نجاة بلقاسم.. النجمة السياسية الصاعدة في فرنسا

ولدت من أسرة مغربية متواضعة.. وتعد أول امرأة تشغل منصب وزيرة التربية والتعليم في البلاد

نجاة بلقاسم.. النجمة السياسية الصاعدة في فرنسا
TT

نجاة بلقاسم.. النجمة السياسية الصاعدة في فرنسا

نجاة بلقاسم.. النجمة السياسية الصاعدة في فرنسا

يفيد استطلاع للرأي أجري لصالح صحيفة «ليه زيكو» الاقتصادية و«راديو كلاسيك» يومي 3 و4 سبتمبر (أيلول) الحالي بأن وزيرة التربية والتعليم والبحث العلمي الفرنسية نجاة فالو بلقاسم، ذات الـ36 ربيعا والوزيرة الأصغر في حكومة مانويل فالس الجديدة، أصبحت الشخصية الثانية الأكثر شعبية لدى الفرنسيين، وذلك بعد 15 يوما فقط من وصولها إلى منصبها الجديد.

نجاة بلقاسم حلت مباشرة بعد آلان جوبيه، رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق. وفيما هبطت شعبية رئيس الجمهورية فرنسوا هولاند إلى الحضيض، إذ لم يعد يحظى إلا بثقة 13 في المائة من الفرنسيين، فإن وزيرة التربية تحلق في الأجواء بعد أن منحها 51 في المائة من الفرنسيين ثقتهم، لا بل إنها حققت قفزة نوعية لدى ناخبي اليمين واليسار على السواء، مما يجعل من الوزيرة الشابة المرأة الأكثر شعبية في فرنسا والنجمة الصاعدة في سماء الطبقة السياسية الفرنسية.
عندما تسلمت نجاة فالو بلقاسم منصبها الجديد من قبل سابقها في منصب وزير التربية بونوا هامون، دمعت عيناها وهي تلقي كلمة مؤثرة وعاطفية عادت فيها إلى طفولتها وإلى «مدرسة الجمهورية» التي مكنتها من الوصل إلى حيث هي اليوم.
إنه مسار طويل قطعته هذه المرأة النحيفة وقصيرة القامة المولودة في قرية بني شاكر في الريف المغربي في العام 1977 من أسرة متواضعة. والدها كان أحد عشرات الآلاف من المهاجرين الذين قصدوا فرنسا لكسب الرزق. عائلته التحقت به عندما كانت نجاة في سن الرابعة من عمرها. وما كان لهذه الفتاة التي يحب الفرنسيون ابتسامتها المشرقة أن تصل إلى حيث وصلت من غير الرافعة التي يوفرها التعليم العام في فرنسا. إنه المصهر الأول في دمج الوافدين وتمكين المتفوقين منهم من البروز والخروج إلى دائرة الضوء. ولذا، ظهرت الوزيرة الجديدة بادية التأثر لدى حديثها عن قطاع التعليم والتربية الذين تدين له بكل شيء وها هو اليوم موضوع بين يديها قبل أيام قليلة من العودة إلى الصفوف الدراسية والجامعية.
تحتل نجاة فالو بلقاسم (فالو هو اسم زوجها، مدير مكتب وزير الاقتصاد السابق آرنو مونتبورغ)، المرتبة الرابعة بروتوكوليا في الحكومة الجديدة، إذ لا يتقدم عليها سوى وزيرين هما وزير الخارجية لوران فابيوس ووزيرة البيئة ورفيقة درب الرئيس هولاند السابقة سيغولين رويال. والأهم من ذلك أن نجاة بلقاسم أول امرأة في تاريخ الجمهورية الفرنسية تشغل منصب وزير التربية والتعليم العالي الذي كان مقصورا على الرجال. وتعد الوزارة المذكورة من أهم المناصب الحكومية بالنظر لميزانيتها الضخمة وللمسؤوليات الكبرى التي يتعين على حاملها مواجهتها، إذ عليه في زمن السنوات العجاف ماليا أن يتعاطى مع عشرات الآلاف من المدرسين ومع نقاباتهم ومطالبهم وإضراباتهم المتكررة ومع أهالي التلامذة ومع الجامعات والطلاب ومؤسسات البحث العلمي، وكلما قلب حجرا من أحجار هذا الصرح الضخم، تدحرجت مشكلة جديدة.
حتى عام 2007، لم تكن نجاة بلقاسم معروفة إلا في أوساط الاشتراكيين وفي منطقة ليون، ثاني المدن الفرنسية حيث انتخبت أكثر من مرة في مناصب محلية. وبعد دراسة محلية مرت عبر معهد العلوم السياسية في باريس، وهو مدرسة النخبة الفرنسية السياسية والإدارية، انضمت نجاة إلى الحزب الاشتراكي وتدرجت في سلم المسؤوليات. وحظها أن عمدة مدينة ليون جيرار كولومب تولى قيادة خطواتها السياسية وفتح أمامها الأبواب العصية. وفي عام 2007، اختارتها سيغولين رويال ناطقة باسم حملتها الانتخابية التي خسرتها في وجه منافسها نيكولا ساركوزي. وأعادت رويال الكرة في عام 2011 عندما حاولت الترشح مجددا للرئاسة عن الحزب الاشتراكي. إلا أن فرنسوا هولاند فاز بالانتخابات التمهيدية. وبالنظر لما وجده من خصال لدى نجاة بلقاسم، فإنه عمد بدوره إلى تعيينها ناطقة باسم حملته الانتخابية. وبعد فوزه بالرئاسة عام 2012، كلفها هولاند بوزارة شؤون المرأة التي استحدثها خصيصا لها، كما عينها ناطقة باسم الحكومة وهو المنصب الذي احتفظت به خلال عامين. وفي حكومة مانويل فالس الأولى، فضل هولاند إيكال مهمة التحدث باسم الحكومة لصديقه وزير الزراعة ستيفان لو فول الذي يتمتع بتجربة سياسية عريضة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تصل فيها امرأة من أصول عربية إلى المناصب الوزارية الأولى في فرنسا. فالنائبة الأوروبية الحالية رشيدة داتي تسلمت وزارة العدل في حكومة ساركوزي الأولى، وهي وزارة أساسية في الهرم الحكومي. بيد أن الفرق بين المرأتين مزدوج: الأول، أن نجاة بلقاسم وصلت إلى الذروة بفضل مثابرتها وعملها داخل الحزب الاشتراكي على المستوى المحلي، فضلا عن أهليتها العلمية والأكاديمية، بينما داتي عرفت بمهارتها في استخدام علاقاتها حيث إنها لم تعين وزيرة إلا بسبب صداقتها لزوجة ساركوزي السابقة سيسيليا. والثاني، أن وزيرة التربية الحالية مطلقة الوفاء وتعرف أن تكون خادمة أمينة مخلصة لعملها من غير الهرولة وراء الأضواء أو السعي لاحتلال الصفحات الأولى في مجلات النجوم. نجاة بلقاسم زوجة تريد حماية عائلتها وإبعادها عن الواجهة. وبالمقابل، فإن داتي صنعت من معدن مختلف، وهي تسعى حاليا لدى المحاكم الفرنسية للحصول على الاعتراف بأبوة ابنتها من رجل أعمال فرنسي شهير بعد أنها أخفت هويته أشهرا طويلة.
بالإضافة إلى نجاة بلقاسم، ثمة شخصيتان من أصول عربية في حكومة فالس الثانية: الأولى قادر عارف، وزير الدولة لشؤون قدامى المحاربين، وهو يتبع لوزير الدفاع جان إيف لودريان. والثانية مريم الخمري (والدها مغربي وأمها من غرب فرنسا) التي عينت وزيرة الدولة لشؤون المدينة. والخمري مقربة من آن هيدالغو، عمدة العاصمة باريس، وكانت تشغل مناصب محلية في بلدية باريس.
يقول العارفون لنجاة بلقاسم إنها تخفي تحت غطاء ابتسامتها الدائمة شخصية فولاذية وقدرة على ضبط الأعصاب والمحافظة على هدوئها رغم الانتقادات والحملات. ومن المؤكد أنها ستحتاج لهذه الصفات في مهمتها الجديدة، إذ إنه يتعين عليها أن ترضي أساتذة التعليم الرسمي، وأن تطمئن الأهالي بعد العواصف التي أثارتها إصلاحات الوزير فانسان بيون. والمشكلة أنها، خلال العامين ونصف العام المنصرمة، لم تخف الوزيرة الجديدة قناعاتها لجهة تأكيدها على المساواة بين الرجال والنساء والحاجة إلى سياسات حكومية تذهب في هذا الاتجاه. فضلا عن ذلك فإنها من دعاة أن «تترجم» التحولات الاجتماعية في القوانين، ومنها على سبيل المثال حق التبني للأزواج من جنس واحد. ويأخذ عليها اليمين واليمين المتطرف أنها من أنصار تعليم المساواة بين الأجناس في المدارس الابتدائية، وهي خطة اقترحها الوزير السابق. لكن المدافعين عن العائلة «التقليدية» جعلوا منها حصان طروادة للتهجم على الحكومة واتهامها بتدمير العائلة في بلد كاثوليكي كفرنسا. ولذا، سيكون من المفيد جدا لنجاة فالو بلقاسم أن تستنجد بفن الدبلوماسية حتى لا تنظم ضدها الحملات الاحتجاجية منذ بداية الطريق.
بيد أن الانتقادات التي تتعرض لها نجاة بلقاسم تخطت الأطر التقليدية المعروفة في الديمقراطية لتأخذ طابعا «قذرا»، لا بل عنصريا، تكفلت به صحافة اليمين المتشدد واليمين المتطرف. فاليمين التقليدي وجد فيها طريدة سهلة للهجوم على الحكومة ورئيس الجمهورية. واليمين المتشدد والمتطرف انقض عليها بشراسة بغرض تدميرها ونزع الشرعية عنها. والأبرز ما جاء به غلافا مجلتي «فالور أكتويل» (القيم المعاصرة) و«مينوت» (الدقيقة) الناطقة باسم اليمين المتطرف. الأولى كرست غلافها للوزيرة الشابة وأطلقت عليها لقب «آية الله»، فيما الثانية أشارت إليها بـ«الوزيرة المغربية المسلمة» و«المرأة - الاستفزاز». وبالطبع، أثار هذا الهجوم «حمية» الحزب الاشتراكي الذي هب للدفاع عن وزيرته وحمية الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية، وكذلك منظمة محاربة العنصرية، فيما صدر عن اتحاد المساجد الفرنسية بيان مندد بعنصرية المجلتين ومعاداتهما للعرب والإسلام. ونقلت القضية إلى المحاكم الفرنسية المختصة.
تعيش الوزيرة الشابة التجربة التي عاشتها قبلها وزيرة العدل السوداء كريستيان توبيرا التي شبهتا «مينوت» بـ«القرد». وواضح اليوم أن ثمة أوساطا فرنسية لم تتقبل بعد وصول متحدرين من أصول مهاجرة إلى المناصب العليا في البلاد رغم أن الرئيس السابق ساركوزي من أصل مجري، ورئيس الحكومة الحالي مانويل فالس لم يحصل على الجنسية الفرنسية إلا في سن الـ18 عاما. ذلك أن التوجه العام في أوروبا الغربية ينحو باتجاه اليمين المتطرف، وزعيمته في فرنسا مارين لوبن تؤكد أنها تتهيأ لتسلم الحكم بعد انتخابات سيكون الرئيس هولاند مضطرا للدعوة إليها بسبب الأزمات السياسية التي تعرفها البلاد. وثمة من لا يستبعد هذا الخيار يمينا ويسارا باعتباره الوحيد الذي سيمكن هولاند من إكمال ولايته الرئاسية وربما التحضر لخوض الانتخابات مجددا.
وفي أي حال، تبدو نجاة بلقاسم اليوم مهيأة لمستقبل سياسي كبير. فهي من جهة ما زالت امرأة شابة بحيث إن تقلدها المنصب الجديد جعل منها أحد الأوجه الرئيسة لحكومة تبرز عنصر الشباب. ومن جهة ثانية، فإنها رمز للآلاف من الشباب المتحدر من أصول مهاجرة (خصوصا عربية) الذي يريد أن ينجح في مجتمع يزداد انغلاقا يوما بعد يوم بسبب الأزمة الاقتصادية. ويريد لها الكثيرون أن تنجح في مهمتها الجديدة لأن نجاحها نجاح لهم.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».