أفلام اليوم تقرأ في الحاضر وتنظر إلى أميركا بعين فاحصة

همومها آمال العالم المتبددة

الأميركي في ورطة: توم هانكس كما في «كابتن فيليبس»
الأميركي في ورطة: توم هانكس كما في «كابتن فيليبس»
TT

أفلام اليوم تقرأ في الحاضر وتنظر إلى أميركا بعين فاحصة

الأميركي في ورطة: توم هانكس كما في «كابتن فيليبس»
الأميركي في ورطة: توم هانكس كما في «كابتن فيليبس»

يمضي الأميركيون وهواة السينما حول العالم معظم أسابيع السنة يشاهدون أفلاما ترفيهية سهلة المنال؛ منها ما هو كوميدي، ومنها ما هو رعب، وكثير منها غرائبي وفانتازي وخيال علمي. لكن في هذه الأوقات تحديدا ترتفع الستارة عن مجموعة من الأفلام الثخينة بمضامينها الاجتماعية، المصنوعة من حكايات ذات مغاز وأبعاد وبشخصيات ذات مشاعر ومواقف أعمق من المعتاد.
في الأشهر الثلاثة الأخيرة، تطالعنا أفلام ذات وجهات مختلفة. السينما تأخذ عطلة من السائد والمعتاد، أو هكذا تحاول، وتقدم لمشاهديها مرايا ينظرون إليها للتطلع إلى أنفسهم.
فيلم «نبراسكا»، الذي انطلق تجاريا هذا الشهر، هو تعليق المخرج ألكسندر باين على الواقع اليوم. لهذا التعليق اختار الريف وليس المدينة. السوس نخر الأساس. الفيلم لا يحمل جمال الطبيعة، بل وحشتها العاكسة لوحشة ما في الصدور ولعتمة تلك الآمال المحبطة التي توالت من جيل لآخر.
فيلم «هير» لسبايك جونز يدور حول جيل جديد مقطوع الصلة بعضه عن بعض وبه كمجموع مع المجتمع ككل. صرخة بلا صوت ضد ما حدث لجيل الشباب الذي كان ذا صوت هادر في الستينات والسبعينات وجرى تدجينه فيما بعد ليتحول إلى أغصان بلا أوراق في الزمن الحاضر.
«دالاس بايرز كلوب» لجان مارك فالي، يتحدث أيضا عن الجيل الحاضر ليجد أنه يعيش واقعا ملتبسا، لا يدري معه ما الذي يحدث له وما يحدث حوله. كل وسائل الإعلام، وكل مجهودات الحكم لا تصل به إلى مزيد من المعرفة، بل مزيد من الغموض.
على النسق ذاته، نجد «داخل ليوون ديفز» للأخوين إيتان وجوول كوون. بطله محبط وفاشل ومهزوم لم يستطع تحقيق ما كان يرغب في تحقيقه. حياته تتوزع بين ردم أحلامه بالتحول إلى مغن معروف والبحث عن مسكن يعيش تحت سقفه.

* مخدوعون
حين ووجه المخرج الإيطالي الراحل مايكل أنجلو أنطونيوني بتفسير أفلامه، قال لمحدثيه: «ألا تعلمون أن الشرح قد يضع حدا للإعجاب به ولمضامينه الثرية؟». الحال ذاته يمكن قوله عن فيلم «نبراسكا». مثل أنطونيوني، تجنـب المخرج الأميركي باين تحديد الرسالة التي يود الفيلم إيصالها. قال لجمهوره في «كان»، ثم كرر ذلك أكثر من مرة: «أصنع فيلمي لكي تقرأونه أنتم. صحيح أنه انعكاس لوضع اقتصادي متأزم تمر به الولايات المتحدة، لكني أود أن أعده أكثر من ذلك».
«نبراسكا» هو أكثر من ذلك فعلا، لكن ما هو أكثر من ذلك يعود فيصب في المعكوس حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي برمـته: بروس ديرن هو العجوز الذي يؤمن بأنه ربح عشرة ملايين دولار. ورقة في البريد تقول له «أنت رابح»، لكنها ورقة يجري إرسالها إلى عشرات ملايين الأميركيين كل يوم على أمل ترويج بضاعة معلن عنها. وودي (ديرن) يقرر أن يترك بلدته في ولاية مونتانا إلى بلدة بولاية نبراسكا (حيث جرى إرسال الورقة) ولو مشيا بعدما أوقفته عائلته عن استخدام السيارة. هنا، يتدخل ابنه ديفيد (ويل فورت) ويقرر أن يلبـي رغبته على أمل أن يتثبـت والده من أنه مخدوع. لكن، ما هو خدعة تحول عند بعض الأقارب والمعارف إلى حقيقة، وها هم يختلفون فيما بينهم طالبين نصيبا من جائزة غير موجودة.
أكثر مما سواه: «نبراسكا» فيلم موارب في تعامله مع الواقع. كل من «هير»، و«دالاس بايرز كلوب»، و«الشرط القصير 12» لدستين كريتون، و«خارج الفرن» لسكوت كوبر، وحتى «ذئب وول ستريت» لمارتن سكورسيزي القائم على أحداث تعود إلى الماضي القريب - تقرأ في الحاضر الأميركي وتعلـق عليه، ليس خطبا ومنشورات، بل بأفضل ما يمكن من تعليق: ذاك غير المباشر الذي يبقى قويا ومؤثرا. لكن ميزة «نبراسكا» يبدو أبعدها مباشرة وفي الوقت ذاته هو أقربها أثرا لأنه يتعامل مع شخصيات هي التي أسست ولايات الوسط الأميركي، حيث التراث الأميركي الكامل وغير المستورد (الشرق) أو المصطنع (الغرب).

* ضحايا
الأفلام الأخرى التي تنظر إلى أميركا بعين فاحصة ليست كلـها من حكايات الأرض أو من الزمن الحالي. «12 سنة عبدا» لستيف ماكوين يلقي نظرة حادة على تاريخ العبودية. حيال أي وضع عنصري اليوم، فإن التذكير بما كان عليه الحال مع الأفرو - أميركيين الذين سيقوا للعمل عبيدا لقاء طعام قليل ومأوى حقير وسياط الجلادين هو ربط حتمي لجانب أنه مرآة للنظر ومعاينة الذات.
بعض هذه الأفلام يضع أميالا بحرية بينه وبين شطآن الواقع، لكنه لا يزال يرتبط به. «كل شيء ضاع» لجيفري كانتور يدور في البحر: رجل عجوز أبحر للمتعة ووجد نفسه بعد حين فوق قارب مهدد بالغرق تحت قدميه وهو معه. لا نجاة. لا هرب. لا مساعدة. لا علاقات اجتماعية. يفرض ذلك عليك أن تفكر في وضعه الاجتماعي: ألم يلجأ إلى البحر هربا من وحدته على الأرض؟
وماذا عن «جاذبية»؟ ساندرا بولوك تبوح تحت خوذتها بأنها لم تكن أمـا فاعلة. كانت أنانية. تخشى أن تموت في الجو المحيط بهذا الكوكب موضع كل العلل. رفيقها في الرحلة الفاشلة (جورج كلوني) أكثر واقعية وأقل أملا وليس لديه ما يريد العيش من أجله.
وفي مسار قريب من مسار «كل شيء ضاع»، نجد الكابتن فيليبس في «كابتن فيليبس» لبول غرينغراس، وهو ينزوي وحيدا بين خضم الأحداث وتلاطم مفرداتها. ودع فيليبس (توم هانكس) عائلته التي يحب. ركب الطائرة. حط في المغرب. ركب الباخرة وانطلق بها مع طاقمه. فجأة هو رهينة رخيصة وغالية. حياته لا تساوي لدى خاطفيه الصوماليين شيئا سوى ما قد يـدفع لهم مقابل إخلاء سبيله. ينقلونه في قارب نجاة مطاطي مغلق. ينزوي في مكانه معظم الوقت. يحاول أن يفكر. أن يـظهر العطف والفهم. أن يتعاون. أن يمتنع. ثم أن يهرب، لكنه في النهاية، وإثر كل محاولة يتراجع ويتضاءل يقينه من أنه سيخرج سالما من المغامرة التي فرضت عليه.
كابتن فيليبس هو ضحية في عالم شرس لا يرحم. محكوم بالصراع بين قوى كل منها يدافع عن حقه في الحياة. كابتن فيليبس قد يكون مصورا صحافيا محاصرا وسط رحى المعارك الضارية في حلب، أو موظفا للأمم المتحدة في جنوب السودان، أو لاجئا في بلد يتهمه بأنه جاسوس فيقلب عليه باقي أوراق حياته كلها. وكون الكابتن فيليبس أميركيا يدعو الأميركيين للتفكير في دور الولايات المتحدة السياسي. الفيلم يفعل ذلك كواحد من هذه المجموعة من الأفلام التي تفتح العين على ما هو أبعد من مجرد حكي الحكاية.
بين كل ما سبق، يجيء فيلم الأخوين كوون على مسافة مماثلة، فبعيدا عن تناول حكاية فنان من اليوم، يعود إلى الستينات ليقدم قصـة ذلك المغني الشريد. لكن الحكاية لا تتوقـف عند حدود الستينات، بل تنطلق منه وفي البال تحط في الزمن الحالي، ذلك لأن الشخصية التي يوفرها المخرجان ماثلة لليوم في عالم الفن: ربما هو مغن وربما كان رساما أو حتى مخرجا سينمائيا يبحث عن الفرصة، ومشكلته أن الفرصة لا تبحث عنه في المقابل.
على أعتاب الأوسكار، فإن كل الأفلام المذكورة تحتشد لدخول المسابقة الكبيرة، لكنها ليست الوحيدة. التالي بخمسة أفلام أخرى تجد نفسها، ويجدها النقاد، مؤهلة لذلك أيضا:
* «American Hustle» إخراج ديفيد أو راسل.
* «Blue Jasmine» لوودي ألن
* «Fruitvale Station» لرايان كوغلر
* «Mud» لجف نيكولز
* «Prisoners» لدنيس فيلينيوف



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.