في عام 1992، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحرير أوروبا الشرقية، وتوحيد ألمانيا، ونهاية الحرب الباردة بين المعسكر الحر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي، أصدر الأستاذ الجامعي الأميركي فرانسيس فوكوياما كتاب «نهاية التاريخ»، الذي لا يزال يثير ضجة حتى اليوم.
وقبل لأيام، أصدر فوكوياما كتابا جديدا بعنوان «النظام السياسي والتآكل السياسي».
ومن المعروف أن فوكوياما من أصل ياباني واشترك جده في الحرب ضد روسيا (1905). ثم هاجر إلى أميركا. أما والده فقد ولد في أميركا، ثم عاد إلى اليابان، وتزوج يابانية، وعادا، وأنجبا فرانسيس وآخرين. لكن فرانسيس تربى تربية أميركية، ولم يتعلم اللغة اليابانية.
وسار على خطى والديه أستاذا جامعيا (كان الأب أستاذا في علم الاجتماع في جامعة شيكاغو. وكانت إلام أيضا. وأيضا والدها، رئيس جامعة كيوتو في اليابان).
وكتب فرانسيس، في مقدمة كتاب «نهاية التاريخ»، أن تطور عائلته من التراث الإمبراطوري القديم في اليابان إلى الحرية الأميركية يمكن أن يكون أثر على الرأي الذي كتبه في الكتاب. وهو، باختصار: بعد أن جرب الإنسان كل أنواع الحكم (بدائي، وقبلي، وفوضوي، وإمبراطوري، وملكي، وعسكري، ونازي، وفاشستي، وشيوعي)، ها هو يصل إلى آخر، وأفضل، أنواع الحكم: الديمقراطية».
لكن، واجه الكتاب، كما هو معروف، نقدا كثيرا:
أولا: من الذين لا يؤمنون بالديمقراطية الغربية، أو يركزون على مساوئها (منهم مثقفون صينيون، وأفارقة، وعرب).
ثانيا: من الذين يحسدون فوكوياما على شهرته بسبب رأيه (كتب بعضهم عن خلفيته اليابانية بلهجة استهجانية).
ثالثا: من الذين لم ينتقدوا الديمقراطية الليبرالية، ولكن انتقدوا هجوم فوكوياما على نظرية «بوست موديرنيزم» (ما بعد الحداثة).
وكان فوكوياما قد كتب أن هذه النظرية تركز على تخيلات وطموحات استثنائية. وليست لها أهمية تاريخية كبيرة، لأنها لم تبدأ إلا خلال الخمسين عاما الأخيرة، ولأنها نظرية نخبة قليلة العدد، ولكونها تركز فقط على الفنون والمعمار، بعكس الحداثة، التي هي تطور تاريخي مشروع ومفيد في مجالات التاريخ، والاقتصاد، والعلوم، والثقافات.
* السياسة والديمقراطية
في الكتاب الجديد، تناول فوكوياما التنمية السياسية باعتبارها «رفيقة للتنمية الاقتصادية، وبداية الديمقراطية، وتاريخ إيطاليا الفاشستية» دولة القانون لكن «دون ديمقراطية»، والصين (باعتبارها دولة قانون. لكن، أي قانون؟)، ثم انتشار الديمقراطية، وأسباب ذلك. وخصص فصلا للربيع العربي بعنوان «من 1848 إلى ربيع العرب»، وكتب فيه: «مثل مظاهرات أوكرانيا قبلها، كانت مظاهرات تونس ومصر تريد حكومات حرة، وحكاما يمثلون الشعب.. كان ربيع العرب مثالا جيدا لمجرى هذا الكتاب. دليل على أن التطور الاقتصادي لا بد أن يقود إلى مزيد من الوعي، ومزيد من التطور السياسي. وكان في منطقة في العالم قال كثير من الناس إنه لا أمل فيها.. ربيع العرب كان أحسن مثال من «ربيع اليابان»، عندما تحققت الحرية والديمقراطية بالقوة (انهزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية، وفرض الأميركيون الديمقراطية عليها، بعد قرون من حكم الأباطرة).. في كل حالات ربيع العرب، كان الحكام يضطهدون شعوبهم: حسنى مبارك في مصر، وزين العابدين بن على في تونس، ومعمر القذافي في ليبيا.
في بداية الربيع العربي، اعتقد بعض الناس أنها بداية الموجة الرابعة. وقالوا إنها تشبه «ربيع أوروبا» الذي بدا عام 1848 بعد الثورة الفرنسية، (ثورات: ألمانيا، النمسا، المجر، إلخ).
وأضاف: «لكن، بعدما ظهرت (نتائج مؤسفة) لربيع العرب.. فقال كثير من الغربيين إن ربيع العرب ما كان يجب أن يكون. قال ذلك أميركيون وإسرائيليون، لأن ما قبل ربيع العرب كان أفضل لهم. وقال آخرون إن ربيع العرب جلب أنظمة إسلامية تزيد المشكلات. وأنا أقول إن الذين يتحدثون عن المشكلات وعدم الاستقرار ينسون أن «ربيع أوروبا» كان، أيضا، طويلا، ومعقدا، وفوضويا أحيانا». ثم يختتم بالقول: «لابد من وقت طويل، وفوضوي أحيانا، حتى يعرف الناس (العرب) أهمية الانتخابات الحرة، وأهمية احترام رأي الأغلبية، وأهمية حماية الأقليات.. إسقاط الحكام الديكتاتوريين كان سهلا. لكن، أهم من ذلك، زرع ورعاية بيئة ثقافية تحترم الحرية».
* لا حتمية ماركس
ويعتبر فوكوياما «ربيع العرب» دليلا على نظريته التي بدأها في الكتاب السابق: «نهاية التاريخ»، وهي أن الإنسان (الإنسان العربي هنا) يسير حسب حتمية تاريخية. ليست الحتمية الماركسية (الثورة الصناعية، ثم الرأسمالية، ثم حكم البرجوازية واضطهاد البروليتاريا، ثم ثورة البروليتاريا، ثم الاشتراكية، ثم الشيوعية، ثم زوال الدولة). ولكن الحتمية البشرية التاريخية. نظرية قدرية، تعتمد على فطرة الإنسان في الحرية، والعدل، والكرامة.
وفي هذا الكتاب، لا يغير فوكوياما رأيه. لكنه يركز على أن الديمقراطية فيها محاسن ومساوئ. وأنها تحتاج إلى نظام مستقر يدعمها، وإلا ستتآكل (لم يقل ستنهار).
وقد يريد فوكوياما أن يقول إن الذين لا يريدون الديمقراطية، أي ناقدو ومعارضو الربيع العربي، يجب أن يفهموا، من الآن، وحتى قبل أن تتأسس الديمقراطية في بلادهم أنها ستكون ديمقراطية مشكلات وتعقيدات. ويمكن أن تتآكل (مثل تآكل ديمقراطيات غربية عريقة). لكنها لن تنهار. كيف تنهار وهي «نهاية التاريخ»؟
* الحداثة وما بعدها
في هذا الكتاب، يكرر فوكوياما نقده لنظرية ما بعد الحداثة. ويقول إنها نظرية نخبوية، وجديدة، وأدبية، لا نظرية تطور سياسي واقتصادي. ونظرية التطور الحقيقية هي ما أثر، ويؤثر، على القضايا الهامة التي تؤثر على حياة الشعوب: الحكم، والتطور، والحرب، والسلام.
ولهذا، كتب في تفصيل عن النمو الهائل في القدرات الصناعية والثروات في العالم خلال المائتي سنة الماضية، سواء نحو الأفضل أو الأسوأ، كما تحدث عن الفجوة المرعبة بين أفضل المجتمعات (مثل: الدنمارك)، وأسوا المجتمعات (مثل: جمهورية الكونغو الديمقراطية). ليس تقليلا من قيمة أي شعب، ولكن، اعتمادا على رأي كل شعب في حياته التي يحياها: سعادته، وأمنه، واستقراره، وتطوره، وتفاؤله.
وعودة إلى الحتمية التاريخية، كتب فوكوياما أن أهم شيء هو التسلسل التاريخي، وذلك لأن الديمقراطية لا تتحقق أولا. لابد، أولا، من «دولة قوية». وذلك لأن الشعب الذي يحقق الديمقراطية في دولة غير قوية، وغير مستقرة، سوف يفشل في هذه الناحية. وأشار إلى منطقتين في العالم:
أولا: أفريقيا، حيث لا يوجد تراث طويل لحكم قوي ومستقر، وذلك بسبب حكم القبائل والعائلات (تراث الأحراش).
ثانيا: الشرق الأوسط، حيث يوجد تراث حكم قوي، لكنه اندثر. ولا تزال في التراث بقايا حكم قبائل وعائلات.
* ما هو الحل؟
يستدرك فوكوياما في استنتاجاته، ويقول: «تفسير ما حدث، وما نحن فيه، ليس وصفة لحل مشكلاتنا». فمن السهل جدا على الشعوب الديمقراطية الغربية أن تقول ذلك لشعوب العالم الثالث غير الديمقراطي. ان تقول لهم: «لابد من حكومة قوية ومستقرة قبل الديمقراطية. لا بد من انتظار التسلسل التاريخي.. وذلك لأن الحياة في دولة قوية دون ديمقراطية حياة بائسة. وهذا هو سبب اندلاع ربيع العرب في المقام الأول... إذن نريد أن نعيش في عصر نعرف فيه أن الديمقراطية هي الأفضل، لكن نقول إنها لن تنجح، نحن لا شك نعيش في عصر فوضوي فظيع».
ويرى فوكوياما أن كل شعب غير حر مثل طفل صغير يريد والداه أن يعلماه السباحة. لن يكون هذا سهلا عليه. وقد يفزع، أو يضطرب، أو يرفض (أو يكاد يغرق). لكنه، في النهاية، سيقدر على أن يسبح. وقدم مثالين:
أولا: الهند. قال إنها، بسبب تاريخها الاستعماري، فيها ديمقراطية، رغم مشكلات البيروقراطية، وضعف الحكومة المركزية. وها هي، بعد 50 سنة من الاستقلال، تريد أن تنافس الصين في إغراء الاستثمارات العالمية.
ثانيا: الصين. قال إنها، رغم نجاح هذه الاستثمارات العالمية، ومنافستها للولايات المتحدة كأقوى دولة اقتصاديا في العالم، ورغم تراث حكومات قوية، لكنها دولة استبدادية وديكتاتورية. وإذا لم تسارع و«تتعلم السباحة، قفزا أو رميا»، ستكون دولة «لا تعرف السباحة».
* ما هي الحضارة؟
خلال شرحه لنظريته، يتعرض فوكوياما إلى تعابير يتداولها الناس، ولكنهم لا يتفقون حولها. مثلا:
ليست الحضارة بديلا عن الثراء أو القوة. الحضارة هي خليط من ثراء، وقوة، وديمقراطية. يعنى هذا أن الدول الحديثة والثرية، لكن دون ديمقراطية تتمتع بحضارة. لكنها أقل حضارة من الدول التي فيها ديمقراطية.
وفي الجانب الآخر، لا بد أن يسبق الأمن الدولة المتحضرة. وذلك لأن الأمن (الدولة القوية) هو أساس الثراء، والقوانين، والأفكار. يعنى هذا صعوبة، أو استحالة، وجود الديمقراطية في غياب الأفكار (الديمقراطية نفسها فكرة من الأفكار).
ويجادل فوكوياما بأن الرأسمالية، هي واحدة من الأفكار، لكنها فكرة اقتصادية، تساعد على نشر الحرية، وذلك لأن الشركات والبنوك تريد الشخص المؤهل، والمنظم، والطموح. لا تستغله بالضرورة، لكنها تقوي ثقته بنفسه، وتجعله يحس بقيمته. يعني هذا أن الشخص الفخور بنفسه في مكتبه داخل شركته، لا بد أن يريد أن يكون كذلك خارج مكتبه أيضا. ولا بد أن يريد أن يكون ذا شخصية استقلالية.
ويجادل فوكوياما كآلاتي:
أولا: دولة قوية وثرية دون ديمقراطية هي ديكتاتورية.
ثانيا: دولة ديمقراطية دون أمن هي ديمقراطية قصيرة المدى.
ثالثا: دولة ثرية وقوية وديمقراطية يمكن أن تواجه مشكلة «التآكل».
* التآكل السياسي
بعد الحديث عن النظام السياسي، يتحدث فوكوياما عن التآكل السياسي (اسم الكتاب). وهو هنا يركز على الدول الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة. فيتحدث عن مشكلات الديمقراطية، ويكرر «لأن الديمقراطية هي «نهاية التاريخ»، فإنها لن تنهار، لكنها تتآكل، أو يمكن أن تتآكل.
وكتب: «تعاني الديمقراطية الأميركية من تراخ وتآكل. ليس لسبب غير غياب الصدمة التي تفيق الشعوب عندما تتعود على السلام والاستقرار».
وذلك لأنه، في غياب الصدمات، يمكن أن يتعثر النظام السياسي (الثري والحر والقوي). وهذا، كما يقول، هو ما يحدث للولايات المتحدة في الوقت الحاضر. بعد سلام طويل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جنح المجتمع الأميركي مرة أخرى نحو حالة من السلبية. صار مجتمعا (من الصعب حكمه). كيف ذلك؟
كثرت القضايا القانونية في أشياء صغيرة (مثل أن تحرق قهوة شخصا)، وكثر فساد السياسيين (وتأثير الشركات والبنوك عليهم). وزادت عدم الثقة في المؤسسات الحكومية (مثل رأي الأميركيين في الكونغرس). وسيطرت النخب (واللوبيات) على السياسة والاقتصاد، وحتى الثقافة. وزادت الأنانية والفردية (أيضا بسبب التكنولوجيا الحديثة).
لكن، ما هي الصدمة التي يحتاج لها الأميركيون حتى يفيقوا من غفوتهم؟ حرب مع الصين؟ لا يدعو فوكوياما إلى حرب حقيقية. لكنه يقول إن زيادة تفوق الصين الاقتصادي (وتوقع زيادة قوتها العسكرية) ربما ستجعل الأميركيين يفيقون من غفوتهم.
ولأنه يختم كتابه بموضوع «ربيع العرب»، يقول إن واحدة من الحتميات التاريخية ليست فقط الديمقراطية (نهاية التاريخ)، ولكن، أيضا، مشكلات نهاية التاريخ. يقصد أنه إذا كانت الديمقراطية الأميركية، بعد كل هذه السنوات، تواجه مشكلات، ما بال الديمقراطية التي حتى لم تتحقق في الدول العربية؟