الخطوط لم تتشابك أمامها، والخرائط كانت واضحة رغم أنها حافلة بمفترقات حولتها لصالح نجاحها المهني وتغلبت على صعابها بإصرارها على المضي إلى أمام دون أن تلتفت إلى الهوامش، والهوامش بالنسبة لها هي عدم الانزلاق إلى ما يحدث اليوم مما وصفته بـ«الخفة» و«الإثارة» و«الاستهلاك» في العمل الإعلامي، بل هي متشبثة بقوة بفكرة أن «الإعلام رسالة نبيلة لا تصلح لعارضات الأزياء اللواتي لا يتمتعن بأية كفاءة سوى الشكل».
الإعلامية اللبنانية المعروفة كارن عابد لم تدع فرصة الحظ تفوتها عندما طرقت بابها، بل استجابت لها رغم أن تخصصها الدراسي، ماجستير علم نفس - عيادة، كاد أن يأخذها بعيدا عن مهنة المتاعب، تقول: «أنا لم أذهب إلى الإعلام بل هو من جاء إلي ووجدت نفسي مصرة على النجاح وتحقيق طموحاتي»، وهي عرفت بتحدياتها ليس اختبارا لطموحاتها بل لجدارتها ولفكرة أن «الإعلام مهنة نبيلة وتحتاج إلى البحث والثقافة والعمق الفكري وليس إلى السطحية على الإطلاق».
في مقهى بشارع الحمرا، عصب الحياة الثقافية والاجتماعية والتجارية أيضا وسط بيروت، التقت «الشرق الأوسط» مع كارن لتسرد مشوار تجربتها الإعلامية، تقول: «كاد اختصاصي الدراسي أن يأخذني بعيدا عن الإعلام، فأنا درست ماجستير علم نفس عيادة في الجامعة اللبنانية 1994. وعملت سنتين في أشهر مستشفى أمراض عصبية في لبنان (دير الصليب)، ووقتذاك لم أكن أفكر بمهنة أخرى سوى التركيز على اختصاصي حتى وجدت نفسي يوما عند مفترق طرق»، هذا المفترق هو فرصة عمل كمحررة بمجلة لبنانية: «طلبتني هذه المجلة كمحررة للرد على رسائل القراء وحل مشاكلهم، وهنا وجدت أن اختصاصي الدراسي يصب في اتجاه واحد مع عملي الصحافي ونجحت، بل إن نجاحي كان أكبر مما هو متوقع إذ كانت تصلني مئات الرسائل ومن شرائح اجتماعية مختلفة». حدث هذا قبل أن تنتقل إلى مجال العمل الميداني «إجراء حوارات مع فنانين وعارضات أزياء والكتابة عن عروض سينمائية وتلفزيونية»، منبهة إلى أن «العمل في الصحافة الفنية هو من يصنع الشهرة للصحافي أكثر من عمله في الصحافة السياسية».
لكن سنوات دراستها واختصاصها لم يذهب سدى، توضح كارن «اختصاصي في علم النفس علمني الكثير في صياغة المفاتيح للغور في أعماق الضيوف الذين استضفتهم بحواراتي التلفزيونية، وهذا ساعدني في أن أختصر المسافة لصياغة الأسئلة، بل كنت أتوقع الإجابات وأهيئ أسئلة بناء على إجاباتهم».
وتعتز هذه الإعلامية الطموحة بأنها «تدرجت في مراحل المهنة وتسلقت السلم درجة إثر أخرى ولم اقفز على مرحلة، بل الأكثر من هذا أني أتمعن في تفاصيل أي مرحلة أعيشها كي أتعلم أكثر وأكثر وأحاول أن أضيف وأبدع من خلال شغفي بالعمل وبحثي الدائم، فأنا بدأت بالصحافة المكتوبة، وتزامن معها عملي في الصحافة المسموعة إذ عملت لأكثر من ثلاث سنوات في (إذاعة لبنان الحر)»، وتصف تجربتها مع العمل الإذاعي بالغنية «كنت أعد وأقدم برنامج (أسماء) أستضيف فيه سياسيين وكتابا وشعراء ورسامين وموسيقيين وفنانين تشكيليين لأحاورهم عن مشاويرهم الإبداعية بكل أبعادها من نجاحات وإخفاقات ليأخذ المستمع فكرة عن تجارب هذه الشخصيات».
وعندما تبحث كارن اليوم في أرشيفها سواء في الصحافة المكتوبة أو المسموعة تميز من بين كل الأوراق والأصوات أسماء مهمة وبارزة قدمتها في حواراتها للمتلقي، تقول: «من الأسماء المتميزة التي أتذكرها هو محمد حسين فضل الله الذي حاورته لثلاث مرات وفي كل مرة كان حوارنا مختلفا عن سابقه، فقد كان حديثه مؤثثا بالفكر والفلسفة والثقافة العميقة، كما حاورت المبدع مصطفى العقاد، والباحث الدكتور فيليب سالم وكثير من الشخصيات التي لا تحضرني الآن، أنا أتحدث عن المفكرين وليس عن السياسيين وأعتقد أن الحوارات مع المفكرين أهم بكثير من الحوار مع السياسيين». وتوضح بأن سبب اهتمام غالبية الصحافيين بالجانب السياسي «كون مجتمعنا مسيسا، الكل يتحدث في السياسة، الطبيب والموظف والمهندس والعامل والسائق كلهم يتحدثون في المواضيع السياسية ولأن السياسة صارت مرادفا لأوضاع البلد وحياة الناس اقتصاديا وأمنيا وخدميا». ما يشغل كارن كإعلامية هو هاجس البحث عن الجديد وعن مواقع تبرهن من خلالها نجاحها لتعبر لضفاف أخرى أكثر عطاء: «لا أستطيع الاستقرار بمكان عمل واحد لفترة طويلة»، حسبما تقول، وتضيف «عندما أشعر أني قدمت ما عندي في موقع ما وحققت نجاحاتي فيه فإني أبدأ بالبحث عن موقع آخر أحقق من خلاله أفكار ومشاريع أخرى، وهذا ما حدث عندما انتقلت من الصحافة المكتوبة إلى التلفزيون، الصحافة المرئية، حيث كنت قد اشتغلت لفترة في (دار الخليج للطباعة والنشر)، في مجلة (كل الأسرة) وجريدة (الخليج) من بيروت، وبعد فترة شعرت بأني أريد تدشين مرحلة جديدة من مشواري المهني». هو قلق المبدعة الذي يسكنها ويدفعها لأن تجرب طاقاتها التي لا تقف عند حدود، والمرحلة التي جاءت بعد الصحافة المكتوبة هي التلفزيون، وحسب ما تصفها كارن «كنت قد انتقلت للعمل كمحررة في تلفزيون (أي إن بي) عام 2005. ببيروت، كنت محررة أخبار وتحقيقات، لم أخطط وقتها للظهور على الشاشة وإن كنت قد فكرت بالموضوع، وفكرت أيضا أن أتهيأ وأتدرب على الوقوف أمام الكاميرا، لكني لم أستعجل ذلك لأني كنت أريد أن يكون ظهوري قويا وليس هامشيا أو اعتياديا، لكنهم هم من استعجل هذا الظهور، وأعني المسؤولين في التلفزيون، فذات يوم فاجأني المسؤول بالطلب مني بأن أقرأ الأخبار مباشرة على الهواء، استغربت الأمر لأني لم أتدرب أو حتى أتلقى دروسا بسيطة في هذا المجال، وفجأة وجدت نفسي أمام خيار صعب، مفترق طريق جديد، فإما أن أرفض وأخسر هذه الفرصة نهائيا، أو أوافق وأيضا كان يمكن أن أفشل وأخسر فرصة الظهور تلفزيونيا نهائيا كون العمل في هذا المجال لا يحتمل مثل هذه المغامرات، اعتمدت على طاقتي ويقيني بأني سأنجح ووافقت». تتذكر كارن هذه التجربة وتستعيد القلق الذي انتابها وقتذاك، تقول: «كنت لا أعرف كيف أتعامل مع الكاميرا، أو كيفية الجلوس في الاستوديو، لكنني قدمت نشرة الأخبار مباشرة، وتعاملت مع الأمر بكثير من الهدوء رغم قلقي، ونجحت، وحتى اليوم أنا أقدم نشرات الأخبار».
وكعادتها لم تتأخر كارن طويلا في هذه المحطة لتمضي إلى غمار تجربة أكبر، إلى مغامرة أكثر عمقا، وإلى مسافة أبعد بكثير، أرادت أن تجرب طاقاتها في جغرافيا أخرى بعيدة عن بلدها وناسها ومشاهديها، فكانت المحطة التالية موسكو، تقول: «انتقلت إلى تلفزيون (روسيا اليوم) الناطقة بالعربية، كانت تجربة مختلفة تماما، هناك تعلمت أمورا جديدة ونضجت إمكانياتي الإعلامية، إذ عملت في موسكو سبع سنوات كنت أقدم الأخبار والحوارات مع السياسيين والقادة العرب على الهواء»، توضح قائلة «محطة مثل روسيا اليوم تابعة للدولة ولنظام ليس منفتحا تماما يكون عندهم منهج خاص ولهم حسابات معينة وأجندة محسوبة تماما وليست مثل بقية المحطات التلفزيونية الأخرى، كما أن غالبية المقدمين كانوا من الروس الذين يتحدثون العربية ووجودنا كان تطعيما للمحطة، لكن هذه التجربة كانت بداية العمل التلفزيوني الحقيقي بالنسبة لي».
وفي اختياراتها بين الصحافة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية، تختار كارن «أحب الصحافة المكتوبة، أشعر بأني أنتمي إليها لأنها بالنسبة لي توقيع، بصمة، أجد تميزي بالكتابة وأجد شخصيتي فيها، ولم أتوقف عن الكتابة إذ كنت أبعث من وقت لآخر من موسكو لجريدة (المستقبل) ولصحف على النت». تضيف «الصحافة المكتوبة لن تتوقف، حبر الجرائد لا يموت، ربما يخف التوزيع أو يقل عدد النسخ لكن الصحافة المطبوعة تبقى قوية ومؤثرة، أنا ما زلت أكتب بالقلم ولا أعتمد على الآيباد أو الكومبيوتر».
وتأتي الإذاعة بعد الصحافة المطبوعة في اهتمامات كارن، تقول: «للأسف نحن نعيش عصر الصورة المزوقة وليس عصر الصوت، الإذاعة صارت لجيل جدي وجدتي، لجيل ينقرض، نحن لا نجد اليوم أي شاب يستمع للأخبار عبر الإذاعة أو برامج ثقافية أو أغان أصيلة، أنا أستمع للإذاعة لأني أشعر بأني أنتمي لها أو لجيل ما يزال متمسكا بها رغم أني أصغر من جيل الراديو»، تضيف «للأسف نحن في عصر الأطعمة السريعة (Junk Food) كل شي ينطبخ بسرعة والأكل صار بلا طعم، هذا لم يحدث في الإذاعة أو الصحافة المكتوبة كونها غير مغرية للفتيات، صارت الشابة تخرج مرة أو مرتين على الشاشة فتتصور نفسها صارت نجمة تلفزيونية بغض النظر من تكون وما هي أهميتها».
وتخلص الإعلامية اللبنانية كارن عابد إلى أن «الإعلام المرئي لم يعد موجه للنخبة بل للمستهلكين، صار بإمكان أي شخص غني أن يفتتح محطة فضائية لأغراض (البيزيس) والوجاهة، أو للترويج لاسمه في الانتخابات، وراح يختار أي شابة يعتقد أنها جميلة من دون أن يسأل عن كفاءتها أو تجربتها الإعلامية، أصحاب رؤوس الأموال صاروا هم من يتحكم بالإعلام لغسل أدمغة المتلقين، وتفوقت (الخفة) على حساب الكفاءة والجوهر».
وتلخص أسلوبها في العمل قائلة «أنا في عملي أفكر بالناس الذين لا يستطيعون إيصال صوتهم، أسئلتهم هواجسهم أفكارهم وما يهمهم، كما أني أتحضر وأعمل بحوثي عن الضيوف الذين سأحاورهم، ويهمني أن أظهر بزي بسيط لكنه أنيق وكلاسيك ولا أميل للبهرجة في التلفزيون».
كارن عابد: مفترق طرق قادني إلى مشوار الصحافة.. والإعلام رسالة نبيلة
الإعلامية اللبنانية قالت إن الكفاءة غابت في الفضائيات وحلت بدلا عنها البهرجة
كارن عابد: مفترق طرق قادني إلى مشوار الصحافة.. والإعلام رسالة نبيلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة