إلى أي مدى يمكن أن يمضي الغرب في عقوباته ضد موسكو؟ هذا السؤال يظل يتقافز على شفاه الكثيرين من المراقبين وصانعي القرار في أروقة السياسة العالمية، مقدمة لتساؤلات كثيرة أخرى حول مستقبل العلاقات بين موسكو والغرب من جانب، واحتمالات انهيار الاقتصاد الروسي في غضون ستة أسابيع، حسبما تنبأ بذلك ألكسي كودرين وزير المالية الروسي السابق وأحد أهم الاقتصاديين في فريق الرئيس فلاديمير بوتين، من جانب آخر.
«كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة، حتى تصل بأصحابها إلى ما يسمى (الوسيلة الذهبية)، التي تتلخص في أنَّ الحضارة تقوم من خلال مواجهة التحدي بسلسلة من الاستجابات».. هذا ما نصت عليه نظرية «التحدي والاستجابة» لصاحبها المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي، ويبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شغوف بمغزاها ومضامينها. هذه النظرية تحدد الكثير من ملامح المشهد الراهن في الساحة الدولية، وتفسر ما شهدناه ونشهده من خطوات، وما نتابعه من قرارات صادرة عن الكرملين تقول إن بوتين ماض في طريقه لا يلوي على شيء، متسلحا بما تراكم لديه من خبرات «ضابط الكي جي بي»، ومن ملفات جمعها بحكم مناصبه السابقة، مستفيدا من كبوات نظرائه ممن كان يعرف أنهم يضمرون لبلاده مصيرا مشابها لما سبق وحققوه مع الاتحاد السوفياتي السابق.
وتؤكد الشواهد الآنية أن الرئيس الروسي يظل بعيدا عن فكرة التراجع عما سبق واتخذه من مواقف وقرارات، إلا بالقدر الذي يوفر لخصمه «جسر العودة»، ويحفظ له «ماء الوجه»، اتفاق مع المثل الصيني القائل بأنه «إذا أراد المرء تحقيق النصر، فلا بد له من توفير جسر التراجع أمام خصمه». وثمة ما يشير إلى قناعة الكثيرين من قيادات بلدان الاتحاد الأوروبي بتبني التوجه نفسه، بما يصل بالأطراف المتنازعة إلى «الحلول الوسط» سعيا وراء الخروج من الأزمة التي تكاد تودي بهم وبالعالم إلى شفا حرب ساخنة يدرك الجميع مغبة أخطارها وعواقبها. ورغما عن ذلك فإن هناك من صقور الساحة الأميركية ومن يدور في فلكهم من يحاول دفع الأطراف المتصارعة حول أوكرانيا، إقليميا ودوليا، إلى السقوط في شرك مواجهة المواقف الاستثنائية بردود فعل تفوق في تأثيرها وقيمتها الأفعال نفسها.
يقول مراقبون في هذا الصدد أن الأزمة الأوكرانية، كلما تزايدت حدتها وتشابكت حلقاتها وتعقدت أكثر عن ذي قبل، أيقظت روح التحدي لدى الرئيس الروسي لمواجهة مخططات الناتو والاتحاد الأوروبي، وفضح حقيقة أن قائمة أحلامهما المؤجلة لا تقتصر على أوكرانيا مثلما لم تقتصر في السابق على جورجيا بلدان الثورة البرتقالية، وإنما تستهدف أيضا تقويض أمن روسيا والصين واستقرارهما، على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما قاله صراحة في خطاب ألقاه في الكرملين لدى تناوله مسألة انضمام القرم إلى روسيا. وكان بوتين أوجز في هذا الخطاب رؤيته التي تقول إن روسيا تكتفي بهذا القدر من ردود الفعل، لكنها تظل يقظة لما قد يتخذه «الشركاء» من خطوات تستهدف التطاول على حدودها، معلنا أن «أوكرانيا خط أحمر» لن تسمح بلاده لأي شخص بتجاوزه!
ورغم أن الخطاب اتسم بنبرة أيقظت في نفوس مواطنيه أعلى درجات الحماس والوطنية والرغبة في استعادة أمجاد الماضي، فإنه كان يتضمن أيضا الرغبة في التهدئة من خلال الإشارة إلى احترام وحدة أراضى وسيادة أوكرانيا، رغم تلميحات حول احتمالات مصير مماثل للقرم، في المحافظات والأقاليم الواقعة جنوب شرقي أوكرانيا التي طالما كانت جزءا من الدولة الروسية، وهو ما يبدو أنه تراجع عنه تحت وطأة التطورات العاصفة للأحداث، ولا سيما بعد إسقاط طائرة الركاب الماليزية في يوليو (تموز) وتشديد ربقة العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
وكانت موسكو سارعت بإعلان موقفها من عقوبات «الحزمة الثالثة» أو «المستوى الثالث»، ضد روسيا، ومنها ما يتعلق بحظر التعامل مع عدد من أهم البنوك الروسية، بتأكيد أن الحرب التي أعلنها «جنرالات بروكسل» بإيعاز مباشر من واشنطن، لا بد أن تنعكس سلبا على كل بلدان الاتحاد الأوروبي. وقد جاء ذلك مواكبا لعدد من القرارات التي اتخذتها موسكو بشأن حظر استيراد الخضراوات والفواكه والألبان والمواد الغذائية واللحوم من أوكرانيا وعدد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة التي طالما اعتمد مزارعوها ومنتجوها في ترويج منتجاتهم على السوق الروسية، ما سوف يكبدهم خسائر هائلة. وفيما راحت هذه البلدان تحصي خسائرها التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، راح آخرون من أساطين الصناعات الثقيلة في أوروبا يجأرون بالشكوى من انحسار الطلب على إنتاجهم من السيارات والمعدات التي كانت روسيا سوقها التقليدية. ونقلت الوكالات الروسية عن زيجمار غابرييل وزير الاقتصاد الألماني قوله إن العقوبات يمكن أن تؤثر على اقتصاد ألمانيا الاتحادية، وكذلك تحذيره من اتساع نطاق الحرب والحروب الأهلية في أوروبا بحجة تفادي العواقب الاقتصادية الوخيمة. وأشارت وكالة أنباء «إيتار تاس» إلى ما صدر عن لينيتا تويفاككا وزيرة شؤون الاتحاد الأوروبي والتجارة الخارجية في الحكومة الفنلندية، من تصريحات تعترف فيها بتأثر فنلندا بفرض العقوبات ضد روسيا، وأن الحكومة الفنلندية صارت مدعوة إلى البحث عن التوازن بين السبل الحقيقية لضمان الأمن القومي للبلاد والطرق المثلى لتأمين المصالح الاقتصادية على المدى القريب. وكان آخرون كثيرون عدوا هذه العقوبات التي تعد الأقسى منذ انتهاء سنوات الحرب الباردة، بمثابة حرب حقيقية تخوضها كل الأطراف، وهو ما سبق وحذر منه الرئيس بوتين.
ونذكر أن بوتين سبق وأشار إلى احتمالات «اللجوء إلى البدائل» في خطابه التاريخي الذي ألقاه في مؤتمر ميونيخ للأمن العالمي في 2007، وحذر فيه من مغبة التمسك بعالم القطب الواحد وخطورة انفراد قوة بعينها بالقرار الدولي. أشار بوتين إلى ضرورة ما وصفه بـ«التوازن المعقول»، مستشهدا بما كان يجري في الساحة الدولية من متغيرات سريعة نتيجة التطور الديناميكي لعدد كبير من الدول والأقاليم. وفي هذا الصدد أكد بوتين أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي في الهند والصين، وفق القدرات الشرائية، يزيد على ما لدى الولايات المتحدة. وأضاف أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي المحسوب وفق هذا المبدأ لمجموعة الدول التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين يزيد على مجموع الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أن الفروق الآنية مرشحة للتزايد في المستقبل القريب، وهو ما تحقق بالفعل بعد انضمام جنوب أفريقيا إلى بلدان مجموعة «بريكس». وأكد بوتين أيضا، في إشارة لا تخلو من مغزى، «أن الطاقات الاقتصادية لمراكز النمو العالمي الجديدة ستتحول بلا ريب إلى نفوذ سياسي، وستعزز نزعة تعدد الأقطاب، ما يتطلب مراعاة أهمية تطوير دور الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وإعلاء الصراحة والشفافية والوضوح في التنبؤ في السياسة، بعيدا عن استخدام القوة التي يجب أن يكون اللجوء إليها على سبيل الاستثناء».
ومن هذا المنظور تحديدا حظيت الزيارة التاريخية التي قام بها بوتين إلى الصين في مايو (أيار) الماضي بأهمية كبيرة، على ضوء ما أسفرت عنه من توقيع ما يزيد على أربعين اتفاقية، أهمها اتفاق إمدادها بالغاز الروسي طويل الأمد لمدة ثلاثين عاما، ويقدر حجمه بأربعمائة مليار دولار، إلى جانب الاتفاق على عدد من المشروعات المشتركة في مجال الطاقة وبناء الطائرات. وكان بوتين أشار في ختام تلك الزيارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي يبلغ اليوم قرابة تسعين مليار دولار، سيرتفع حتى مائة مليار دولار في عام 2015، فضلا عن الاتفاق على رفعه حتى مائتي مليار دولار مع حلول عام 2020. وفيما كانت واشنطن وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي يعكفون على دراسة أبعاد هذه الزيارة ومكتسباتها سعيا وراء الجديد من سبل الضغط وتشديد ربقة العقوبات، انطلق بوتين في رحلته إلى أميركا اللاتينية التي اختتمها بلقاء رؤساء بلدان مجموعة بريكس في البرازيل، تأكيدا من جانبه لتمسكه بفكرة الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى نوعي جديد يكفل التصدي لعبثية عالم القطب الواحد وهيمنته، وجعل هذا التحالف الجديد جزءا لا يتجزأ من منظومة الإدارة العالمية يساعد على استقرار الأوضاع الدولية والتعاون في مواجهة كل الأخطار والتحديات الراهنة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق وتوصل إليه من تعزيز مواقع روسيا الإقليمية في إطار الاتحاد الأوروآسيوي مع كازاخستان وبيلاروس في تحالف مرشح لضم طاجيكستان وأرمينيا في وقت لاحق من هذا العام، فإننا نكون أمام مشهد جديد تقول مفرداته بقدرة بوتين على مواجهة ما يتناثر على الطريق من تحديات ومتاعب. وكان بوتين أشار إلى القدرات الاقتصادية والمالية لمجموعة حلفائه التي قال إن منها الصين بما تملكه من قدرات بشرية واقتصادية هائلة، ومعها الهند وبقية الأصدقاء في منظمتي «بريكس»، و«مجموعة شنغهاي» وكلها تمثل ما يزيد على 42 في المائة من تعداد سكان العالم وأكثر من 25 في المائة من الإنتاج الاقتصادي العالمي و20 في المائة من التبادل التجاري الدولي، ناهيك عن قدرات مجموعة شنغهاي التي تضم إلى جانب روسيا والصين بلدان آسيا الوسطى، وعددا من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق.
على أن كل ما حققه الرئيس الروسي من نجاح على صعيد الحد من تأثير العقوبات والحيلولة دون أحكام حلقة العزلة السياسية حول بلاده يظل مهددا بالتصعيد من جانب خصومه ممن يتحينون الفرصة ليس فقط لتأجيج نيران الاشتباكات المسلحة على مقربة من الحدود الروسية ولا سيما في جنوب شرقي أوكرانيا، بل وأيضا في إشعال نزاعات قديمة كانت روسيا طرفا مباشرا فيها مثل جورجيا ومولدوفا وناجورني قر باغ. وثمة من يقول إن هناك من قد يحاول الاستفادة من هذه الأوضاع الهشة على غير رغبة الأطراف المباشرة في الأزمة الأوكرانية، بما قد يساهم في خلق أوضاع أكثر تعقيدا تحول دون التوصل إلى التهدئة وتحقيق الحلول المنشودة.
وكان الرئيس بوتين سبق وحذر من مغبة استمرار واشنطن في مخططاتها الرامية إلى التغلغل في عدد من المناطق والبلدان التي طالما عدتها روسيا مناطق مصالح تاريخية وتقليدية، إلى جانب استمرار الدوائر الأميركية في تدخلها وتأثيرها على الأوضاع الداخلية لهذه البلدان ومحاولات توجيه الانتخابات فيها. ومضى بوتين ليعرب عن قلق بلاده تجاه إصرار الولايات المتحدة على إنشاء منظومة الدرع الصاروخية ونشر عناصرها في أوروبا على مقربة مباشرة من الحدود الروسية. واعترف صراحة أن مثل هذه المنظومة يمكن أن تطال قوات الردع النووي الاستراتيجي للدولة الروسية وتخل بتوازن القوى السياسية والعسكرية القائم في هذه المناطق لعقود طويلة.
ولذا فإن موسكو تظل تراهن على تحييد الأطراف الأوروبية من خلال تأكيد أنها كانت ولا تزال «جزءًا لا يتجزأ من أوروبا الكبيرة»، أو بقول أكثر دقة: جزء من الحضارة الأوروبية الواسعة، ما يجعل الروس يعدون أنفسهم أوروبيين بالدرجة الأولى، وما يفسر اهتمامهم بكل ما يجري في القارة الأوروبية الموحدة، على حد قول الرئيس بوتين. ورغم اعتراف موسكو بتأثرها النسبي بما فرضته واشنطن وحلفاؤها من عقوبات، فإنها لا تكف عن تأكيد قدراتها على الصمود، استنادا إلى ما تملكه من مقدرات لتوفير البدائل الذاتية، وهو ما جرى تناوله خلال الاجتماعات الأخيرة التي عقدتها الحكومة الروسية وكذلك مجلس الأمن القومي الروسي الذي كان عقد أخطر اجتماعاته الأسبوع الماضي. وكشفت المصادر الروسية عن أن الرئيس بوتين تطرق في هذا الاجتماع إلى طرح المسائل المتعلقة باحتمالات التصعيد من جانب العسكريين الأوكرانيين في جنوب شرقي أوكرانيا من أجل إخماد المقاومة وتصفية ما تصفها بالحركات الانفصالية واستعادة وحدة أراضي أوكرانيا. وذلك يعني أيضا أن موسكو تتدارس أبعاد الموقف الراهن تحسبا لاحتمالات إقدام السلطات الأوكرانية على القيام بمغامرة استعادة شبه جزيرة القرم بالقوة، في الوقت الذي تحرص فيه على إعلان أنها ليست على استعداد للزج بقواتها المسلحة في مثل هذه الصراعات وإن أكدت تمسكها بوحدة أراضي الدولة الروسية، وهو ما يعني ضمنا تأكيدها وتمسكها باعتبار أن شبه جزيرة القرم جزءا لا يتجزأ من هذه الأراضي. ولعل ما صدر أخيرا من بيانات وتصريحات ومنها «الاتهام بالخيانة العظمى لكل من يفكر في التخلي عن القرم»، يقول بأن هذه القضية لا يمكن أن تكون موضوعا للمناقشة أو الحلول الوسط. وكانت مصادر روسية سبق وكشفت عن أقصى ما يمكن أن تمضي موسكو إليه في هذا الشأن، لا يمكن أن يتعدى الاعتراف لأوكرانيا بحقوقها في جنوب شرقي أوكرانيا، مع ضرورة منح مواطني هذه الأقاليم ما يطمحون إليه من حقوق قومية قد يكون منها الحكم الذاتي وإقرار النظام الفيدرالي، مقابل الحصول على تأكيدات رسمية من جانب الناتو والولايات المتحدة بعدم ضم أوكرانيا إلى هذا الحلف العسكري مقابل الموافقة الضمنية على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعيد إلى الأذهان ما سبق وأقره الاتحاد السوفياتي السابق بالنسبة لفنلندا المتاخمة لحدوده الشمالية الغربية.
بوتين والأزمة الأوكرانية.. أحلام وهواجس
العقوبات سلاح ذو حدين.. وموسكو ترى أن واشنطن تعمل على تصفية حسابات «شخصية»
بوتين والأزمة الأوكرانية.. أحلام وهواجس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة