بقي الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند «غامضا» أول من أمس في إعلان استعداد بلاده «للقيام بدورها كاملا» في العراق إن لجهة المساهمة عسكريا في الوقوف بوجه «داعش» أو لجهة المشاركة في إغاثة المدنيين، خصوصا المسيحيين والإيزيديين الذين هجرتهم «داعش» وقتلت المئات منهم.
ولا يبدو حتى الآن أن باريس حسمت أمرها حول طبيعة المساهمة التي ستقدمها ومداها وتوقيتها. فلا أوساط الإليزيه «توضح» الخطط الفرنسية ولا مصادر وزارة الدفاع كشفت عن استعدادات معينة للمساهمة في العمليات الجوية فوق شمال العراق. بالمقابل، فإن الوسط السياسي الفرنسي، خصوصا اليمين التقليدي، يحث هولاند على الانتقال من الأقوال إلى الأفعال. كذلك لم يتردد رئيسا حكومة سابقين، هما آلان جوبيه ودومينيك دو فيلبان، وكلاهما شغل منصب وزير الخارجية، عن دفع هولاند إلى «المبادرة» العاجلة.
وتقول مصادر رسمية فرنسية إن «أربعة أسباب رئيسة، على الأقل، تدفع فرنسا للمشاركة في جبهة (داعش) ليس أقلها عجز القوات العراقية وقوات البيشمركة الكردية عن تثبيت خطوط القتال ووقف تقدم مسلحين إلى درجة أن التنظيم بات يهدد عمليا أربيل وربما غدا بغداد نفسها». وترى باريس أن تطورات من هذا النوع ستكون «بالغة الخطورة»، وبالتالي لا يمكن الوقوف إزاءها مكتوفي الأيدي والاكتفاء بالإدانة اللفظية.
ويتمثل السبب الثاني، في منع «داعش» من تنفيذ مخططها الهادف إلى تغيير الصورة الديموغرافية للعراق واقتلاع المسيحيين والإيزيديين والأقليات الأخرى التي تعد باريس أنها تشكل فسيفساء بشرية ثرية يتعين الحفاظ عليها وحمايتها باعتبارها مكونا أصليا وأساسيا للعراق.
فضلا عن ذلك، لا تريد باريس «التنكر» لمسؤولياتها التاريخية لا في «حماية» المسيحيين في الشرق وهو الدور الذي تقوم به منذ مئات السنين وبموجب تفاهم مع الخلافة العثمانية ولا للدور الذي لعبته في «ولادة» العراق الحديث من خلال اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية - البريطانية التي رسمت حدوده كما حدود سوريا ولبنان وفلسطين في إطار اقتسام تركة «رجل أوروبا المريض» أي تركيا. ولذا، فإن التطورات الدراماتيكية في العراق ومن بينها إعلان «الخلافة» الداعشية والمجازر التي ترتكبها وما تحمله من تهديدات تتجاوز العراق لتطال كل المنطقة بما فيها منطقة الخليج الحيوية تدفع باريس للتحرك السبب الثالث، لأنها ترى أنه «إذا لم يوقف (داعش) اليوم فسيكون من الصعب إيقافه غدا».
وتربط باريس بين ما يحصل في لبنان وسوريا والعراق لتخلص إلى أن الخطر «واحد».
يبقى أن باريس السبب الرابع، رغم وعيها لمحدودية إمكانياتها ولقدرتها الضعيفة في التأثير على مسار الأحداث «لا تستطيع أن تترك الساحة للولايات المتحدة الأميركية وحدها سياسيا وعسكريا». وبما أن أوروبا غائبة (باستثناء بريطانيا التي كانت شريكة لواشنطن في الحرب على العراق عام 2003) فإن باريس تجد نفسها مدفوعة دفعا للتحرك والتدخل.
ومنذ أن نجح «داعش» في السيطرة على أجزاء واسعة من العراق ومن بينها الموصل، وضعت باريس شرطين للتدخل العسكري: الأول، أن تتلقى طلبا رسميا من السلطات العراقية (على غرار الطلب الذي وجهه رئيس الوزراء نوري المالكي لواشنطن) أو أن يجري التدخل بغطاء من مجلس الأمن الدولي بصورة قرار صادر عنه. ورغم أن التدخل الأميركي جرى من غير قرار دولي ومبرره الطلب الرسمي العراقي وحده، فإن هولاند أعرب عن «ارتياحه» للمبادرة الأميركية بموجب البيان الصادر عن قصر الإليزيه الذي أضاف أن فرنسا «ستنظر مع الولايات المتحدة وكل الشركاء في طبيعة ما يمكن القيام به». ويمكن أن يفهم المسار الجديد على أن باريس لم تعد «متمسكة» بغطاء دولي كما كانت في السابق.
لكن ما الذي تستطيع باريس القيام به؟
تقول أوساط عسكرية فرنسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط» إن «باريس الضالعة في عمليات عسكرية في مالي وأفريقيا الوسطى لا تنوي بتاتا إرسال قوات برية إلى العراق، في حال عزمت على المساهمة في الجهد العسكري ضد (داعش)». لذا، فالأرجح أن تشارك في ضربات جوية ضد مواقع التنظيم في شمال العراق، على غرار ما بدأته الطائرات الحربية الأميركية منذ الجمعة. لكن في هذه الحال، يطرح موضوع مرابطة الطائرات الفرنسية التي لا تملك في الخليج سوى نقطة ارتكاز واحدة في الإمارات (قريبا من العاصمة أبوظبي) حيث تشغل قاعدة متعددة المهام وحيث ترابط ست طائرات «رافال» مقاتلة. ولا تمتلك فرنسا سوى حاملة طائرات واحدة (الحاملة شارل ديغول) التي يتعين أن توجد الأسبوع المقبل في قاعدة طولون البحرية (على الشاطئ الفرنسي المتوسطي) للمشاركة في احتفالات إنزال الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية على الشاطئ المذكور. لذا، سيتعين على باريس أن تطلب مرابطة بضع طائرات مقاتلة إما في تركيا (وكلا البلدين عضو في حلف شمال الأطلسي) أو في الأردن. والحال أن موظفي القنصلية التركية في الموصل ما زالوا رهائن بيد «داعش» وربما لا تريد أنقره تعريض حياتهم للخطر عبر السماح لطائرات تتأهب لضرب ميليشياتها.
بالتوازي مع الضربات الجوية، يوجد بين باريس والعراق تعاون عسكري متعدد الأوجه وتستطيع باريس تكثيفه وتسريعه. بالإضافة إلى ذلك، أعلن قصر الإليزيه، عقب اتصال هاتفي بين هولاند ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني الخميس الماضي أن فرنسا جاهزة لمساعدة القوى التي تشارك في مقاتلة «داعش» وأن الطرفين الفرنسي والكردي عازمان على التعاون لوضع حد للهجوم الذي يقوم به «داعش». لذا، فإنه من المرجح جدا أن توفر باريس الدعم العسكري للبيشمركة التي تبدو في نظر فرنسا «القوة الوحيدة» المنظمة القادرة على مقاتلة «داعش». لكن امتداد خطوط الجبهات لمئات الكيلومترات يجعل البيشمركة بحاجة لدعم مكثف من الغربيين ومن فرنسا التي لها «علاقة خاصة» بأكراد العراق تعود لأيام الرئيس فرنسوا ميتران.
وإلى جانب العمل العسكري، تجهد باريس في اتجاهين أوروبي ودولي. فمن جهة، تحاول أن تحرك شركاءها داخل الاتحاد أقله للقيام بشيء ما على الصعيد الإنساني وإيصال المساعدات العاجلة للنازحين والمهجرين. كذلك، فإنها تعمل على المستوى الدولي عبر مجلس الأمن لتعبئته من أجل عزل «داعش» وفرض عقوبات عليها ومن أجل الاهتمام باللاجئين وتوفير ممر أو مناطق آمنة لهم. وبرأي باريس، فإن الأمر سيكون ميسرا بالنظر لغياب أي تناقضات مع روسيا التي أجهضت قرارات الأمم المتحدة بشأن سوريا.
لكن يبقى لباريس مطلب آخر نقله هولاند إلى الرئيس العراقي الجديد فؤاد معصوم ويتناول قيام حكومة جديدة جامعة تكون بعيدة عن سياسات الإبعاد والاستئثار. وتقول المصادر الفرنسية إنه من المهم للغاية فض التحالف القائم بين «داعش» وبعض القوى السنية في العراق عبر مسارين متوازيين: عراقي داخلي من خلال حكومة وحدة وطنية وحوار وطني جامع، من جهة، وعبر مطالبة القوى الإقليمية المؤثرة للدفع باتجاه تحقيق هذا الهدف من جهة أخرى.
باريس حائرة حيال مساهمتها في مواجهة «داعش»
أربعة أسباب رئيسة تدفع فرنسا إلى التحرك.. والخيار المرجح الضربات الجوية
باريس حائرة حيال مساهمتها في مواجهة «داعش»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة