرات الأمنية أيضا، التي تشهد يوميا، سقوط قذائف الهاون على مقربة منها. كما شهدت العاصمة السورية، أيضا، افتتاح 3 صالات سينمائية في مشروع دمر، تعدّ إحداها، من الصالات الحديثة جدا (9 D). يقول الناقد السينمائي، عمار أحمد حامد، مدير المهرجانات السينمائية: «إن المؤسسة العامة للسينما هي الأكثر حضورا ووضوحًا، حيث بادرت في نهاية عام 2011 (العام الأول لاندلاع الأزمة)، إلى إطلاق (مشروع دعم سينما الشباب)، الذي يتيح للشباب الذين يملكون مواهب سينمائية (كتابة سيناريو سينمائي، إخراج سينمائي أو غيرهما)، أن يتقدموا بنصوصهم السينمائية التي يرغبون في إخراجها، إلى المؤسسة. وقد قدّم بالفعل 150 نصا سينمائيا، جرى اختيار 30 منها تحولت إلى أفلام قصيرة (15 دقيقة للفيلم الواحد)».
أما على صعيد إنتاج المحترفين، فيقول عمار، إن السينما السورية، بقطاعها الحكومي، أنتجت منذ عام 2011 وحتى عام 2013، 7 أفلام روائية طويلة. ويجري هذا العام، تصوير 4 أفلام سينمائية روائية طويلة، لجود سعيد، وعبد اللطيف عبد الحميد، ومحمد عبد العزيز، وباسل الخطيب.
ويضيف عمار: «كما أقامت المؤسسة وبشكل دوري، تظاهرات سينمائية يعرض فيها أهم الأفلام الحديثة التي تعرض في دول العالم. وقد نجحت التجربة ولم يعد هناك مكان لواقف في أماكن عرض أي من الأفلام. وهذا ما شجع القطاع الخاص على إعادة فتح صالاته السينمائية التي أغلقها مع بداية الأزمة. فعادت سينما سيتي إلى الأضواء مجددا، وراحت تعرض أفلاما حديثة. كما عادت سينما الهواء الطلق في فندق الشيراتون مجددًا. وجرى افتتاح 3 صالات سينمائية في مجمع الـ(Up Town)، الذي جرى افتتاحه أخيرا في مشروع دمر. نذكر أيضا في هذا المجال، مهرجانات سينمائية أخرى أقيمت في طرطوس وحلب خلال العام الحالي، كمهرجان خطوات السينمائي للأفلام القصيرة الذي يقام مرة في العام منذ 3 سنوات، ومهرجان لسينما الشباب في حلب». ويضيف: «على الرغم من كل ما يعصف بسوريا، فإنها لا تزال تقدم أفلاما سينمائية مهمة، حتى إنها شاركت بها في مهرجانات سينمائية عالمية، كمهرجان مالمو السينمائي، في السويد، ومهرجان الأقصر في مصر، ومهرجان الداخلة في المغرب، ومهرجان موسكو، ومهرجان وهران في الجزائر، حيث حصل فيلم (مريم) لمخرجه باسل الخطيب، على الكثير من الجوائز».

* النشر والكتاب
ولعل الكتاب هو الأكثر تأثرا بالأزمة، إذ يعتمد اعتمادا شبه كلي على دور النشر الخاصة. وقد توقفت معارض الكتب، لا سيما معرض دمشق الدولي، للسنة الثالثة على التوالي. وكما يقول صهيب الشريف، مسؤول الإعلام في دار الفكر بدمشق: «لقد تأثرت حركة النشر جدا بالأزمة، لأن معظم المطابع موجود في الريف الدمشقي، أي في المناطق الساخنة، وهناك صعوبة كبيرة ومخاطرة في الوصول إلى أماكنها. أدى هذا بالتالي، إلى ترك معظم العاملين عملهم لعجزهم عن الوصول إليه، أو لوجودهم، أصلا، في المناطق الساخنة. وهذا أدى بدوره إلى نقص شديد في الخبرات الفنية، كما أن العمل لم يعد يجري بالوتيرة السابقة نفسها، مما أدى إلى لجوء معظم دور النشر السورية إلى الطباعة في بيروت، على الرغم من ارتفاع التكاليف هناك عما هي عليه في سوريا، ما انعكس بدوره على سعر الكتاب. أضف إلى ذلك التضخم الاقتصادي الذي أدى إلى ارتفاع سعر الكتاب 4 أضعاف سعره قبل الأزمة، وبالتالي تراجع معدل شراء الكتب، لأن فئة القراء غالبا ما تنتمي إلى الفئات متوسطة الحال والفقيرة».

هجرة التشكيلي
من القطاعات التي تأثرت كثيرا بالأزمة أيضا، قطاع الفن التشكيلي، حيث أغلقت تماما صالات العرض الخاصة مع بداية الأزمة، وتوقف النشاط أيضا على صالة الشعب التي أقامت بعض المعارض الفنية التشكيلية. وبحسب الفنان التشكيلي عدنان حميدة، فقد انتقل نشاط معظم الفنانين التشكيليين إلى بيروت أو دول الخليج، كما أن بيع الأعمال الفنية عاد أخيرا، للتحرك بعد توقف تام لمدة عامين ونصف العام تقريبا. ويضيف حميدة، أن بيع اللوحات يجري، حاليا، عبر الإنترنت، حيث يعرض الفنانون لوحاتهم على صفحة التواصل الاجتماعي «فيسبوك». ونوه بأن معظم الأعمال تباع في الخارج، أما في داخل سوريا، فتسويقها نادر.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.