الشاعر المصري عاطف عبد العزيز يوقع النقاد في «شرك الدلالة»

سمى ديوانه الجديد «ترجمان الروائح» فتناولوه على محمل ابن عربي

غلاف «ترجمان الروائح»
غلاف «ترجمان الروائح»
TT

الشاعر المصري عاطف عبد العزيز يوقع النقاد في «شرك الدلالة»

غلاف «ترجمان الروائح»
غلاف «ترجمان الروائح»

أوقع الشاعر المصري عاطف عبد العزيز نقاد ديوانه الجديد «ترجمان الروائح» في مفارقة فنية شائكة، ربما لم تكن مقصودة، لكنها مع ذلك كشفت قصورا ما في الرؤية لدى هؤلاء النقاد، وعطبا في أدواتهم النقدية، التي تستريح دائما للدلالة في معناها الأولي المباشر.
تنبع المفارقة من مقابلة عنوان الديوان الصادر أخيرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مع ديوان «ترجمان الأشواق» للمتصوف العربي الشهير محيي الدين بن عربي، وكأن ثمة شكلا من التناص المضمر بين الكتابين، لكن هذا التناص لم يتجاوز برأيي، حدود الاقتباس الناقص لروح العنوان.
الطريف في الأمر أن كلا الشاعرين؛ ابن عربي وعاطف عبد العزيز، رغم البون الزمني والفني الشاسع بينهما، خدع نقاده وأوقعهم فيما أسميه «شرك الدلالة» أو «الدلالة الشرك»؛ فابن عربي، رغم أنه خصص ديوانه لمدح امرأة تدعى «نظام» بنت الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني، التي عرفها في مكة سنة 598 عندما قدم إليها لأول مرة من المغرب، فإنه في تقديمه له أكد أن كل ما يذكره من أسماء ومدح وغزل في هذا الكتاب إنما هي إشارة إلى معان إلهية رفيعة.
لجأ ابن عربي إلى ذلك التبرير اتقاء لهجوم من أخذوا عليه مثل هذا النوع من الغزل الواضح الذي لا يستقيم والحديث عن الذات الإلهية، كما أنه أشار في مواضع أخرى، خصوصا كتابه «الفتوحات المكية»، إلى أنه استعمل ألفاظ وأوصاف الغزل الواضح، لأنه أراد هذا لتتوافر الدواعي للإصغاء إليها.
هذا اللعب العاطفي، تارة تحت قناع التصوف، وتارة أخرى تحت قناع العشق، وبين شاعرين همزة الوصل بينهما هي كيف تكون القصيدة وعاء الوجود، وعاء النفس والجسد والروح، يجعلنا نعيد النظر في «التناص» بوصفه مقوما نقديا ومعولا فنيا، فليس مهمّا أن تكون لـ«التناص» شواهده المادية الماثلة في النص، قد يمارس الشاعر هنا نوعا من الإزاحة له فوق أسوار الوعي، مبقيا فقط على روائحه ونثاره، يتموج في طبقات الرؤية، ويومض من بعيد كظل عابر في نسيج النص.
وعلى ذلك ركز النقاد جل همهم على استكناه دلالة الرائحة في ديوان عاطف عبد العزيز، وتتبع تقاطعاتها ومساربها ومحمولاتها الرمزية في فضاء الديوان، بوصفها حجر الرؤية، ومحور إيقاع الفعل الشعري ومداراته المتنوعة، بينما النظرة الفاحصة للديوان تضعنا إزاء مس عابر لدلالة الرائحة، خصوصا أمام نصوص مهمومة بشعرية الأشياء والأفكار وفض علائقها ووحداتها السرية المستترة فيما وراء الظلال والإشارات العابرة، في حركة الواقع والبشر وتقاطعات الجسد والروح.
في مقابل ذلك، تقفز فكرة التنفس فوق سطح نصوص الديوان، وتتخفى في جنباتها، وتراوغ بخفة فضاء الصور والعلامات والرموز، ليس فقط بصفتها دلالة أساسية وجوهرية، تمثل الروح المخفية أو القصية للديوان، وإنما هي النقطة الأساس التي ينطلق منها جدل الحلم والذاكرة في الديوان، وهو جدل مهموم باصطياد نوافذ ومجالات إدراك جديدة للأشياء والعناصر، لكي تتنفس هواء مغايرا، محملا بروائح حقيقية وطبيعية للأشياء في شهوتها وحريتها الأولى.
وتبرز دلالة التنفس فكريا، بوصفها قيمة فاصلة بين الوجود والعدم، فتعطل حاسة الشم أو تصيبها بعطب ما، يمكن العيش والتأقلم معه، على عكس حاسة التنفس، فلو تعطلت، أو أصابها عطب ما، فمعنى ذلك أن وجود الكائن البشري في خطر، إن لم يكن قد دخل بالفعل في فضاء العدم.
يجسد الديوان هذا المعنى وينوع تراسلاته بشكل شيق بين نص وآخر، صانعا منه جسرا شفيفا يربط فضاء الحلم بالذاكرة.. الوعي باللاوعي، وفي الوقت نفسه، ينتشل الذات من الوقوع في براثن العادة والمألوف.
تحت هذه المظلة يصطحب الشاعر قصيدته «مملكة الأشياء»، ويضعها في اختبار شعري مباغت وشجي، متأملا ذاته الشاعرة، وهي تومض في حزمة من الهويات الجديدة المتخيلة، وكأنها زمن القصيدة الخفي الشارد من ركام الزمن اليومي، بكل تناقضاته وفواجعه التي لا تكف عن إنتاج الصمم والخواء.. فيتخيل نفسه خبّازا يرقب الخبز وهو ينتفخ من تلقاء نفسه كأنه «ملائكة صغيرة تعشش في سقف الفرن».. أو صاحب دكان صغير على رأس حارة، لتكون لديه «كبشة» من العملات الصدئة «أختلي بها.. وأشم فيها رائحة أطفال ذاهبين إلى المدارس».
ثم يفكر أن يكون راقصا في فرقة جوالة، أو سقّاء.. «لعل البنت التي شعرها أصفر، وعيناها اخضرار برسيم، أن ترفع الغطاء عن زير حطوه في فناء البيت، وتقع في حبائلي»، أيضا يتمنى أن يكون «كاتبا للرسائل الغرامية مثل (فلورنتينو أريثا) العاشق في زمن الكوليرا.. سجل من العاشقات الخلاسيات سيكون آنذاك في حوزتي». وفي الأسواق سيهرب من رائحة السمك، ويختار طاولة «تباع فوقها مشابك شعر البنات»، كما أنه يتمنى أن يكون «زبّالا» ليجمع النفايات المطلة على نيل العجوزة (إحدى المناطق اللافتة بالقاهرة)، ويصور ذلك وكأنه مهمة شعرية تنطوي على جمال شيق، وكأن القمامة مخزن أسرار لحياة البشر قائلا:
«ستكون بلّورتي المسحورة التي أرى فيها
طوالعَ زبائني.. ونوازلهم:
قشرةُ الموز هذه انتظارةُ غائب
مِزقةُ الفستان إطلالةٌ خاطفةٌ علينا من أيام العافية
قصاصةُ الورق فكرةُ عاشق قد انطفأت..
وكلما سألني أحد عن حرفتي.. قلت:
أنا الذي إذا مرّ بمكان - يا خلق - صار أجملَ مما كان
أنا ترجمان الروائح
العاشقُ الذي يعرف أحوال معشوقته
على البعد
من أشيائها المتروكة»
ومن ثم، يحرر عاطف عبد العزيز قصيدته من نمط العادة والمألوف، ويمنحها حرية التحليق في فضاءات مباغتة، وينعكس هذا على اللغة، فتصبح أكثر شفافية واختزالا، ويكثفها بوخزات لها وقع الفلسفة أحيانا والسخرية أحيانا أخرى.. يدسها في نسيج الصورة، فتكتسب جدة وحيوية، وفي ظلال مشهدية مولعة بالمكان، تعيد ترتيبه، بأناقة مخيلة، وخيال متقد، يذهب دائما فيما وراء المشهد نفسه.. يدفع محمولاته التراثية والحياتية ورموزه الثورية والعاطفية، إلى ما هو أبعد دائما من عتبة النظرة العادية المباشرة، وكأن الشاعر يريد من قارئه أن ينغمس بكليته في نسيج المشهد.. أن يحس أنه متورط فيه، عن حب، ووعي معا.
هذه المشهدية التي تأبى أن تتعامل مع المكان بوصفه أثرا غابرا، وإنما روحا ممتدة في الزمان والمكان، تبرز بشكل لافت في معظم نصوص الديوان، وتحتضن في حراكها علامات ورموزا وعناوين أمكنة لها وقعها الشجي، وشخوصا كان لهم دبيبهم الخاص في غبارها وغبار القصيدة معا: بورخيس و«مديح الظل»، كفافيس و«ضياع العينين الزرقاوين»، حلمي سالم و«رئات أخرى للتنفس».. ميدان التحرير ورياح ثورة 25 يناير، مقهى البستان وصخب المثقفين والشعراء، وجبال القلمون؛ حيث ريم بوجهها الشامي العابر بين مراتع الأهل، باب الفتوح وسكة العابرين للتاريخ، مشاهد وصور لأصدقاء عبروا من هنا وهناك.. وغيرها من الإشارات والرموز المجدولة بعناية فنية رهيفة في تضاريس الديوان، تحل في النصوص بوصفها نوافذ جديدة تطل منها على مصائرها، وتعيد ترتيب الوقت والحياة في ذكرى أو ضحكة عابرة، أو دمعة تركت غبارها في غفلة فوق ركبة اللغة.. يحتويها الشاعر كشظية سؤال مفتوح على الأزمنة والأمكنة، وكما يقول:
«أي بلل ذاك الذي بقي يانعا في جحيم العزلة
أقول: لا اعتذارَ عن شيء
ينقسم العالمُ دائما من تلقاء نفسه:
أسئلة حيةٌ.. زهورٌ ميتة».
فهكذا، تتعدد الروائح في هذا الديوان، لتصب في النهاية في حاسة التنفس الأعمق والأكثر تجذرا في حياة الإنسان، بل هي التي تمنح كل رموز الشاعر وحيويته الفنية هواءها الخاص، وتجدد هذا الهواء في المكان والزمن، وفي حركة العناصر والأشياء.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!