«60 دقيقة» يختبر حاسة الشك الصحافي عند مراسليه في بداية مسيرتهم المهنية

البرنامج كشف خروقات كثيرة سابقة ارتكبتها «سي آي إيه»

جون ميللر أجرى الكثير من التحقيقات الاستقصائية عن خروقات أجهزة الاستخبارات الأميركية (نيويورك تايمز)
جون ميللر أجرى الكثير من التحقيقات الاستقصائية عن خروقات أجهزة الاستخبارات الأميركية (نيويورك تايمز)
TT

«60 دقيقة» يختبر حاسة الشك الصحافي عند مراسليه في بداية مسيرتهم المهنية

جون ميللر أجرى الكثير من التحقيقات الاستقصائية عن خروقات أجهزة الاستخبارات الأميركية (نيويورك تايمز)
جون ميللر أجرى الكثير من التحقيقات الاستقصائية عن خروقات أجهزة الاستخبارات الأميركية (نيويورك تايمز)

في الأسبوع الماضي، توصلت دراسة، أجريت بناء على تكليف من الرئيس باراك أوباما، إلى أن نشاطات وكالة الأمن القومي الاستخباراتية قد انتهكت إلى حد بعيد الحياة الخاصة للأميركيين. وقد تضمنت الدراسة، التي جاءت بعد الكثير من التحقيقات الصحافية التي كشفت ممارسات الوكالة غير المشروعة في مجال التجسس والمراقبة، الكثير من التوصيات المتعلقة بإجراء إصلاحات من شأنها الحد من الامتيازات الممنوحة للوكالة. وقد قال الرئيس أوباما بأنه «مستعد لمناقشة الكثير» من تلك الاقتراحات.
وقد كان السبب وراء إجراء تلك الدراسة هو نوعية التحقيقات الإخبارية التي غالبا ما يقوم بإنتاجها برنامج «60 دقيقة»، الذي يعتبر المصدر الرئيس في الولايات المتحدة للأخبار التلفزيونية الجادة. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، كشف البرنامج الكثير من الخروقات التي ارتكبتها وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»، كما فضح الكثير من المتعاقدين العسكريين المارقين، بالإضافة إلى مئات الجهات ذات الأهداف الشريرة.
لكن السؤال: ما هي علاقة برنامج «60 دقيقة» بالدراسة التي أجريت عن وكالة الأمن القومي؟ في يوم الأحد الذي سبق الدراسة التي تدين الوكالة، قام البرنامج بإنتاج فقرة قال البعض عنها بأنها تبدو كما لو كانت إعلانا ترويجيا لكسب ود الوكالة. وقد تضمنت الفقرة، التي قام بعملها جون ميللر، المراسل الصحافي لقناة سي بي إس (CBS)، لقاءات مكثفة مع الجنرال كيث الكسندر، مدير وكالة الأمن القومي.
وفي أحد المشاهد التي تبدو معبرة عما يدور في الفقرة بشكل عام، يقوم معدو البرنامج بالتفاوض من أجل دخول «الغرفة السوداء»، وهي غرفة غاية في السرية حيث تجري فيها أكثر أعمال فك الشفرات سرية في الولايات المتحدة الأميركية. وخلال ذلك المشهد، يفتح الباب قليلا لنرى غرفة هادئة مثل أي غرفة أخرى، ثم يغلق الباب مرة أخرى. وقد وفر لنا ذلك المشهد فرصة رؤية «الغرفة السوداء» من الداخل، غير أننا، في الوقت ذاته، لم يتسن لنا أن نفهم شيئا.
وتأتي الفقرة عن وكالة الأمن القومي في أعقاب التقرير الذي أجراه البرنامج عن هجمات بنغازي، التي راح ضحيتها السفير الأميركي، والذي ظهر الآن عدم مصداقيته بسبب ما قال «60 دقيقة» بأن شاهد العيان أعطى شهادة بعيدة كل البعد عن الحقيقة. غير أن تلك الفقرة ترسم الكثير من علامات الاستفهام عما إذا كان البرنامج قد فقد، ولو مؤقتا، سحره وبريقه، بل أيضا فقد حاسة الشك في صحة ما يعرض عليه من تقارير صحافية. ولم تفلح تلك الفقرة في تحسين صورة الوكالة، ففي اليوم التالي لإذاعة الفقرة أصدر قاض فيدرالي حكما بعدم دستورية برنامج الوكالة لجمع التسجيلات الهاتفية.
وفي الفترة بين تقرير بنغازي وفقرة وكالة الأمن القومي، تعرض أداء برنامج «60 دقيقة» للكثير من النقد بسبب سماحه لشركة «أمازون» بالترويج لبرنامج عن خدمات التوصيل بواسطة الطائرة من دون طيار والذي يبدو بعيدا كل البعد عن الواقع، إذا لم يكن قد حدث بالأساس. وقد شكل برنامج «أمازون» نظرة خيالية لمستقبل الخدمات التجارية، رغم أن «تشارلي روز»، الصحافي الذي يعمل لحساب «60 دقيقة»، سأل جيف بيزوس، مؤسس والرئيس التنفيذي لـ«أمازون»، بعض الأسئلة الحادة مثل: هل كان تقديم خدمات الطائرة من دون طيار لصالح وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) سببا في إشعال صراع من نوع ما؟ وهل كان سعي «أمازون» الحثيث للاستحواذ على حصة أكبر من السوق هدفا عادلا؟
دعونا نفترض أن برنامج «60 دقيقة» كان وسيظل كنزا مهما في مجال التحقيقات الصحافية والإخبارية، والتي كان من بينها في عام 2013 تحقيق عن الممارسات السيئة للوكالات التي تقوم بعمل تقارير الائتمان، وتحقيق عن ارتفاع معدل الانتحار وسط الجنود العائدين من الحروب، وكذلك تحقيق عن كيف أدت بعض طرق العلاج الملوثة إلى حدوث إصابات بالتهاب السحايا الدمغاية والذي أدى بدوره إلى وفاة عشرات الأشخاص ومرض مئات آخرين. كما نجح «روز» في إجراء لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد عن الأسلحة الكيماوية. وفي الوقت الذي يغيب عن كثير من البرامج والجهات الصحافية الفارق بين تعريف الخبر وكيفية إنتاج ذلك الخبر، يبقى أداء برنامج «60 دقيقة» بعيدا عن الوقوع في مثل ذلك الخطأ.
وعلى مدار تاريخه، ظل انتشار خبر عن أن طاقم عمل برنامج «60 دقيقة» قد دخل إلى ردهات مكان ما أو أن أحد العاملين به ينتظر على الهاتف يقذف الرعب في قلوب الجميع، سواء كانوا شرفاء أو غير شرفاء. وكان البرنامج دائما ما يسبب قلقا شديدا لضيوفه أو الجهات موضوع تحقيقاته، كما كان يخلق جوا من التشويق عند جمهوره، حيث كان يقدم عملا صعبا ومدهشا في الوقت ذاته يكشف عن نتائج محددة تستوجب المساءلة.
غير أنه وخلال الأشهر القليلة الماضية، حدثت بعض الأخطاء الفادحة مثل الوقوع فريسة سهلة لسرعة التصديق عندما كان صحافيو البرنامج يميلون «للشعور بالدهشة» أكثر من «محاولتهم البحث في مصداقية» ما يتلقونه من معلومات. وهذا ما جرد خبر وجود أحد العاملين ببرنامج «60 دقيقة» على هاتف أحد المسؤولين من مهابته المعتادة.



شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.