النفط.. في مواجهة عواصف السياسة والتحولات العالمية

انخفضت أسعاره رغم أزمات «داعش» وأوكرانيا.. وتوقعات المدى الطويل إيجابية

النفط.. في مواجهة عواصف السياسة والتحولات العالمية
TT

النفط.. في مواجهة عواصف السياسة والتحولات العالمية

النفط.. في مواجهة عواصف السياسة والتحولات العالمية

تبدو مسألة تراجع أسعار النفط إلى ما دون المائة دولار للبرميل للمرة الأولى منذ 16 شهرا محيرة بعض الشيء للخبراء في السوق مع الكثير من التكهنات حول أسباب التراجع ومدى استمراريته في المدى المنظور.
وبينما تبدو التوقعات سلبية حتى نهاية عام 2015، فإن توجهات المدى الطويل تبدو إيجابية مع نشاط ملحوظ لتخزين النفط من مستثمرين ومضاربين. على الساحة السياسية والأمنية يعزز الوضع الحالي ارتفاع أسعار النفط وليس انخفاضها خصوصا مع توسع نشاط «داعش» الإرهابي المنتشر في سوريا والعراق وتشكيل التحالف الدولي الذي ينوي إضعاف «داعش» ثم تدميره. ثم هناك الأزمة الأوكرانية وتبادل العقوبات بين روسيا والغرب، والوضع الأمني المتردي في اليمن وليبيا. لكن الواقع يشير إلى تراجع أسعار النفط بنسبة ملحوظة خلال هذا الصيف، مع توقع استمرار التراجع لمدة 15 شهرا أخرى. فما هي أسباب هذا التراجع، وماذا تقول عنه أوساط الصناعة خصوصا من قطبيها، منظمة «أوبك» من ناحية، ووكالة الطاقة الدولية من ناحية أخرى؟
تقرير «أوبك» الأخير الصادر من فيينا هذا الشهر أكد تراجع أسعار سلة «أوبك» بمعدل 4.86 دولار للبرميل خلال شهر أغسطس (آب) الماضي، وعلل الانخفاض بوجود «إمدادات جيدة في السوق مع تراجع في الطلب». ويبدو التوجه العام لأسعار النفط حاليا مائلا نحو الهبوط التدريجي على الرغم من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وإنجاز اقتصادي عالمي لم يتغير كثيرا هذا الصيف، ويبدو هشا في أوروبا ومتراجعا في الصين.
وفي ما يتعلق بالإنجاز الاقتصادي الدولي والطلب العالمي على النفط، يشير تقرير المنظمة إلى تفاوت الإنجاز الاقتصادي بين انتعاش ملحوظ في السوق الأميركية مقابل تراجع وتحديات في منطقة اليورو وكساد في اليابان، والنتيجة الإجمالية هي نسبة نمو في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قدرها 1.8 في المائة في عام 2014، ترتفع إلى نسبة اثنين في المائة في عام 2015. ونتيجة لذلك من المتوقع أن يظل الطلب العالمي الحالي بلا تغيير، ويرتفع بنحو 1.19 مليون برميل يوميا في العام المقبل. وتعد هذه الزيادة أقل من التوقعات السابقة.
وفي ناحية الإمدادات، وصل إنتاج «أوبك» في شهر أغسطس الماضي إلى 30.35 مليون برميل يوميا، بينما زاد الإنتاج من مصادر خارج «أوبك» بنحو 1.58 مليون برميل يوميا. وبوجه عام تبدو الإمدادات أكثر من كافية للطلب العالمي مع مخزون استراتيجي جيد.

* ضعف الطلب
* على الجانب الآخر من المعادلة، أصدرت وكالة الطاقة الدولية، التي تمثل جانب المستهلكين، تقريرها هذا الأسبوع، وقدرت فيه تراجع الطلب العالمي على النفط في عامي 2014 و2015 بنحو 0.9 مليون برميل يوميا، و1.2 مليون برميل يوميا على التوالي، وذلك بسبب «تراجع ملحوظ في نمو الطلب خلال الربع الثاني من العام الحالي وضعف توقعات الطلب من أوروبا والصين». وقالت الوكالة إن الإمدادات العالمية انخفضت بنحو 400 ألف برميل يوميا في شهر أغسطس إلى 92.9 مليون برميل يوميا، وهو انخفاض كانت المملكة العربية السعودية قد أعلنت عنه من إنتاجها قبل أن تعلنه وكالة الطاقة.
وعلى الرغم من ادعاء صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية أن السعودية «خفضت إنتاجها بنحو 400 ألف برميل يوميا من أجل الدفاع عن سعر مائة دولار للبرميل»، فإن مصادر أخرى أشارت إلى أن السبب قد يكون لأسباب صيانة أو لتلبية إمدادات الطب المحلي المتزايد أو حتى لاستعادة التوازن في السوق العالمية والمساهمة في استقرار الأسعار. فالمعروف أن السعودية تلعب دور المنتج المرن في الأسواق للمحافظة على التوازن أثناء الفترات غير العادية ارتفاعا أو انخفاضا في السوق. وعلى الرغم من أن منظمة أوبك لم تعد تتحكم إلا في ثلث الإنتاج العالمي، كما أن بورصات النفط العالمية تحدد الأسعار على مدار الساعة من خلال التعاقدات الفورية والآجلة، فإن هناك العديد من المصادر الغربية ما زالت تصر على الإشارة إلى «أوبك» على أنها مجرد «كارتيل» للتحكم في الأسعار ورفعها اصطناعيا. هذه النظرة التي تعود إلى عقد الثمانينات لم تعد مقنعة وترد عليها الدول المنتجة بمنطق أكثر واقعية.
وفي تقرير لوكالة «رويترز»، جاء أن الأسعار السائدة حاليا لن تستمر طويلا، وأنها سوف تعاود الارتفاع قريبا. وأضاف التقرير أن السعر المطلوب لدعم ميزانيات دول في أوبك مثل العراق لا يقل عن 106 دولارات للبرميل. ويزيد هذا السعر المطلوب لموازنة ميزانية روسيا إلى 114 دولارا للبرميل. من ناحية أخرى، صرح وزير النفط الإيراني نامدار زنغنه، الشهر الماضي، بأن الضعف الحالي في أسعار النفط والذي أسفر عن فقدان 13 في المائة من سعر البرميل إلى أقل من مائة دولار يوميا، لن يستمر طويلا، وسوف يعود إلى مستواه الطبيعي مع حلول فصل الشتاء.
وقال خالد الفالح، الرئيس التنفيذي لشركة «أرامكو» السعودية، إن الأسعار يجب ألا تقل عن مستوياتها الحالية من أجل المحافظة على معدلات الاستثمار الموجهة لتلبية حاجات المستقبل من النفط. وأضاف الفالح في مؤتمر نفطي أن نشاط التنقيب عن مصادر نفطية جديدة يحتاج إلى مستويات أسعار تدعم الاستثمارات الجديدة، وأن الأسعار على المدى الطويل تعتمد على استمرار موارد النفط من مواقع أكثر كلفة.

* البحث عن مشترين
* السؤال المحير لخبراء السوق هو تحولات المدى القصير من الآن وحتى صيف عام 2015. وهنا تبدو الصورة غير مشجعة وفقا لتقرير من «وول ستريت جورنال» يشير إلى أن بعض ناقلات النفط المحملة في أعالي البحار تبحث عن مشترين بخفض الأسعار مرارا. كذلك فإن العديد من المضاربين الذين اشتروا تعاقدات آجلة في شهر يونيو (حزيران) الماضي بتوقعات أعلى للأسعار بعد انتشار «داعش» في أرجاء العراق واستيلاء مسلحيها على بعض آبار النفط، أخذوا في تصفية مواقعهم بخسائر في التعاقدات مع تراجع الأسعار في أغسطس. وقالت أرميتا سين، محللة النفط في شركة «إنرجي اسبيكتس» في لندن، إن الوضع الحالي متأثر بالطلب الضعيف، وإن الإمدادات الإضافية تزيد الوضع سوءا للأسعار. وهي ترى صعوبة في الخروج من الوضع الحالي قريبا.
وزاد الطين بلة أن الاتحاد الأوروبي أعلن الشهر الماضي أن نسبة النمو الاقتصادي في منطقة اليورو سوف تكون منعدمة خلال الربع الثاني من العام الحالي. وظل الطلب على النفط من المصافي الأوروبية ضعيفا خلال الأشهر الستة الماضية. ومع توافر الإمدادات تراجع العامل النفسي من مخاوف أعمال عنف في الشرق الأوسط وشرق أوروبا من شأنها تعطيل إمدادات النفط من هذه المناطق.
ويقول جين ماغيلان، من شركة «تراديشنال إنرجي» في مدينة ستانفورد بولاية كونيتكت، إن العامل المؤثر في المعادلة الآن هو حجم الطلب الغربي، والأوروبي على وجه الخصوص، والذي تحتاج الأسواق إلى المزيد منه من أجل سحب الفوائض غير المباعة من الأسواق. ويضيف أنه لاحظ زيادة المضاربات في أسواق بورصات النفط على المزيد من تراجع الأسعار في المدى المنظور. وهو يرى أن المضاربين يبنون توقعاتهم على استمرار ضعف الطلب الأوروبي وتراجع نسب النمو الاقتصادي في الصين.
ويلاحظ المضاربون أيضا أن النفط الليبي الذي كان قد تراجع إلى أقل من النصف في ذروة الأزمة الليبية وإغلاق الموانئ، قد عاد بقوة إلى مستوياته السابقة. ويجري الآن استئناف تحميل الناقلات من ميناءي راس لانوف وسدر.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.