أغرب الحروب الحديثة

كتاب بريطاني عن الحرب العراقية ـ الإيرانية اعتمد بالكامل على وثائق سرية عراقية

الحرب الإيرانية – العراقية تاريخ عسكري واستراتيجي المؤلفان: ويليامسون موراي وكيفين إم وودز مطبعة جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة.
الحرب الإيرانية – العراقية تاريخ عسكري واستراتيجي المؤلفان: ويليامسون موراي وكيفين إم وودز مطبعة جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة.
TT

أغرب الحروب الحديثة

الحرب الإيرانية – العراقية تاريخ عسكري واستراتيجي المؤلفان: ويليامسون موراي وكيفين إم وودز مطبعة جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة.
الحرب الإيرانية – العراقية تاريخ عسكري واستراتيجي المؤلفان: ويليامسون موراي وكيفين إم وودز مطبعة جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة.

من حيث مدتها، تعد الحرب الإيرانية - العراقية (1980 - 1988) واحدة من أطول الحروب التي شهدها التاريخ الحديث، كما أنها تعد الأكثر تكلفة من حيث الخسائر التي خلفتها؛ حيث أودت بحياة نحو مليون قتيل من كلا الجانبين، بالإضافة إلى ضعف هذا العدد من حالات الإصابة والعجز الدائم، كما كانت أيضا حربا مكلفة؛ حيث أسفرت عن إلحاق أضرار بالبنية التحتية بما قيمته أكثر من تريليون دولار، كما تكبد كلا طرفي النزاع خسائر اقتصادية.
وكما أوضح هذا الكتاب الجديد، المنشور من قبل مطبعة جامعة كامبريدج، فإن الحرب كان لها عدد من السمات الأخرى السلبية، فقد أتاحت المجال لاستخدام الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع، وذلك للمرة الأولى منذ ارتكاب الإيطاليين الجريمة ذاتها ضد الحبشة خلال حقبة الثلاثينات.
وحسب التقديرات، فقد لقي أكثر من 30 ألف إيراني مصرعه – من العسكريين والمدنيين - جراء استخدام الأسلحة الكيماوية على يد جيوش صدام حسين، والأسوأ من ذلك، أنه للمرة الأولى في التاريخ الحديث، استخدم صدام أسلحة كيماوية ضد شعبه في مدينة حلبجة؛ مما أودى بحياة أكثر من 5000 كردي.
ورغم ذلك، كان لهذه الحرب اثنان على الأقل من السمات الفريدة الأخرى، التي يبدو أنه جرى تجاهلهما من جانب القائمين على هذه الدراسة الجديدة.
تتمثل السمة الأولى في أنها قد تعد الحرب الحديثة الأولى التي لم يكن لها أهداف واضحة، ففي الواقع، أشار صدام حسين وروح الله خميني، الملا الذي كان يحكم إيران آنذاك، إلى عدد من الأهداف من بينها تغيير نظام الحكم ضد بعضهما البعض.
انتهى صدام بفكرة ضم إقليم خوزستان الذي يقع جنوب غربي إيران، ويضم جماعات كبيرة تنطق باللغة العربية، ولكن لم يكن من الواضح على الإطلاق أن صدام رحّب بانضمام 2.5 مليون شيعي آخرين إلى سكان العراق، في الوقت الذي كانت تواجه فيه الأقلية السنية في تكريت صعوبة في الحفاظ على قبضتها على بغداد، ومن جانبه، أطلق الخميني شعار «الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد»، متظاهرا أنه كان يهدف إلى غزو العراق، ومن ثم الاتجاه إلى استعادة القدس وتدمير إسرائيل.
ولكن، لم يكن من المرجح أن يأخذ الخميني خطابه على محمل الجد، كذلك الحال بالنسبة للإسرائيليين الذين ساعدوا في تهريب ما يكفي من الأسلحة الأميركية إلى إيران لوقف الزحف العراقي أولا ثم تحويل دفة الأمور ضد جيوش صدام، فقد كان يدرك كل من الخميني والإسرائيليين أن منطقة الشرق الأوسط، التي كان يسيطر عليها العرب السنة، سوف تترك القليل من المجال أمام اليهود أو الشيعة «الفرس».
فيما تتعلق السمة الغريبة الثانية لهذه الحرب بشخصية ومكانة كلا الرجلين اللذين كانا في نهاية المطاف يتبوءان موقع القيادة، فقد كان يتمتع صدام والخميني بقدر من الغرور في حجم جبل إيفرست ويعتقدان – في السر على الأقل - أنهما جهابذة في كافة مجالات النشاط البشري، وكان كلاهما يجدان ثناء من الحاشية الخنوعة المحيطة بهما ووسائل الإعلام كما جرى عدّ كل منهما شخصية معظمة تضطلع بمهمة المسيح المُخَلِص، كان صدام يعد ذاته بمثابة صلاح الدين الجديد في محاولة لاقتفاء أثر المقاتل الكردي والسلطان الذي قاتل الصليبيين، ولكن لم يحالفه النجاح دائما. ومن جهته، كان من المفترض أن يكون الخميني - الذي ادعى أنه من نسل الحسين الإمام الثالث للشيعة - على وشك الانتقام للقتل المأسوي لجده الأكبر على يد الخليفة الأموي يزيد.
تكمن المشكلة في أن هذين الشريكين، في ذلك التحرك العشوائي المأسوي، لم يكن لديهما أدنى درجات الدراية بالمسائل العسكرية، فقد تعلم صدام إطلاق النار من المسدس فقط، في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، ولاحقا لقتل منافسه داخل قيادة حزب البعث، كما تلقى الخميني أيضا بعض التدريب على استخدام المسدسات أثناء عضويته، التي لم تدم طويلا، في حركة فدائيي الإسلام الإرهابية خلال حقبة الأربعينات، ولكنه لم يكن يفهم شيئا – مثله مثل صدام – عن الحرب الفعلية، وكانا يساورهما هاجس عميق حيال الأمور العسكرية.
بالمصادفة البحتة، تزامن صدور الكتاب مع خروج تسريبات بشأن الجانب الإيراني في الحرب – وهي التسريبات التي تكشف عن إفشال الخميني لكل شيء وكيف قُتل عشرات الآلاف من الإيرانيين نتيجة لقيادته السيئة.
يعتمد كتاب موراي ووودز بالكامل على وثائق سرية جرى الاستحواذ عليها من الأرشيف العراقي بعد سقوط صدام في عام 2003، لذلك تركز الوثائق فقط على الجانب العراقي من المأساة، ولكن من خلال قياس ردود الفعل الإيرانية على تحركات صدام، يستطيع المرء أن يُكَوِّن صورة عن الطريقة التي تعاملت بها القيادة في طهران، أو أساءت التعامل، مع الحرب.
كان كل من صدام والخميني يخشى من جيشه أكثر من أي عدو خارجي محدد، كان صدام يعلم أنه إذا انتصر الجيش العراقي في الحرب أو على الأقل بدا أنه انتصر في شيء ما، فقد ينقلب ضده بإظهار أحد لواءاته المنتصرين بصفته «منقذ الأمة» الجديد. ويوضح المؤلفان كيف ابتكر صدام نظاما لا يستطيع بمقتضاه اللواءات التواصل مباشرة مع بعضه البعض حتى في ميادين المعركة القريبة، وفي معركة الحميد على سبيل المثال، حاصر الإيرانيون فرقتين عراقيتين وقضوا على أفرادهما، بينما ظلت فرقتان عراقيتان قوتين جديدتين من دون حركة على بعد عدة كيلومترات في الشمال، وكان السبب هو انتظار القادة للحصول على إذن من صدام في بغداد للانضمام إلى المعركة وإنقاذ زملائهم المحاصرين، وجاء الإذن ولكن بعد ساعات من خسارة المعركة بالفعل.
من جانبه، بدأ الخميني فترة حكمه بإعدام آلاف من ضباط الجيش الإيراني وضباط الصف واعتقال آلاف آخرين؛ ومما زاد الأوضاع سوءا أن الأدميرال أحمد مدني، أول وزير دفاع تحت قيادة الخميني، قام بتخفيض مدة أداء الخدمة الوطنية من 18 شهرا إلى 6 أشهر؛ مما يعني أن جميع المجندين تقريبا في ذلك الوقت كانوا يستطيعون العودة مباشرة إلى الحياة المدنية.. وهكذا عندما أشعل العراق شرارة الحرب بغزو إيران في 22 سبتمبر (أيلول) عام 1980، كان الجيش الإيراني كله غير موجود كقوة فعّالة.
جرى تخصيص جزء من هذا الكتاب المذهل لتحليل العقلية العراقية وكيف تغيرت أثناء فترة الحرب التي استمرت 8 أعوام.
بدأ صدام بالظهور بصفته قائد حرب حديثة يمتلك أحدث الأسلحة، جاءت معظمها من فرنسا والاتحاد السوفياتي، في البداية، سمح الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران بإعادة طلاء مقاتلات «سوبر اتندارد» الثقيلة بألوان الدولة العراقية، وقادها طيارون مرتزقة من بلجيكا في عمليات دقيقة ضد أهداف إيرانية ذات حساسية، وكانت المادة الضرورية لصناعة الأسلحة الكيماوية تأتي من غرب ألمانيا، في حين قام الاتحاد السوفياتي بتوريد الدبابات ورؤوس الصواريخ.
ولكن سريعا ما أصبح من الواضح أنها لن تكون حربا حديثة، وأن الخميني والملالي من حوله لا يبالون بالخسائر البشرية أو المادية.
وفي بعض المعارك، كان القادة العراقيون يمرضون جسديا عندما يرون موجات تلو الأخرى من المراهقين والشباب والإيرانيين الذين تعرضوا لغسيل دماغ على يد الملالي لكي يسعوا إلى «الشهادة» و«الجنة»، حيث كان يجري إرسالهم لتفجير أنفسهم أمام الدبابات لإبطاء تقدم الجيش العراقي.
في المرحلة التالية، حاول صدام أن يبدو محاربا عربيا كلاسيكيا وأوصى جيشه بالسعي إلى تحقيق النصر من خلال الشجاعة الشخصية والتضحية، بيد أن هذه المحاولة أيضا منيت بالفشل، على الأقل نظرا لأن صدام كان في صميمه جبانا، كان ثعلبا يحاول أن يزأر كالأسد.
في المرحلة الأخيرة من الحرب، علم صدام أنه لن يستطيع الفوز في الحرب سواء كان قائدا حديثا أو محاربا عربي قديم. حينها بدأ في التوسل إلى الدول العربية المجاورة والقوى العظمى، وأبرزها الولايات المتحدة، لمساعدته على إخراجه من الحرب عبر وسائل دبلوماسية. أخطأ صدام في حساباته، لا سيما بعدم إدراكه أن خصمه مجنون مثله تماما ولا يبالي بشأن الخسائر في أرواح الإيرانيين كما لا يبالي هو بفقد أرواح العراقيين.
كما أشار موراي ووودز، كانت هذه حرب انتهت من دون منتصر، بل بطرفين خاسرين. لم تتغير الحدود، وظل النظامان في الحكم. بعد فترة، جرت الإطاحة بنظام صدام نتيجة لخطأ آخر: غزو الكويت؛ حيث إنه بذلك دخل في معركة مع من هم أكبر منه.
سيكون من الجيد أن تمنح إيران لموراي ووودز، ودارسين آخرين، فرصة الاطلاع على الأرشيف الإيراني، حتى تجري دراسة وعرض الجانب الآخر من قصة الحرب.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!