بوتين والأزمة الأوكرانية.. أحلام وهواجس

العقوبات سلاح ذو حدين.. وموسكو ترى أن واشنطن تعمل على تصفية حسابات «شخصية»

بوتين والأزمة الأوكرانية.. أحلام وهواجس
TT

بوتين والأزمة الأوكرانية.. أحلام وهواجس

بوتين والأزمة الأوكرانية.. أحلام وهواجس

إلى أي مدى يمكن أن يمضي الغرب في عقوباته ضد موسكو؟ هذا السؤال يظل يتقافز على شفاه الكثيرين من المراقبين وصانعي القرار في أروقة السياسة العالمية، مقدمة لتساؤلات كثيرة أخرى حول مستقبل العلاقات بين موسكو والغرب من جانب، واحتمالات انهيار الاقتصاد الروسي في غضون ستة أسابيع، حسبما تنبأ بذلك ألكسي كودرين وزير المالية الروسي السابق وأحد أهم الاقتصاديين في فريق الرئيس فلاديمير بوتين، من جانب آخر.
«كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة، حتى تصل بأصحابها إلى ما يسمى (الوسيلة الذهبية)، التي تتلخص في أنَّ الحضارة تقوم من خلال مواجهة التحدي بسلسلة من الاستجابات».. هذا ما نصت عليه نظرية «التحدي والاستجابة» لصاحبها المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي، ويبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شغوف بمغزاها ومضامينها. هذه النظرية تحدد الكثير من ملامح المشهد الراهن في الساحة الدولية، وتفسر ما شهدناه ونشهده من خطوات، وما نتابعه من قرارات صادرة عن الكرملين تقول إن بوتين ماض في طريقه لا يلوي على شيء، متسلحا بما تراكم لديه من خبرات «ضابط الكي جي بي»، ومن ملفات جمعها بحكم مناصبه السابقة، مستفيدا من كبوات نظرائه ممن كان يعرف أنهم يضمرون لبلاده مصيرا مشابها لما سبق وحققوه مع الاتحاد السوفياتي السابق.
وتؤكد الشواهد الآنية أن الرئيس الروسي يظل بعيدا عن فكرة التراجع عما سبق واتخذه من مواقف وقرارات، إلا بالقدر الذي يوفر لخصمه «جسر العودة»، ويحفظ له «ماء الوجه»، اتفاق مع المثل الصيني القائل بأنه «إذا أراد المرء تحقيق النصر، فلا بد له من توفير جسر التراجع أمام خصمه». وثمة ما يشير إلى قناعة الكثيرين من قيادات بلدان الاتحاد الأوروبي بتبني التوجه نفسه، بما يصل بالأطراف المتنازعة إلى «الحلول الوسط» سعيا وراء الخروج من الأزمة التي تكاد تودي بهم وبالعالم إلى شفا حرب ساخنة يدرك الجميع مغبة أخطارها وعواقبها. ورغما عن ذلك فإن هناك من صقور الساحة الأميركية ومن يدور في فلكهم من يحاول دفع الأطراف المتصارعة حول أوكرانيا، إقليميا ودوليا، إلى السقوط في شرك مواجهة المواقف الاستثنائية بردود فعل تفوق في تأثيرها وقيمتها الأفعال نفسها.
يقول مراقبون في هذا الصدد أن الأزمة الأوكرانية، كلما تزايدت حدتها وتشابكت حلقاتها وتعقدت أكثر عن ذي قبل، أيقظت روح التحدي لدى الرئيس الروسي لمواجهة مخططات الناتو والاتحاد الأوروبي، وفضح حقيقة أن قائمة أحلامهما المؤجلة لا تقتصر على أوكرانيا مثلما لم تقتصر في السابق على جورجيا بلدان الثورة البرتقالية، وإنما تستهدف أيضا تقويض أمن روسيا والصين واستقرارهما، على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما قاله صراحة في خطاب ألقاه في الكرملين لدى تناوله مسألة انضمام القرم إلى روسيا. وكان بوتين أوجز في هذا الخطاب رؤيته التي تقول إن روسيا تكتفي بهذا القدر من ردود الفعل، لكنها تظل يقظة لما قد يتخذه «الشركاء» من خطوات تستهدف التطاول على حدودها، معلنا أن «أوكرانيا خط أحمر» لن تسمح بلاده لأي شخص بتجاوزه!
ورغم أن الخطاب اتسم بنبرة أيقظت في نفوس مواطنيه أعلى درجات الحماس والوطنية والرغبة في استعادة أمجاد الماضي، فإنه كان يتضمن أيضا الرغبة في التهدئة من خلال الإشارة إلى احترام وحدة أراضى وسيادة أوكرانيا، رغم تلميحات حول احتمالات مصير مماثل للقرم، في المحافظات والأقاليم الواقعة جنوب شرقي أوكرانيا التي طالما كانت جزءا من الدولة الروسية، وهو ما يبدو أنه تراجع عنه تحت وطأة التطورات العاصفة للأحداث، ولا سيما بعد إسقاط طائرة الركاب الماليزية في يوليو (تموز) وتشديد ربقة العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
وكانت موسكو سارعت بإعلان موقفها من عقوبات «الحزمة الثالثة» أو «المستوى الثالث»، ضد روسيا، ومنها ما يتعلق بحظر التعامل مع عدد من أهم البنوك الروسية، بتأكيد أن الحرب التي أعلنها «جنرالات بروكسل» بإيعاز مباشر من واشنطن، لا بد أن تنعكس سلبا على كل بلدان الاتحاد الأوروبي. وقد جاء ذلك مواكبا لعدد من القرارات التي اتخذتها موسكو بشأن حظر استيراد الخضراوات والفواكه والألبان والمواد الغذائية واللحوم من أوكرانيا وعدد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة التي طالما اعتمد مزارعوها ومنتجوها في ترويج منتجاتهم على السوق الروسية، ما سوف يكبدهم خسائر هائلة. وفيما راحت هذه البلدان تحصي خسائرها التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، راح آخرون من أساطين الصناعات الثقيلة في أوروبا يجأرون بالشكوى من انحسار الطلب على إنتاجهم من السيارات والمعدات التي كانت روسيا سوقها التقليدية. ونقلت الوكالات الروسية عن زيجمار غابرييل وزير الاقتصاد الألماني قوله إن العقوبات يمكن أن تؤثر على اقتصاد ألمانيا الاتحادية، وكذلك تحذيره من اتساع نطاق الحرب والحروب الأهلية في أوروبا بحجة تفادي العواقب الاقتصادية الوخيمة. وأشارت وكالة أنباء «إيتار تاس» إلى ما صدر عن لينيتا تويفاككا وزيرة شؤون الاتحاد الأوروبي والتجارة الخارجية في الحكومة الفنلندية، من تصريحات تعترف فيها بتأثر فنلندا بفرض العقوبات ضد روسيا، وأن الحكومة الفنلندية صارت مدعوة إلى البحث عن التوازن بين السبل الحقيقية لضمان الأمن القومي للبلاد والطرق المثلى لتأمين المصالح الاقتصادية على المدى القريب. وكان آخرون كثيرون عدوا هذه العقوبات التي تعد الأقسى منذ انتهاء سنوات الحرب الباردة، بمثابة حرب حقيقية تخوضها كل الأطراف، وهو ما سبق وحذر منه الرئيس بوتين.
ونذكر أن بوتين سبق وأشار إلى احتمالات «اللجوء إلى البدائل» في خطابه التاريخي الذي ألقاه في مؤتمر ميونيخ للأمن العالمي في 2007، وحذر فيه من مغبة التمسك بعالم القطب الواحد وخطورة انفراد قوة بعينها بالقرار الدولي. أشار بوتين إلى ضرورة ما وصفه بـ«التوازن المعقول»، مستشهدا بما كان يجري في الساحة الدولية من متغيرات سريعة نتيجة التطور الديناميكي لعدد كبير من الدول والأقاليم. وفي هذا الصدد أكد بوتين أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي في الهند والصين، وفق القدرات الشرائية، يزيد على ما لدى الولايات المتحدة. وأضاف أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي المحسوب وفق هذا المبدأ لمجموعة الدول التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين يزيد على مجموع الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أن الفروق الآنية مرشحة للتزايد في المستقبل القريب، وهو ما تحقق بالفعل بعد انضمام جنوب أفريقيا إلى بلدان مجموعة «بريكس». وأكد بوتين أيضا، في إشارة لا تخلو من مغزى، «أن الطاقات الاقتصادية لمراكز النمو العالمي الجديدة ستتحول بلا ريب إلى نفوذ سياسي، وستعزز نزعة تعدد الأقطاب، ما يتطلب مراعاة أهمية تطوير دور الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وإعلاء الصراحة والشفافية والوضوح في التنبؤ في السياسة، بعيدا عن استخدام القوة التي يجب أن يكون اللجوء إليها على سبيل الاستثناء».
ومن هذا المنظور تحديدا حظيت الزيارة التاريخية التي قام بها بوتين إلى الصين في مايو (أيار) الماضي بأهمية كبيرة، على ضوء ما أسفرت عنه من توقيع ما يزيد على أربعين اتفاقية، أهمها اتفاق إمدادها بالغاز الروسي طويل الأمد لمدة ثلاثين عاما، ويقدر حجمه بأربعمائة مليار دولار، إلى جانب الاتفاق على عدد من المشروعات المشتركة في مجال الطاقة وبناء الطائرات. وكان بوتين أشار في ختام تلك الزيارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي يبلغ اليوم قرابة تسعين مليار دولار، سيرتفع حتى مائة مليار دولار في عام 2015، فضلا عن الاتفاق على رفعه حتى مائتي مليار دولار مع حلول عام 2020. وفيما كانت واشنطن وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي يعكفون على دراسة أبعاد هذه الزيارة ومكتسباتها سعيا وراء الجديد من سبل الضغط وتشديد ربقة العقوبات، انطلق بوتين في رحلته إلى أميركا اللاتينية التي اختتمها بلقاء رؤساء بلدان مجموعة بريكس في البرازيل، تأكيدا من جانبه لتمسكه بفكرة الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى نوعي جديد يكفل التصدي لعبثية عالم القطب الواحد وهيمنته، وجعل هذا التحالف الجديد جزءا لا يتجزأ من منظومة الإدارة العالمية يساعد على استقرار الأوضاع الدولية والتعاون في مواجهة كل الأخطار والتحديات الراهنة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق وتوصل إليه من تعزيز مواقع روسيا الإقليمية في إطار الاتحاد الأوروآسيوي مع كازاخستان وبيلاروس في تحالف مرشح لضم طاجيكستان وأرمينيا في وقت لاحق من هذا العام، فإننا نكون أمام مشهد جديد تقول مفرداته بقدرة بوتين على مواجهة ما يتناثر على الطريق من تحديات ومتاعب. وكان بوتين أشار إلى القدرات الاقتصادية والمالية لمجموعة حلفائه التي قال إن منها الصين بما تملكه من قدرات بشرية واقتصادية هائلة، ومعها الهند وبقية الأصدقاء في منظمتي «بريكس»، و«مجموعة شنغهاي» وكلها تمثل ما يزيد على 42 في المائة من تعداد سكان العالم وأكثر من 25 في المائة من الإنتاج الاقتصادي العالمي و20 في المائة من التبادل التجاري الدولي، ناهيك عن قدرات مجموعة شنغهاي التي تضم إلى جانب روسيا والصين بلدان آسيا الوسطى، وعددا من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق.
على أن كل ما حققه الرئيس الروسي من نجاح على صعيد الحد من تأثير العقوبات والحيلولة دون أحكام حلقة العزلة السياسية حول بلاده يظل مهددا بالتصعيد من جانب خصومه ممن يتحينون الفرصة ليس فقط لتأجيج نيران الاشتباكات المسلحة على مقربة من الحدود الروسية ولا سيما في جنوب شرقي أوكرانيا، بل وأيضا في إشعال نزاعات قديمة كانت روسيا طرفا مباشرا فيها مثل جورجيا ومولدوفا وناجورني قر باغ. وثمة من يقول إن هناك من قد يحاول الاستفادة من هذه الأوضاع الهشة على غير رغبة الأطراف المباشرة في الأزمة الأوكرانية، بما قد يساهم في خلق أوضاع أكثر تعقيدا تحول دون التوصل إلى التهدئة وتحقيق الحلول المنشودة.
وكان الرئيس بوتين سبق وحذر من مغبة استمرار واشنطن في مخططاتها الرامية إلى التغلغل في عدد من المناطق والبلدان التي طالما عدتها روسيا مناطق مصالح تاريخية وتقليدية، إلى جانب استمرار الدوائر الأميركية في تدخلها وتأثيرها على الأوضاع الداخلية لهذه البلدان ومحاولات توجيه الانتخابات فيها. ومضى بوتين ليعرب عن قلق بلاده تجاه إصرار الولايات المتحدة على إنشاء منظومة الدرع الصاروخية ونشر عناصرها في أوروبا على مقربة مباشرة من الحدود الروسية. واعترف صراحة أن مثل هذه المنظومة يمكن أن تطال قوات الردع النووي الاستراتيجي للدولة الروسية وتخل بتوازن القوى السياسية والعسكرية القائم في هذه المناطق لعقود طويلة.
ولذا فإن موسكو تظل تراهن على تحييد الأطراف الأوروبية من خلال تأكيد أنها كانت ولا تزال «جزءًا لا يتجزأ من أوروبا الكبيرة»، أو بقول أكثر دقة: جزء من الحضارة الأوروبية الواسعة، ما يجعل الروس يعدون أنفسهم أوروبيين بالدرجة الأولى، وما يفسر اهتمامهم بكل ما يجري في القارة الأوروبية الموحدة، على حد قول الرئيس بوتين. ورغم اعتراف موسكو بتأثرها النسبي بما فرضته واشنطن وحلفاؤها من عقوبات، فإنها لا تكف عن تأكيد قدراتها على الصمود، استنادا إلى ما تملكه من مقدرات لتوفير البدائل الذاتية، وهو ما جرى تناوله خلال الاجتماعات الأخيرة التي عقدتها الحكومة الروسية وكذلك مجلس الأمن القومي الروسي الذي كان عقد أخطر اجتماعاته الأسبوع الماضي. وكشفت المصادر الروسية عن أن الرئيس بوتين تطرق في هذا الاجتماع إلى طرح المسائل المتعلقة باحتمالات التصعيد من جانب العسكريين الأوكرانيين في جنوب شرقي أوكرانيا من أجل إخماد المقاومة وتصفية ما تصفها بالحركات الانفصالية واستعادة وحدة أراضي أوكرانيا. وذلك يعني أيضا أن موسكو تتدارس أبعاد الموقف الراهن تحسبا لاحتمالات إقدام السلطات الأوكرانية على القيام بمغامرة استعادة شبه جزيرة القرم بالقوة، في الوقت الذي تحرص فيه على إعلان أنها ليست على استعداد للزج بقواتها المسلحة في مثل هذه الصراعات وإن أكدت تمسكها بوحدة أراضي الدولة الروسية، وهو ما يعني ضمنا تأكيدها وتمسكها باعتبار أن شبه جزيرة القرم جزءا لا يتجزأ من هذه الأراضي. ولعل ما صدر أخيرا من بيانات وتصريحات ومنها «الاتهام بالخيانة العظمى لكل من يفكر في التخلي عن القرم»، يقول بأن هذه القضية لا يمكن أن تكون موضوعا للمناقشة أو الحلول الوسط. وكانت مصادر روسية سبق وكشفت عن أقصى ما يمكن أن تمضي موسكو إليه في هذا الشأن، لا يمكن أن يتعدى الاعتراف لأوكرانيا بحقوقها في جنوب شرقي أوكرانيا، مع ضرورة منح مواطني هذه الأقاليم ما يطمحون إليه من حقوق قومية قد يكون منها الحكم الذاتي وإقرار النظام الفيدرالي، مقابل الحصول على تأكيدات رسمية من جانب الناتو والولايات المتحدة بعدم ضم أوكرانيا إلى هذا الحلف العسكري مقابل الموافقة الضمنية على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعيد إلى الأذهان ما سبق وأقره الاتحاد السوفياتي السابق بالنسبة لفنلندا المتاخمة لحدوده الشمالية الغربية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».