العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

معادلات السياسة وضعته في مواجهة المأزق العراقي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي
TT

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

حتى اللحظة التي جرى فيها الإعلان عن انشقاق حيدر العبادي القيادي البارز في حزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه نوري المالكي، كان أكثر ما يفتخر به ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي أيضا هو التماسك الذي أظهره بوجه كل محاولات التفتيت التي سعى إليها شريكه وخصمه وغريمه في التحالف الوطني الشيعي، الائتلاف الوطني الذي يضم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم.
في وقت كان فيه الترشيح لمنصب رئيس الوزراء المقبل يكاد يكون حكرا من جهة دولة القانون على المالكي حصرا رغم وجود قياديين كبار في ائتلافه من أمثال حسين الشهرستاني (نائب رئيس الوزراء ورئيس كتلة مستقلون) وهادي العامري (وزير النقل وزعيم منظمة بدر) بالإضافة إلى قياديين في الدعوة نفسه ومن أبرزهم علي الأديب (وزير التعليم العالي) وطارق نجم (مدير مكتب المالكي) فإن الأنظار لم تكن تتجه كثيرا على العبادي.
وبينما انعدمت فرص العبادي تماما في أن يكون بديلا اضطراريا للمالكي من قبل دولة القانون فيما لو حصلت تطورات تطلبت تغيير المالكي من داخل ائتلافه لا سيما بعد انتخابه نائبا أول لرئيس البرلمان بترشيح من دولة القانون وتزكية من التحالف الوطني، فإن التطورات التي بدت لافتة للنظر للجميع ولكنها بمثابة الصاعقة أو التسونامي بالنسبة للمالكي والدائرة المحيطة به والمقربة منه والتي قضت بانشقاق العبادي من الدعوة وخروج الشهرستاني والفضيلة من دولة القانون ووقوف إبراهيم الجعفري الذي كان أحد الطامحين بالمنصب بالضد من المالكي فإنها مثلت أكبر هزة يتعرض لها دولة القانون بعد ثمانية أعوام من السلطة والنفوذ.
ويرى مراقبون سياسيون أن ترشيح العبادي لمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان مرشح من قبل المالكي وقيادة حزب الدعوة باعتبار أن منصب مسؤول المكتب السياسي للحزب والناطق الرسمي باسمه إنما جاءت إرضاء لطموحات الرجل المتزايدة فإن هناك من يرى أنها مسعى من المالكي للتخلص من رجل قد يبدو طامعا في منصب لن يناله أبدا بوجود المالكي. لكن رياح العبادي جرت بما لا تشتهي سفن المالكي. ففي وقت أهدر المالكي فرصة تاريخية أمامه في أن يبقى في دائرة الضوء من خلال ترشحه هو شخصيا إلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية في حال تنازله مقابل أن يجري ترشيح مدير مكتبه طارق نجم لرئاسة الوزراء مع بقاء العبادي نائبا أول لرئيس البرلمان والأهم بقاء حزب الدعوة ودولة القانون موحدين.

* نهاية البيت الشيعي

* مع انتهاء المهلة الدستورية والتي خضعت إلى تمديد قسري وحيال إمكانية اضطرار رئيس الجمهورية إلى إعادة تكليف المالكي لولاية ثالثة بوصفه صاحب الكتلة الأكثر عددا ما لم تتشكل كتلة أكبر منها فلم يعد أمام الرافضين للمالكي من التحالف الشيعي سوى أن يقبلوا بالعبادي بعد أن بدا أنه مستعد للانشقاق ومعه كتلتان مهمتان وهما (مستقلون والفضيلة) بالإضافة إلى قيادات من حزب الدعوة في سادس انشقاق للحزب الذي تأسس أواخر خمسينات القرن الماضي. شيعيا يرى رجل الدين الشيعي والأكاديمي عبد الحسين الساعدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل انقلاب خطير داخل البيت الشيعي لن يغفر التاريخ لحيدر العبادي وإبراهيم الجعفري ما قاما به وأريد القول هنا إنني لست بالضرورة مؤيدا لتوجهات التحالف الوطني لا سيما خلال الدورة البرلمانية التي انتهت والتي حاول من خلالها المالكي احتواء الجميع بالإضافة إلى كونهم جميعا غلبوا مصالحهم الشخصية على مصالح الطائفة (الشيعية) والوطن لكن أقول إن القرار السياسي في العراق الذي كان يهيمن عليه الشيعة طوال السنوات الـ11 الماضية من التغيير لم يعد شيعيا». ويضيف الساعدي أن «العبادي الذي يعد من كبار قادة حزب الدعوة وممن له تاريخ في هذا الحزب لا يمكن نكرانه فإنه الآن ومن أجل مصالح السلطة انقلب هو الآخر على رفاقه مثلما فعل المالكي والجعفري قبله وملخص ذلك أن السلطة والنفوذ والكراسي جعلتهم يفقدون توازنهم ويضيعون تاريخهم والوطن كذلك». ويرى الساعدي أن «العبادي لا يملك مواصفات عالية لرجل الدولة الذي يمكن أن يقود بلدا ممزقا مثل العراق خلال السنوات المقبلة وبالتالي فإنه سيواجه أولا مهمة صعبة وسيكون مضطرا لإعطاء تنازلات كبيرة للسنة والأكراد كما أتوقع أنه سيدور في الفلك الأميركي وليس الإيراني لأن إيران وبعد أن حظي العبادي بكل هذا الدعم الأميركي سوف تبقى تنظر إليه على أنه الرجل الذي أنهى القرار الشيعي شأنه في ذلك شأن المالكي الذي تنكر أخيرا للتحالف الوطني الذي أوصله إلى رئاسة الوزراء مرتين وبدأ يتحدث عن دولة القانون ككتلة أكبر» مشيرا إلى أنه «من باب المفارقة أنه في الوقت الذي كنا نتوقع أن يكون للعلمانيين والمدنيين دور بارز في سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين فإن ما يلفت النظر أن البيت الشيعي انتهى على يد كبار قادة الأحزاب الإسلامية وفي المقدمة منها الدعوة».

* تكنوقراط ديني

* السيرة الذاتية للرجل تشير إلى توجهات تبدو متناقضة في آن واحد. فرغم أنه ينتمي إلى أسرة علمية (والده طبيب) فإن توجهاته الدينية بدت مبكرة حين انضم لحزب الدعوة عام 1967 وهو في الـ15 من العمر (العبادي من مواليد بغداد عام 1952 في محلة الكرادة المعروفة). وبالتوازي مع هذه التوجهات الدينية التي كلفته كثيرا (إعدام اثنين من أشقائه من قبل نظام صدام حسين) ومطاردته هو شخصيا فإنه أمضى مسيرته الدينية والعلمية في بريطانيا التي أكمل فيها دراساته العليا في هندسة الكهرباء والإلكترونيات (الماجستير والدكتوراه عام 1980). وفي بريطانيا نفسها تولى مسؤولية مكتب الشرق الأوسط لحزب الدعوة. وبينما أصبح عضوا في القيادة التنفيذية للحزب فإنه تخصص في (هندسة الكهرباء والإلكترونيات) ومضى بعيدا في توجهاته الدينية إلى الحد الذي أصدر مؤلفات في هذا الجانب من بينها كتاب «المختصر في تفسير القرآن». وبينما عاد العبادي مع العائدين من أمثاله من قيادات الأحزاب الإسلامية بعد سقوط النظام العراقي السابق عام 2003 فإنه تولى وزارة الاتصالات في عهد مجلس الحكم الانتقالي عام 2003 ومن ثم انتخب لعضوية البرلمان العراقي لدورتين وتولى في الدورة الأخيرة رئاسة اللجنة المالية في البرلمان. ومع أنه من وجهة نظر القيادي في تحالف القوى العراقية (الكتلة السنية في البرلمان العراقي) محمد الخالدي الذي شغل في الدورة الماضية منصب مقرر البرلمان العراقي الذي يصف العبادي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بأنه «كان من المدافعين الأقوياء عن سياسات رئيس الوزراء نوري المالكي ظالما أم مظلوما إلا أننا نرى أن ما حصل هو أمر مهم للتغيير الذي كنا ننتظره».
وحول ما إذا كانت القوى السنية تراهن على العبادي الخارج توا من حزب الدعوة ومدى إمكانية تعاونها معه يقول الخالدي إن «في السياسة كل شيء ممكن وبالتالي فإننا ننظر إلى ما حصل على أنه خطوة أولى نحو ما كنا نطمح إليه لكننا يجب ألا نفرط في التفاؤل». ورغم أن الخالدي يحاول إخفاء نبرة التشاؤم من ألا يكون العبادي الخلف المطلوب للمالكي وهو القيادي البارز في حزب إسلامي شمولي وأحد رفاق المالكي والمدافعين عنه وبالتالي فإن ما جعله ينقلب على رفيق دربه هو المنصب، إلا أنه يرى أن الأهم بالنسبة لنا هو المنهج الذي يجب أن يتغير وليس الأشخاص فقط لأن تغيير الأشخاص مع بقاء المنهج نفسه فكأننا لم نعمل شيئا». ويربط الخالدي تعاون السنة مع العبادي بإمكانية «تحقيق ما انتفضت من أجله المحافظات الغربية وإعادة التوازن المفقود للعملية السياسية». السياسي العراقي المعروف والقيادي السابق في ائتلاف دولة القانون عزت الشابندر يرى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل أمر مهم باختيار بديل للمالكي من داخل التحالف الوطني وبإرادة عراقية ودون إملاءات إيرانية وهو التغيير الذي حصل على دعم داخلي ودولي في غاية الأهمية» مشيرا إلى أن «المالكي حاول أن يغير المعادلة السياسية بالقوة عندما حرك الأجهزة الأمنية لليلة كاملة ومن ثم اضطر إلى اللجوء للقضاء لحسم الأمر الذي قضي لغيره». وبشأن ترشيح حيدر العبادي لخلافة المالكي فإن للشابندر وجهة نظر قد تبدو مختلفة عن وجهة نظره السابقة عن العبادي حين وصفه في لقاء تلفزيوني بألفاظ نابية حيث يرى اليوم أن «العبادي وإن كان حزبيا إلا أنه رجل مدني وهو من عائلة بغدادية وسوف ينفتح على الحياة المدنية وهو ما تتطلبه الظروف في الوقت الحاضر».

* العبادي والخروج من شرنقة الصفقة الواحدة

* للمرة الأولى في تاريخ العملية السياسية في العراق تأتي الرئاسات الثلاث طبقا إما لتسويات أو انقلابات داخل الكتل السياسية الرئيسة (الشيعية والسنية والكردية) التي تنتج الرئاسات الثلاث.
ففي الدورتين البرلمانيتين الماضيتين كان يجري انتخاب الرئاسات الثلاث طبقا لسلة أو صفقة واحدة بحيث يجري التصويت على الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والبرلمان والوزراء) عبر سلة واحدة يتفق عليها بين الزعامات السياسية العليا بحيث تأتي «الطبخة» جاهزة أمام البرلمان الذي يتعين عليه التصويت على الثلاثة معا. لكن في هذه الدورة اختلف الأمر. فالكتلة السنية التي ترشح رئيس البرلمان لم تنسق مع كتلتي الشيعة والكرد بشأن ذلك. بل تمت عملية الاختيار بانتخاب داخلي وهو ما أفرز سليم الجبوري (دكتوراه في القانون) ليتولى منصب رئيس البرلمان. والأمر نفسه حصل لكتلة التحالف الكردستاني التي اختارت عبر انتخابات داخلية فؤاد معصوم (دكتوراه في الفلسفة الإسلامية) رئيسا للجمهورية. أما ما حصل داخل الكتلة الشيعية فهو انقلاب داخل هذه الكتلة جرى بموجبه اختيار حيدر العبادي لأنه دون هذه الصيغة فإنه من غير الممكن أن ينجح نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون الذي يصر على أنه الكتلة الأكبر في البرلمان على تشكيل الحكومة من خلال عدم قدرته على نيل الثقة داخل البرلمان بسبب مقاطعة الكتل السياسية له. وطبقا لما يراه المراقبون السياسيون فإنه في الوقت الذي نجحت فيه الكتل السياسية ورغم الأزمة الخطيرة التي تمر بها البلاد بعدم تخطي المدد الدستورية الخاصة باختيار الرئاسات الثلاث بعكس ما حصل عام 2010 حين بقيت الجلسة البرلمانية الأولى مفتوحة لسبعة أشهر فإنها نجحت أيضا بأن يجري الاختيار من داخل كل كتلة ولكن بنوع من الانسجام الذي يمكن أن ينعكس على أداء هذه الرئاسات التي كانت تجربتها خلال الأربع سنوات الماضية سلبية جدا لا سيما العلاقة بين رئاستي الوزراء والبرلمان.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.