بالمثل العربي الشهير «أمرتهم أمري بمنعرج اللوى»، شرح الشيخ الدكتور فهد الماجد، الأمين العام لهيئة كبار العلماء، أدوار العلماء حيال معالجتهم ظاهرة الإرهاب، جازما في الوقت ذاته بأنه من الخطأ اعتقاد أن البيانات والفتاوى أيا كان مصدرها ستعالج وحدها الظواهر الفكرية، مشددا على قيام هيئة كبار العلماء بأدوارها حيال معالجة الإرهاب.
وفي حوار شامل للأمين العام لهيئة كبار العلماء، مع جريدة «الشرق الأوسط»، من مقر مكتبه الكائن بالطريق الرئيس للعاصمة السعودية (الرياض)؛ أوضح الشيخ الدكتور فهد الماجد أن على المرجعيات الشيعية أن تدين الإرهاب، مؤكدا أن الطائفية لن يستفيد منها أي من التيارات، إلا الذي يعتاشون على تمزق العالم الإسلامي والمنطقة العربية على وجه الخصوص، لافتا إلى أن المجتمع الدولي إذا كان صادقا في مكافحته الإرهاب فعليه أن يتبنى منطق العدل، ورفض ازدواج المعايير، وأن يحارب الإرهاب بصوره وأشكاله كافة.
وعد الشيخ الماجد استهداف الشباب السعودي والتغرير بهم وإرسالهم إلى مناطق الصراع، أمرا مقلقا، مستدركا في الوقت عينه أن أعدادهم تأتي في إطار محدود، وأنهم تحت السيطرة، مشيدا بالأدوار التي قامت بها وزارة الداخلية أخيرا من القبض على المحرضين والمغرر بهم.. فإلى نص الحوار:
* شكرا لكم الشيخ ماجد على منحنا الوقت للحديث معكم حيال ملف الإرهاب.. هل لكم أن تحدثونا في البداية عن دور هيئة كبار العلماء في مكافحة الإرهاب؟
- لهيئة كبار العلماء دور كبير في مكافحة الإرهاب، الذي هو ظلم وعدوان وتعدٍّ على الأنفس والحقوق، وذلك عبر عدد من البيانات والفتاوى التي يمكن أن يستخلص منها القارئ عددا من الأسس والمفاهيم في معالجة ظاهرة الإرهاب، التي هي ظاهرة عالمية تتجاوز البلدان والقارات والأديان والمذاهب، إضافة إلى أن هيئة كبار العلماء تقوم بدور فاعل في تعزيز الوسطية والاعتدال، وهذا الذي هو موجود فعلا في الشعب السعودي الذي يتميز باعتداله وتوازنه، أما المتطرفون فهم موجودون في كل العالم.
* إذن، هل يمكن أن نقول إن بيانات الهيئة وفتاواها أدت دورا كبيرا في مكافحة الإرهاب؟
- بلا شك، قامت بدور كبير، لكن في الوقت نفسه من الخطأ اعتقاد أن البيانات والفتاوى أيا كان مصدرها ستعالج وحدها الظواهر الفكرية أو حتى الاجتماعية، ينبغي أن نفهم أن البيان أو الفتوى إذا صدرا فإنما يقومان مقام النذير العريان الذي ينبِّه قومه ويشحذ هممهم للحذر أولا وللعمل ثانيا، على حد قول العربي الأول: «أمّرتهم أمري بمنعرج اللوى».
إذن، فالبيانات والفتاوى ربما تكون نقطة البداية بصفتها توجيها وتحذيرا، لكنها ليست النهاية، والحلول النهائية تكون بالدراسات الشاملة علميا وميدانيا، وبالمشاريع التي تنهض بالأمة والوطن، وأهم من ذلك بالوسائل التربوية والتعليمية التي تحدد الهندسة الفكرية للعقول الناشئة والشابة.
لكن، أستطيع أن أقول عند هذا الجواب إن هيئة كبار العلماء تعد رائدة في معالجة ظاهرة الإرهاب من خلال وظيفتها في إصدار البيانات والفتاوى، وكان لها صداها المحلي والعالمي، وقد وصَّفت الإرهاب، وبينت حكم جرائمه، وحذرت من نتائجه، وأصدرت قرارا خاصا بوسائل تمويله وتجريمها، والهيئة بهذه الفتاوى والبيانات والقرارات التي يكمل بعضها بعضا تأتي طليعة لكل المؤسسات والهيئات والمراكز العلمية والشرعية في معالجة الإرهاب ومكافحته، لكن لا يعني هذا التوقف عند هذا الحد.
* كيف تقرأون الإرهاب في النطاق المحلي والإقليمي والعالمي؟
- الإرهاب مصطلح معاصر، لكن قضيته ليست جديدة، وهيئة كبار العلماء قدمت له توصيفا بوصفه جريمة تستهدف الإفساد بزعزعة الأمن، والجناية على الأنفس والأموال والممتلكات العامة والخاصة.
ولا بد أن نقرر أن الإرهاب بهذا التوصيف يعد ظاهرة عالمية، وإذا كان كذلك فلا يمكن لك أن تقدم قراءة خاصة له في نطاق محلي أو إقليمي أو عالمي، بل هو ظاهرة لها امتداداتها وتقاطعاتها، ومن ثم معالجتها تحتاج إلى رؤية شاملة تلحظ أبعادها وتأثيراتها، وأيضا تلحظ تحولاتها ووجوهها الأخرى؛ فالإرهاب مثل «الفيروس» الذي يوصف بأنه كائن على حافة الحياة، لأنه لا يمتلك بنية الخلية، ومع ذلك قد يتطور إلى نسخة أخرى، ويأخذ اسما جديدا، ليمثل خطرا آخر لا ينفع فيه العلاج القديم.
ومن وجوه الإرهاب الخطيرة التي يجب أن تدان كما يدان الإرهاب نفسه ولها علاقة أكيدة بسؤالك: «الطائفية المقيتة»، التي تؤجج الصراع، وتنتج القتل، وتعود على المنطقة بالخراب والدمار. والطائفية بهذا المعنى هي الوجه الآخر للإرهاب، بل قد تكون أخطر، ومن هنا فإننا ننادي بأن علماء السنة أدانوا الإرهاب الذي تمارسه «داعش» و«القاعدة» وما تفرع عنهما من جماعات، فيجب على «المرجعيات الشيعية» أن تدين الإرهاب الذي تمارسه الميليشيات وبعض الأحزاب الشيعية، وهو ما لم نسمعه حتى الآن، فالطائفية لن يستفيد منها أحد، إلا الذي يعتاشون على تمزق العالم الإسلامي والمنطقة العربية على وجه الخصوص.
* في بيانه الأخير، صرح المفتي العام للسعودية بأن أفكار التطرف والإرهاب الذي تمارسه «داعش» و«القاعدة» وما تفرع منهما من جماعات، عدو الإسلام الأول، ما قراءتكم لهذا التوصيف منه؟
- توصيف مفتي السعودية دقيق جدا، بسبب أن هذه الجماعات الإرهابية تمارس جريمة مزدوجة، فهي تضرب المسلمين في أوطانهم ومقدراتهم وتمزق نسيجهم الداخلي، ومن جهة أخرى تشوه صورة المسلمين والإسلام أمام تلفزة العالم وفي محطاته الإخبارية، من خلال ما يوثقونه ويصورونه ومن ثم يبثونه للعالم من جرائم يأباها الحس السليم، فضلا عن الدين القويم.
* هل من توجيه منكم لمن يفتي دون أذن في مسائل الجهاد والتكفير؟
- بالنسبة للجهاد ومسائله، فالحديث عنه من شقين، الشق الأول: شرح أحكامه وتقرير مسائله، فهذا يتناوله بالطرح العلماء والأساتذة في دروسهم ومحاضراتهم مثل باقي مسائل الفقه. وأما الشق الآخر، فهو تقرير إعلانه والدعوة إليه، فهذا ليس من شأن الأفراد حتى لو كانوا من كبار العلماء، لكنه من تدبير ولاة الأمر، فقد أناطه الشرع بهم، وهو في هذا السياق يدخل ضمن مسائل السياسة العامة التي تقدِّر المصالح والمفاسد، ولا يجوز الافتيات عليهم في ذلك.
وبالنسبة للتكفير، فموضوعه خطير جدا، ولذلك عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره في عدد من النصوص لما يترتب عليه من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال، وغير ذلك مما نراه في مناطق الصراع. وقد أصدرت فيه هيئة كبار العلماء بيانا بينت فيه أن التكفير حكم شرعي مرده إلى الله ورسوله، وأن التسرع فيه له خطره العظيم، وذكرت ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من جرائم وأخطار، وأن الإسلام بريء من هذه الاعتقادات والجرائم.
* كيف تقرأون جهود الأجهزة المعنية في تعزيز الأمن الفكري، ومنها جهود مناصحة من تأثر بالفكر التكفيري؟
- هي جهود مشكورة بلا شك، وقد أدت دورا ملحوظا، لكن مع تطورات الأحداث فإن ما نحتاج إليه هو استراتيجية شاملة يشارك في صناعتها المعنيون في الشأن الشرعي والعلمي والتعليمي والإعلامي والأمني، بحيث يشارك الجميع في صناعتها، ومن ثم تطبيقها، بمعنى أن تكون معالجة الإرهاب مشروع أمة ومشروع وطن.
* شهدت الآونة الأخيرة استهداف الشباب السعودي بالتغرير بهم والزج بهم في صراعات المنطقة، كيف تفسرون هذا الأمر؟
- هذا أمر مقلق فعلا، لكن - ولله الحمد - عدد المغرر بهم محدود وتحت السيطرة، ونشيد بما قامت به وزارة الداخلية أخيرا من القبض على بعض المحرضين والمغرر بهم، فذلك أسلم لهم وأسلم للمجتمع. ومن الخطوات العملية التي جرت لمنع التغرير بهؤلاء الشباب، ومواجهة المحرضين، هي أن العلماء أفتوا بحرمة الذهاب إلى مناطق الصراع، وعدوا ذلك خروجا عن موجب البيعة لولي الأمر، إضافة إلى أن الدولة جرمت الذهاب إلى تلك المناطق، وينبغي ألا نكتفي بذلك، وأن تنفذ حملة توعوية تكشف فساد دعوات التغرير هذه، كما أن وزارة الشؤون الإسلامية ومركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني أعلنا برنامجين يحملان الرسالة ذاتها، وندعو إلى الأخذ بحزم وقوة على يد هؤلاء المحرضين، لا سيما أصحاب المعرفات الوهمية أو الصريحة في شبكات التواصل الاجتماعي إذا ثبت تحريضهم.
* ما تفاصيل قرار هيئة كبار العلماء المتعلق بتجريم تمويل الإرهاب؟
هيئة كبار العلماء أصدرت في جلستها العشرين الاستثنائية المنعقدة بالعاصمة الرياض قبل أربع سنوات، قررا يعد تمويل الإرهاب أو الشروع فيه أمرا محرما وجريمة يعاقب عليها شرعا، سواء بتوفير الأموال أو جمعها أو المشاركة في ذلك بأي وسيلة كانت، وسواء كانت الأصول مالية أو غير مالية، وسواء كانت مصادر الأموال مشروعة أو غير مشروعة، وأن من قام بالجريمة عالما فقد ارتكب أمرا محرما، ووقع في الجرم المستحق للعقوبة الشرعية، بحسب النظر القضائي.
وقرار الهيئة أكد أن تجريم تمويل الإرهاب لا يتناول دعم سبل الخير التي تعنى بالفقراء، في معيشتهم، وعلاجهم، وتعليمهم؛ لأن ذلك مما شرعه الله في أموال الأغنياء حقا للفقراء، وإن هيئة كبار العلماء توصي المسلمين جميعا بالتمسك بالدين وهدي النبي الكريم، والكف فورا عن كل عمل من شأنه الإضرار بالناس والتعدي عليهم.
* في نهاية هذا اللقاء معكم، ما الرؤية الشاملة التي أشرتم إليها أثناء هذا اللقاء لمكافحة الإرهاب؟
- طبعا، لا يمكن أن نطرح هذه الرؤية في جواب مختصر، لكن بالإمكان أن نذكر عبارات مهمة تعبر بعض الشيء عن هذه الرؤية، فمن ذلك أولا: الإرهاب يتكون من فكر وسلاح، وكما أن السلاح يجب أن يُضرب، فإن الفكر ينبغي أن يُنقض، ذلك أن الفكر هو الحاضن والمحرك للسلاح، كما قال الوزير أبو الحسن بن الفرات فيما رواه عنه أبو الحسن الصابي في تاريخ الوزراء: «السيف تابع والقلم متبوع، وقلَّ سيف غلب القلم إلا كان داعية الخراب».
وثانيا: إذا كان الإرهاب هكذا يتكون من فكر وسلاح، فلا بد إذن من صناعة هذه الرؤية الشاملة أو الخطة الاستراتيجية التي أراها تتحقق في تنمية الإنسان والمكان، حتى تنمية الزمان، إذا أردنا أن نقرأ التنمية في طروحتها الأعمق، ومن ثم فإن المنطقة العربية لن تبتعد عنها تهديدات الإرهاب ما لم تنخرط في مشروع تنموي كبير يشترك في بنائه الجميع ويحقق الرفاه والسلم الاجتماعي.
وثالثا: مع ذلك، سنبقى جزءا من العالم نتأثر بصراعاته وأحداثه، ولذلك فإن إنشاء خادم الحرمين الشريفين المركز الدولي لمكافحة الإرهاب ودعمه له في غاية الأهمية، ذلك أن الإرهاب خطر على الجميع، وسيصل حتى من يظنون أنهم آمنون منه إذا لم تجر محاربته، وعلى وجه السرعة، كما أشار إلى ذلك خادم الحرمين الشريفين في كلمته للسفراء.
والأمر الرابع والأخير: هو ما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - في كلمته التي وجهها للمجتمع الدولي، وهو أن الإرهاب إرهاب دول، وإرهاب جماعات، وكما تجري مكافحة إرهاب الجماعات فيجب أن يكافح إرهاب الدول، وفي طليعة ذلك إرهاب دولة الاحتلال «إسرائيل»، وإرهابها أخطر من إرهاب الجماعات؛ لما تمتلكه من إمكانات وقدرات. وإذا كان المجتمع الدولي صادقا في مكافحته الإرهاب، فينبغي له أن يتبنى منطق العدل، ورفض ازدواج المعايير، بأن يحارب الإرهاب بصوره وأشكاله كافة، وحينئذ يمكن أن يعم السلام العالم، وأن يُبنى عالم يتسم بالتفاهم والحوار والوقوف مع القضايا العادلة دون الانزواء إلى المصالح الضيقة وإن صادمت العدالة.