بعد أن اختيرت أربيل عاصمة للسياحة العربية من قبل رئاسة المكتب التنفيذي لمجلس وزراء السياحة العرب لعام 2014 - تحولت اليوم بعد أحداث الموصل في يونيو (حزيران) الماضي إلى عاصمة للنازحين العراقيين الذين تركوا مناطقهم خوفا من تنظيم «داعش» والمعارك التي تدور فيها.
زائر أربيل يلاحظ يوميا المئات من هؤلاء النازحين، سواء كانوا في المخيمات التي أسستها حكومة الإقليم في مداخل المدينة والتي تؤوي آلاف النازحين العرب من الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين، إضافة إلى أعداد كبيرة من نازحي بغداد. الكثير من هؤلاء استقروا داخل المدينة والأقضية والنواحي التابعة لها كقضاء شقلاوة وسؤران وراوندز وخبات وكويسنجق وناحية عينكاوا وبحركة. مناطق سياحية برمتها تحولت اليوم إلى ملاذ للنازحين العراقيين الفارين من بطش «داعش».
المصادر الرسمية في المدينة أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن الانهيار الأمني الذي شهدته الموصل وما آلت إليه الأوضاع من سقوط متتال للمحافظات السنية المجاورة لإقليم كردستان أديا إلى توقف السياحة الرئيسة في الإقليم والمتمثلة بالسياحة الداخلية وتوقف قدوم السياح من وسط العراق وجنوبه إلى كردستان.
يقول نوزاد هادي، محافظ أربيل، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «عدد النازحين العراقيين كافة إلى أربيل وحدها بلغ أكثر من 400 ألف نازح من مختلف مناطق العراق، يتوزعون في داخل أربيل وخارجها في الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، إضافة إلى المخيمات الموجودة التي تؤوي النازحين الذين لا يملكون القدرة المالية على العيش داخل المدينة».
وتابع هادي: «كواجب إنساني، استقبلتهم حكومة الإقليم، لكن من ناحية الخدمات كان لوجودهم تأثير كبير على الإقليم بشكل عام وأربيل خاصة، ويثقلون كاهلنا، فهؤلاء يحتاجون إلى خدمات من ماء وكهرباء وخدمات صحية والوقود، وهناك مشكلة في هذه الخدمات لدى الإقليم نفسه، بسبب الحصار الذي تفرضه بغداد على الإقليم منذ أكثر من ستة أشهر والمتمثل بقطع ميزانية الإقليم وقطع رواتب موظفيه والمستحقات المالية كافة للإقليم».
وأضاف هادي: «بعد أحداث الموصل، دخل العراق مرحلة جديدة. حدود الإقليم من ربيعة إلى نفطخانة في خانقين هي الآن في قبضة (داعش)، ولم يبق لنا مع بغداد سوى طريق يبلغ طوله نحو 15 كلم عند نفطخانة، لذا توقف التبادل الاقتصادي القوي بين إقليم كردستان ومناطق العراق الأخرى، فأثرت الأوضاع سلبا على الاقتصاد والسياحة في المنطقة. في هذا الوقت من الأعوام الماضية، كنا نشهد مجيء أكثر من مليون سائح إلى أربيل وحدها، لكن كيف يأتي هؤلاء الآن إلى هنا، فالمناطق كلها أصبحت تحت سيطرة (داعش)، فالقسم الأكبر الذي كان يأتي إلى أربيل سائحا فيما مضى جاء اليوم إليها نازحا بسبب الانهيارات الأمنية».
أربيل، المدينة التاريخية التي تمتد بجذورها إلى نحو سبعة آلاف عام قبل ميلاد المسيح، تمتاز بجمال الطبيعة واعتدال الجو، الأمر الذي ساهم في كثرة المصايف والمنتجعات السياحية فيها، وإقبال السياح من مناطق العراق والعالم كافة إليها لتمتع بأجواء ساحرة وخلابة، لكنها اليوم فقدت النسبة الأكبر من سياحتها بسبب أوضاع العراق، فالإقليم الكردي الذي يتمتع إلى حد ما بشبه الاستقلال، ما زال مرتبطا بالعراق من عدة نواح، خاصة الاقتصادية منها، فرغم أن كردستان العراق تعد منطقة مستقرة أمنيا فإن حدودها تشهد عنفا دائما بين الجماعات المسلحة والحكومة العراقية، الأمر الذي أثر بشكل فاعل في نسبة السياح العراقيين بالإقليم.
مصدر في وزارة البلديات والسياحة بحكومة إقليم كردستان، فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن سياحة الإقليم شهدت انخفاضا كبيرا بعد أحداث الموصل، حيث انخفضت بنسبة 60 في المائة عما كانت عليه قبل تلك الأحداث الأخيرة، مشيرا إلى أن السياحة الداخلية للإقليم التي كانت تعتمد على سياح عراقيين قادمين من جنوب العراق ووسطه تضررت بفعل انقطاع الطرق بين بغداد وأربيل وأصبحت شبه مشلولة حاليا، مؤكدا أن الإقليم لا يستطيع فعل شيء وهم في انتظار انفراج الوضع الأمني بالعراق.
قضاء شقلاوة الذي يقع على بعد 50 كلم شمال مدينة أربيل، يعد واحدا من أكثر أقضية أربيل التي تؤوي أعدادا كبيرة من النازحين خاصة نازحي الفلوجة والأنبار، عشرات العوائل العراقية تقطن هذا القضاء وتزاول أعمالا يومية لسد حاجاته، منتظرة انفراج الوضع للعودة إلى مدنها التي حرمت منها بسبب الوضع الأمني المتردي وانعدام الخدمات.
شقلاوة التي كانت بالأمس أهم المصايف في العراق وكردستان كانت هذا العيد خالية من السياح الذين كانوا يملأون شارعها وسوقها كل صيف، فزائرها الآن لا يرى سوى نازحين يعيشون في بيوتها وفنادقها ومنتجعاتها.
عائلة ضياء جميل واحدة من العوائل العربية التي نزحت من قضاء الفلوجة إلى إقليم كردستان واستقرت وسط شقلاوة، لتبدأ حياة جديدة في ظل الأمن والاستقرار الذي حرمت منه في الأنبار. يقول ضياء، (30 سنة): «أنا متزوج منذ عشر سنين وأعيش في بيت والدي الذي يعمل شرطيا بالفلوجة، قبل أن تبدأ الأحداث الأخيرة تركنا الفلوجة وجئنا إلى هنا خوفا من سيطرة المسلحين على المدينة، لأن أبي شرطي والمسلحون يبحثون عن منتسبي الشرطة».
وأشار جميل إلى أنه يعمل في أحد المقاهي وسط شقلاوة، ليعيل عائلته، وأضاف: «أعمل في هذا المقهى منذ أن قدمنا إلى شقلاوة، أتلقى أجرا يوميا يبلغ 30 ألف دينار عراقي، لأعيل عائلتي التي تتكون من تسعة أشخاص. أجرنا بيتا بنحو 500 دولار ونعيش فيه كلنا مع أنه يتكون من غرفتين وصالة ضيوف، إلا أننا تأقلمنا مع الوضع الراهن». ويشير جميل: «أهالي أربيل بشكل عام، وشقلاوة خاصة، يعاملوننا بشكل جيد فهم طيبون ويساعدون الغرباء والمحتاجين وكريمون كل الكرم، حتى محلات المنطقة تتعامل معنا بشكل مختلف؛ رخصوا لنا بضائعهم، وحتى إيجاراتهم رخصوها لنا نحن النازحين، نحن مرتاحون في كردستان، لكننا نريد العودة إلى مدننا».
شيماء كاظم مواطنة عراقية شيعية من بغداد، تسكن منذ سنوات وسط أربيل في أحد أحياء هذه المدينة المكتظة بالنازحين العرب، وهو حي الجامعة 99، تقول: «أنا في منزل أجرته بـ700 دولار، زوجي يعمل محاسبا في إحدى شركات السياحة بأربيل، أوضاعنا المادية جيدة، لكن قدوم عدد كبير من النازحين في الأيام الماضية أثر في الوضع الاقتصادي هنا، وأدى إلى غلاء في أسواقها وإيجارات المنازل، نتمنى أن تصبح الأوضاع جيدة، أنا لا أعود إلى بغداد لأن وضعنا المعيشي هنا جيد».
الفنادق والمنتجعات وقاعات المناسبات والكنائس والمساجد والمراكز الثقافية والحدائق العامة وحتى بعض المدارس مشغولة الآن بالنازحين، الذين تقول هيئة السياحة في الإقليم إنهم يقطنون في كل الأماكن، لكنها أشارت إلى أن فنادق النجمة الواحدة والنجمتين كانت الأماكن الأكثر استقطابا للنازحين.
الهيئة العامة للسياحة في إقليم كردستان، الجهة المشرفة بشكل مباشر لى السياحة في كردستان، مع أنها أكدت انخفاض النسبة، إلا أنها امتنعت عن الإفصاح عن أي أرقام.
وقال مولوي جبار، رئيس هيئة السياحة في كردستان، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الأوضاع الأخيرة أثرت بشكل سلبي في السياحة بالإقليم، نسبة السياح الداخلين من مناطق العراق الأخرى تأثرت بالأوضاع الأخيرة في الموصل، أما السياحة الخارجية فلم تتأثر بشكل كبير، لكن حقيقة نحن كنا نعتمد على السياحة الداخلية أكثر من الخارجية، قبل أحداث الموصل كان هناك ارتفاع في نسبة السياحة في الإقليم بمستوى ثمانية في المائة عن العام الماضي، وسجلنا خلال الأشهر الأولى من عام 2014 الحالي أكثر من مليون سائح في أربيل، لكن خلال شهر يوليو (تموز) الماضي كان هناك انخفاض في نسبة السياحة الداخلية، لكن أتحدث عن نسبة الانخفاض».
وأشار جبار إلى أن الإقليم استقبل بعد أحداث الموصل النازحين بدلا من السياح، مبينا أن هؤلاء النازحين يسكنون في الشقق والموتيلات والفنادق السياحية، وأثر هذا تأثيرا كبيرا في السياحة بكردستان، مشددا بالقول: «نحن إزاء واقع لا يمكن الهرب منه قط».
وأضاف أن الوزارة والهيئة تخططان للنهوض بالواقع السياحي الحالي وتعويض النقص الحاصل بسبب أوضاع العراق عن طريق تشجيع السياحة من إيران وتركيا إلى مناطق إقليم كردستان، وقال: «نحن بصدد تنظيم عدة مؤتمرات سياحية كبيرة في تركيا وإيران لتشجيع الشركات السياحية في البلدين لتنظم رحلات سياحية إلى الإقليم وجذب السياح إلى كردستان، وخططنا لذلك فعليا، لكن ننتظر الوقت المناسب لتنظيمها».
وحول نشاطات أربيل عاصمة السياحة العربية لعام 2014، أكد رئيس هيئة السياحة في إقليم كردستان أن النشاطات كافة متوقفة حاليا بسبب الحصار المفروض من قبل بغداد على الإقليم، مشيرا إلى أن أربيل ستستأنف نشاطاتها السياحية مع انفراج الوضعين الأمني والسياسي في العراق.
بدوره، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين في أربيل، إن مجيء هذه الأعداد الهائلة من النازحين إلى أربيل تسبب في ضغط اقتصادي كبير على الإقليم. وقال الدكتور صباح خوشناو، أستاذ الاقتصاد بجامعة صلاح الدين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «أثر مجيء هذا العدد الهائل من النازحين على الناحية الاقتصادية والمالية للإقليم»، وأضاف: «في الوقت ذاته، لها إيجابيات من الناحية الاقتصادية، لأن هؤلاء يحركون السوق ويزيدون الحركة الشرائية في الإقليم وتدخل مبالغ مالية كبيرة إلى الإقليم، ومن ثم تدور هذه المبالغ داخل الإقليم، ويزداد الطلب، لكن من جهة أخرى هؤلاء بحاجة إلى خدمات ومساعدة، خاصة الذين لا يملكون الإمكانية المالية الكافية والذين جرى إيواءهم في المخيمات من نازحي الموصل وصلاح الدين وديالى». وتابع: «هذا يشكل ضغطا إضافيا على إقليم كردستان الذي يجب أن يؤسس لهم المخيمات ويزودها بالخدمات اللازمة والوقود، خاصة ونحن مقبلون بعد شهور على الشتاء، وخاصة في الوقت الذي يشهد الإقليم حصارا اقتصاديا من قبل بغداد».
وأضاف خوشناو أن أربيل تحولت بفضل هذه الظروف ومع الأسف من عاصمة للسياحة إلى عاصمة للنازحين: «في ظل الظروف غير المتوقعة التي يشهدها العراق من الناحية السياسية والعسكرية وسيطرة (داعش) على عدد من المدن العراقية، إذن هذه الظروف أدت إلى أن تتحول أربيل من مدينة يقصدها السياح من المناطق كافة في العالم إلى منطقة تستقبل النازحين، وهذا ما نلاحظه يوميا، حيث نرى المئات من هؤلاء القادمين إلى أربيل خوفا من (داعش)، بالإضافة إلى زيادة ظاهرة التسول من قبل اللاجئين السوريين في المدينة، كل هذا أثر على السياحة في أربيل، وكان هذا من سوء حظها، ففي حين اختيرت عاصمة للسياحة العربية واجهت المنطقة هذه الأزمات الكبيرة».
واستبعد هذا الخبير الاقتصادي أن ينهض الإقليم بسرعة من الأزمة الحالية، خاصة أنه يئن تحت وطأة الحصار، وأضاف: «حكومة الإقليم تواجه أزمة اقتصادية وضغطا كبيرا بسبب قطع ميزانيتها من بغداد، فهي توزع شهريا نحو 850 مليار دينار رواتب للموظفين فقط، وهذا المبلغ يعتمد الإقليم في تحصيله على الموارد الداخلية، الأمر الذي أدى إلى تأخير توزيع هذه الرواتب في أوقاتها المحددة، وهذا يشكل ضغطا هائلا على نواحي الحياة الأخرى في الإقليم، وأكثر المشاريع الخدمية في الإقليم توقفت الآن، فالميزانية الاستثمارية توقفت تماما، ومن ناحية الميزانية التشغيلية هناك حالة التقشف التي أعلنتها حكومة الإقليم للخروج من الأزمة الحالية، إذن حكومة الإقليم لا تمتلك أي بديل أو خيار لحل هذه الأزمة التي تواجهها، والحل الوحيد هو انتظار الانفراج الذي من المحتمل أن يستغرق ستة أشهر أخرى، اعتمادا على التنبؤات الاقتصادية بزيادة تصدير النفط مع بدء عام 2015 وكذلك انفراج الأوضاع في العراق».
أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين
تحتضن نحو نصف مليون نازح عراقي.. وانهيار الأمن أدى إلى هروب نصف مليون سائح
أربيل.. من عاصمة للسياحة إلى مدينة للنازحين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة