شخصيات دموية تقمصت سيَر أبطال وتماهت معها

صدام حسين نموذجاً

صدام حسين
صدام حسين
TT

شخصيات دموية تقمصت سيَر أبطال وتماهت معها

صدام حسين
صدام حسين

صدر عن دار «سطور» ببغداد كتاب «الديكتاتور بطلاً» للباحث رياض رمزي المُقيم في لندن منذ أربعين عاماً، وعلى الرغم من غربته الطويلة، فإنه يتابع دائماً التحولات السياسية والاجتماعية والنفسية للمجتمع العراقي، فكتب دراسة مُستفيضة عن «الاقتصاد السياسي للمواكب الحسينية»، وأنجز كتاباً آخر يحمل عنوان «الديكتاتور فناناً» رصد فيه الشخصية المُستبدِة للرئيس العراقي السابق صدّام حسين، محللاً بعمق «أناه» المريضة المتضخمة التي أهلكت البلاد والعباد. أما في كتابه الجديد «الديكتاتور بطلاً» فيركز على القراءات الأولى التي ساهمت في تشكيل وعي صدام المتطرِّف، وأوهامه الضبابية الخادعة التي ظل يصدِّقها حتى الرمق الأخير.
يعتمد الباحث رياض رمزي بشكل أساسي على آراء المفكر المالطي إدوارد دي بونو صاحب نظرية «التفكير الجانبي» Lateral Thinking الذي انهمك منذ أواخر الستينات من القرن الماضي. وأبسط تعريف للتفكير الجانبي هو محاولة إيجاد الحلول للمشاكل التي تصادفنا بواسطة مقاربات إبداعية غير مباشرة تقتضي الخروج على المناهج المنطقية المألوفة التي نتّبعها في «التفكير العمودي» Vertical Thinking الذي يعتمد كلياً في حلّ المشاكل على المنطق التقليدي المتزمت الذي لا يرضى بشطحات الخيال، والمُصادفات، والأفكار والرؤى الجديدة التي لم نألفها من قبل.
يحلل الباحث في هذا الكتاب فكرة البطولة، وكيف ترسّخت في ذهن صدام حسين الذي صعد صعوداً «عجائبياً ومدوخاً» وأصبح ديكتاتوراً من الطراز «الرفيع» بحيث يمكن مقارنته بكبار الطغاة في العالم أمثال الإسكندر الكبير، نيرون، هتلر وسواهم من العُتاة والمتجبرين.
يتساءل الباحث في مستهل كتابه إن كانت مصادر الديكتاتور تعود لملوك بابل أم أنه كان وريثاً فكرياً لأبطال آخرين حُفرت أسماؤهم في ذاكرته الشخصية وظلت تمدّه بالأوهام والتخيّلات الفنتازية التي يصعب أن تجد طريقها إلى أرض الواقع؟ وبما أنّ الباحث يحبِّذ نظرية التفكير الجانبي بغية توليد أفكار جديدة يستمدها من لحظة تبصّر خاطفة، أو إعادة تقييم للأفكار القديمة، فلا غرابة أن يأتي بحلوله الإبداعية الجديدة لأنه يرى ما لا يراه الآخرون، وينظر إلى الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة أو من زاوية نظر مغايرة تماماً للتفكير العمودي.
يحتشد الكتاب بأحد عشر مبحثاً فرعياً تصبُّ كلها في فكرة «البطولة» التي اقتنع بها الديكتاتور لكنها في حقيقة الأمر بطولة زائفة ووهمية أفضت به إلى حبل المشنقة بينما كان يفضّل، وقت محاكمته، الإعدام رمياً بالرصاص بوصفه ميتة «رجولية» تقترن بالشجعان الصناديد لا المجرمين الأوباش.
يعتقد الباحث أن قراءات الديكتاتور المكثفة للسيَر، والمغازي، والمعلّقات هي التي شكّلت له سبيلاً للهروب من عالم الفقر المدقع الذي عاشه في طفولته وصباه حيث انكبّ على قراءة السيَر العربية مثل سيرة عنترة بن شدّاد، وسيف بن ذي يزن، والزير سالم وما إلى ذلك وكان يتقمص شخصيات أبطالها إلى درجة التماهي بحيث شكّلت حاجزاً بينه وبين العالم الواقعي الذي يعيش فيه.
من أبرز النتائج التي توصّل إليها الباحث أن بطولة الديكتاتور كانت ذات مضمون وبُعد جاهليينْ لأن مرجعياته الثقافية والفكرية تعود إلى الملك كُليب بن ربيعة، والشاعر عمرو بن كلثوم، والفارس عنترة بن شدّاد، وربما تذهب أبعد من ذلك إلى حمورابي ونبوخذنصّر الثاني وسواهما من القادة البابليين الذين رَسَخوا في الذاكرة الجمعية للمواطنين العراقيين.
لم يكن الديكتاتور مهموماً بقضايا شعبه لأنه كان معنياً على الدوام بمجده الشخصي، وقوانين رفعته، وهو يشبه إلى حدٍ كبير هتلر الذي سعى إلى بناء مجده الفردي ومسخَ أمجاد الآخرين ضباطاً وجنوداً ومقاتلين لهذا اختفى نظامه بسرعة ولم يبقَ منه سوى خلايا نائمة قد تستفيق على شكل أفراد موتورين أو مجموعات صغيرة لا تؤخذ في الحسبان.
يعتقد الباحث أن صدام حسين وغيره من الطُغاة ليسوا عظماء وإنما استثنائيون، ذلك لأن «العظمة فيها الكثير من الأستاذية والحِرَفية. أما الاستثنائية ففيها شيء أو الكثير من الرعونة والطيش والتهوّر». فردريك الكبير كان مثالاً للبطولة والعظمة بينما كان نابليون بونابرت أقل بطولة منه لأنه رجّح دوي المدافع على لغة العقل، وبُعد النظر.
على الرغم من كثرة مستشاريه لم يستشر الديكتاتور أحداً لأنه لا يقيم وزناً لبطانته أو الحلقة الضيّقة المحيطة به، وقد اعترف طارق عزيز وهو أحد الشخصيات المقرّبة منه بأنه لا يعرف كيف اتخذ صدام حسين قرار احتلال الكويت! ولعل قراءة ماركس دقيقة جداً في هذا المجال حينما قال: «إن تقاليد الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء»، وما من شخص في حزب البعث كان مأسوراً بالماضي، ومتعلقاً به مثل صدام حسين الذي ذهب ضحية المبالغات التراثية ويكفي أن نشير هنا إلى البيت الأخير من معلقة عمرو بن كلثوم التي تعد أنموذجاً للغلوّ في المبالغة الشعرية حينما قال: «إِذَا بلغ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـي - تَخِـرُ لَهُ الجبـابِرُ سَاجِديْنَـا».
لم يكن الديكتاتور واهماً فقط، وإنما كان يؤمن أنّ فيه شيئاً من شخصية الساحر الذي يعتقد أنه قادر على تغيير الواقع. وقد ظل هذا الوهم ملازماً له حتى في معاركه الخاسرة مع قوات التحالف فقبل أن يذهب الفريق أول الركن سلطان هاشم إلى «خيمة صفوان» أخبره الديكتاتور «أن عليه أن يتصرف كمنتصر فخور بنصره، وألا يمدّ يده لهم قبل أن يتأكد من مدّ أيديهم له، فالمنتصر لا يستعطف المهزوم لشدّ يده». تُرى، أي مدى من الوهم كان الديكتاتور قد بلغهُ بحيث بات يرى الهزيمة الشنعاء نصراً مؤزراً؟ وكم كان أسيراً لاعتقاداته المغلقة التي تعود فعلاً إلى الحقبة الجاهلية، ولو لم يكن الأمر كذلك لما اختار كلمة «المنازلة» التي تعني «نزل لقتال عدوه ومنازعته وجهاً لوجه»، مُذكراً إيانا بمنازلات الفرسان بالسيوف أيام الجاهلية، فلا غرابة أن ينعت قوات التحالف بالجبن لأنهم لم ينازلوه وجهاً لوجه وإنما كانوا يقاتلونه عن بُعد بطائراتهم الشبحية، وصواريخهم الذكيّة.
يتذكر الجميع زيارات الديكتاتور للمحافظات «البيضاء» التي لم تنتفض ضدّه وبدلاً من أن يلوّح للمواطنين بيديه سحب مسدسه الشخصي وبدأ بإطلاق النار فوق رؤوس المحتشدين لاستقباله وتحيته، وهي عادة أقل ما يقال عنها أنها ريفية أو بدوية مستقاة من القيم الصحراوية أو الجاهلية.
توقف الباحث عند أغنية للأطفال تنطوي على قصة مُعبِّرة تقول: «بسبب سقوط المسمار فُقدت الحدوة، بسبب غياب الحدوة سقط الجواد، بسقوط الجواد سقط الفارس، اختطف الأعداء الفارسَ وذبحوه»، لم يكن الديكتاتور سوى مسمار منخور في حذوة قديمة متآكلة أفضت إلى قتل الفارس، وذبح الوطن من الوريد إلى الوريد.
ثمة مصادر أجنبية رصينة أفاد منها الباحث أبرزها «26 يوماً مع صدام حسين» لكريس فورد، و«استجواب الرئيس» لجون نيكسون، وفيهما معلومات مهمة عن شخصية الديكتاتور الذي بكى أول مرة على ابنتيه اللتين هربتا مع زوجيهما فقال: «أشتاق إليهما. أنا أحبّهما كثيراً»، بينما لم يذرف دمعة واحدة على آلاف الأسرى والمفقودين العراقيين الذين ذهبوا شباباً إلى جبهات القتال، وعادوا أشبه بالشيوخ الهرمين الذين طعنوا في السن، وغرقوا في اليأس المطلق.


مقالات ذات صلة

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

ثقافة وفنون «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

تطرح قصص «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة» للكاتبة المغربية هدى الشماشي تساؤلات وجودية في محاولة للتوفيق بين حيوات أبطالها ومآسيهم الخاصة المتواترة عبر العصور

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
TT

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب، خصوصاً مع اعتماد هاشتاغ «بوك_توك»، فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة، لا يوافقون بالضرورة على هذا الرأي. وهم ينظرون إلى المنصات الاجتماعية على أنها متكاملة، وكل منها توصل المؤثر إلى فئة مختلفة تتناسب وتوجهاته.

المؤثرة المصرية نضال أدهم، التي أطلقت قناتها حول الكتب على «يوتيوب» قبل تسع سنوات، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، لها اليوم أكثر من 400 ألف متابع. ولها صفحتها على «إنستغرام» التي يتابعها 186 ألف شخص، وعلى «تيك توك» 320 ألفاً، وبعض منشوراتها تنال سبعة آلاف مشاهدة، لكنها تحنّ إلى انطلاقتها الأولى، وهناك تجد نفسها في المكان الذي يريحها وتلتقي فيه بأريحية مع متابعيها.

المؤثر السعودي خالد الحربي

لا تنكر أنها حققت قفزة خلال فترة الوباء، وكانت على مختلف وسائل التواصل. «لكن (يوتيوب) هو بيتي، وفيه أجد راحتي. وكل تسجيل عليه هو بالنسبة لي مشروع، أما على باقي الوسائل فأنا أتكلم عفوياً، من دون حسابات واعتبارات».

خالد الحربي، المؤثر السعودي المعروف بصفحاته التي تحمل اسم «يوميات قارئ»، له رأي آخر، إذ يجد نفسه على «إكس» حيث يتابعه نحو 355 ألف شخص، وبعض منشوراته يتجاوز عدد مشاهديها سبعة آلاف. له متابعوه على «إنستغرام» و«تيك توك» و«سناب شات»، لكن «إكس» بالنسبة له هي الأساس. «من هذه المنصة بدأت، ولا أزال أراها الأهم».

الخوارزميات تفرض منطقها

«تيك توك» كان بالنسبة إلى خالد صادماً. «فهمت حين دخلته أن عليك ألا تتفلسف، قل لنا بسرعة عن ماذا يتحدث الكتاب. المتابع هناك يريد الزبدة وكفى».

هذا مع أن خالد حاصل على جائزة أفضل متحدث عن الكتب على منصة «تيك توك» عام 2024، لكنه مع ذلك، لا يراها مفضلته. «ليس طموحي أن أكون الأفضل، ولا أحب تضييع وقتي. القراءة بالنسبة لي متعة. يقال إن الشخص لا يستطيع أن يقرأ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب في حياته، لهذا لا أريد أن أغرق في الترَّهات. أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ أو أتحدث إلا عمّا يعجبني».

قد يعود اختلاف المؤثرين حول الوسيلة الفضلى لإيصال رسالتهم، إلى مدى انسجامهم مع طبيعة الخوارزميات التي تحكم عمل كل منصة. «حين تنشر على (إنستغرام)، لا بد أن تفهم طريقة عمل خوارزميات التطبيق. لا يمكنك الكلام هناك كأنك في صحيفة». يقول الكاتب السعودي رائد العيد: «أنا متابع لموضوع المؤثرين منذ نحو عشر سنوات، وأرى أن لكل وسيلة أبجدياتها. مثلاً، على (تيك توك) يجب أن يكون محتواك قصيراً ومكثفاً ومحفزاً، من دون تسطيح، وهذا موجود، مع أن آخرين يدخلونه من باب البحث عن الانتفاع أو كسب الشهرة والانتشار».

لهذا وجد خالد ضالته على «إكس»: «لا أحب أن أضيع وقتي في التصوير والمونتاج، والبحث عن المؤثرات على (تيك توك) أو الوسائط المصورة، كلها أمور مجهدة، وبعدها قد لا تجد المادة المنشورة رواجاً. أفضّل الكتابة على (إكس)، وأجدها وسيلة ناجعة وممتعة. التفاعل كبير، ولم أكن أتوقع ذلك. حين بدأت لاحظت أن الكثير من الأطروحات كانت صعبة، فركزت على تسهيل المادة. التفاعل والصدى اللذان وجدتهما كانا بالنسبة لي فاتحة الأبواب».

دور النشر تبحث عن دربها

رائد العيد، متخصص في ظواهر القراءة والكتابة ومرشد في هذا المجال، وله مؤلفات منها «دروب القراءة» و«درب الكتابة»، كما أنه أسس منذ سنوات «مجتمع الكتابة»، ويعتقد جازماً أن المنصة الأشهر الآن هي «تيك توك»، أما «إنستغرام» فقد سجّل صعوداً جيداً، لكنه بدأ يضعف أمام «تيك توك». وفي الخليج يوجد حضور بارز للكتب على «سناب شات»، لكنه يخفت، وكذلك الأمر مع منصة «إكس» التي فقدت وهجها منذ سنتين بعد أن تم تغيير خوارزمياتها.

الناشرة اللبنانية رنا الصيفي تعترف بأن الدور العريقة التي لها عشرات السنين من التاريخ في السوق، لسوء الحظ لا تزال تتردد طويلاً قبل التعاطي مع المؤثرين، وهذا خطأ. فالمنافسة كبيرة، والمواكبة مهمة، مع ذلك، هي دون المطلوب. في حين أن هناك دوراً بالغت في الاعتماد على وسائل التواصل: «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي أعمل بها عمرها 50 سنة، ليس من السهل أن تتعامل مع هكذا مستجدات بسهولة». لكنها منذ أصبحت مديرة للنشر بدأت تتعاون مع مؤثرين: «بعضهم يتصلون بنا، ومنهم من نلتقيهم في المعارض، أو نبادر نحن بالاتصال بهم، لأن لهم قاعدة من المتابعين، ولا نغفل أيضاً نوادي الكتب التي هم أحياناً يديرونها أو على صلة معها». تشرح الصيفي: «أتعامل مع أربعة مؤثرين فقط لهم وزن. الفكرة ليست بالعدد بل بالنوعية. لا تهمني الكمية والكثرة، ما يهمني هي الطريقة التي يقدم بها الكتاب، ومستوى من يتحدث أو يكتب عنه. والمؤثرون باتوا يؤثرون فعلياً في قرار الشراء».

الكاتب رائد العيد

كثير من الكتب... قليل من الوقت

ويخبرنا العيد أنه شخصياً بدأ اهتمامه بالقراءة تحت تأثير وسائل التواصل، فدورها ليس تحفيزياً فحسب، ولكنها أيضاً لها أهمية في الإرشاد، والتوجيه نحو نوعية الاختيارات، حيث يبني القراء، خصوصاً المبتدئين، على ما يسمعونه من المؤثرين».

يذهب العيد أبعد من ذلك حين يقول: «في دورات الكتابة التي ننظمها، نقول للمتدرب: عليك أن تتعاون مع هؤلاء المؤثرين، لا أن تخسرهم، لأن صدودك عنهم قد يقتل الكتاب أو يقلل من فرصه».

دور النشر تفهم هذا الدور، بعضها يغدق على المؤثرين من إصداراتهم، ويحاولون اجتذابهم وإغراءهم للتحدث عن كتبهم. لكنَّ هذا يتحول إلى عبء على مؤثرين كثر، تنزل عليهم الكتب بكميات، تفوق قدرتهم على القراءة. «بينها كثير مما لا يتناسب وذوقي، ولا أرغب في أن أحتفظ به»، تقول نضال.

مؤثرون يطلبون الحرية

خالد يوافقها الرأي: «لست آلة، ولا أريد أن ألتزم، وكثيراً ما أُحرج. لو أخذت الكتب من الناشرين بالمجان أشعر بالتزام نحوهم، رغم أنهم لا يطلبون ذلك بشكل مباشر. أفضِّل الكتب التي أشتريها وأختارها بنفسي. أريد أن يتركوني على راحتي. القراءة بالنسبة لي متعة، ولا أحب أن أُجبَر على قراءة ما لا أريد. كما أنني أحب أن أكتب بهدوء ومن دون رقيب». يفهم خالد أن الناشر في النهاية تاجر، وهو لا يريد أن يدخل في هذه الدوامة.

لكن نضال تؤكد أنها تتحدث بحرية عن الكتب التي تصل إليها. «تسع سنوات في صحبة الكتب على وسائل التواصل، لم أعمل دعايةً لكتاب». لكنها في الوقت نفسه ترى أن دور النشر لا بد أن تخصّ المؤثرين بمبالغ مادية من خلال عقد محترم ينظم العلاقة بين الطرفين. هذا يحدث في الغرب. وهي مدفوعات يجب ألا تكون مشروطة.

المؤثرة المصرية نضال أدهم

مهنة أم هواية؟

درست نضال (27 سنة) طب الأسنان، لكنها لم تمارس هذه المهنة، ونالت ماجستير في العلوم السياسية وتعمل في مجال البحث، كي يتكامل هذا مع اهتمامها بالقراء. لذلك تعتقد أن الجهد الذي تقوم بها يستغرق وقتاً، ويحتاج إلى مكافأة كي تتمكن من الاستمرار. إنما كيف للمؤثر أن يبقى مستقلاً وهو يتقاضى أجراً؟ «ليتعاملوا مع المؤثر على أنه ناقد، له رأيه الذي قد يكون سلبياً أو إيجابياً». تقول نضال: «وفي كل الأحوال يجب أن يرحبوا بالنقد، ويعملوا على تحسين أنفسهم. إن كانوا لا يريدون سوى المديح، فهم الخاسرون في النهاية».

هناك من يتقاضون مقابلاً، كما يخبرنا العيد، وهذا يظهر في الترويج لكتب ضعيفة، أو التركيز على دار نشر واحدة. هناك دور نشر تتعاقد مع مؤثر على مدى شهر مثلاً للترويج لكتبها، أو يطلَب من المؤثر أن يتحدث عن كاتب موجود في معرض للكتاب، أو أي مناسبة أخرى.

ويضيف العيد: «المؤثرون في الغالب لا يحبِّذون هذا، لأنهم يخافون من فقدان المصداقية، خصوصاً أن العائد قليل، ولا يستحق أن يقيِّد المؤثر حريته في سبيله، ويفقد ولاء وثقة متابعيه».

فقدان المصداقية... أزمة الأزمات

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر، هي المشكلة الكبرى، حسبما قال كل الذين تحدثنا معهم.

خالد يتألم وهو يتجول في المعارض من كثرة الغثّ. «ثمة كتب كثيرة لا ذوق ولا طعم ولا رائحة. كانت أسماء المؤلفين والمترجمين معروفة، اليوم كثرت النتاجات، وعمَّت الفوضى». بالنتيجة تقول نضال: «بات القارئ يفضل أن يقرأ الكتب المترجمة أو القديمة، لأن الكتب الرائجة بحجة أنها (تراندي)، كثيراً ما تصيب بعد شرائها بالإحباط. وهذا يسيء إلى الكتاب الموهوبين، ويعطي انطباعاً أن الكاتب العربي الجيد غير موجود». ويوافق خالد معتبراً أن القارئ ذكي، وأن المؤثر حين يحاول أن يروج لنتاج رديء فإنما يجعل المتابعين ينفضّون عنه سريعاً، ولا يثقون به، وبنصائحه.

تعي الناشرة رنا الصيفي عُمق الأزمة. لهذا لا تحب التعامل مع مؤثرين لا يقرأون، ويتحدثون عمَّا لا يعرفون. «ما يهمني أن ينتشر فكر المؤلف ونتاجه، وليس فقط بيع الكتاب. وكذلك التعريف بكتاب موهوبين جدد»، ولا تنكر أن هؤلاء بات لهم دور وتأثير كبيرين بشرط تحليهم بالمصداقية. فإذا رأى المنشور 500 شخص، فهذا يكفي.

بعض القراء، حسب العيد، يرون أن نصائح المؤثرين أشبه بوصاية تمارَس عليهم، والإصغاء إلى هذا النوع من التوجيه يحدّ من حريتهم. لكنَّ المؤثر المتمكن يقدم مقترحات بناءً على تجربة، وللقارئ الحرية في النهاية.

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر هي المشكلة الكبرى

الخلطة الناجحة

«أعتقد أن الخلطة الأساسية الناجحة على وسائل التواصل هي في مهارة الجمع بين الجدية في الطرح، والتوافق مع المؤثرات الخاصة بهذه التطبيقات»، يقول العيد.

«نسبة كبيرة من المراجعات الجادة لا تلقى رواجاً. نجد نقاداً كباراً لا ينجحون لأنهم يتعاملون مع المنصات كأنهم في مجلة ثقافية أو في محفل أدبي، كأن يتحدث أحدهم عن البنيوية في الرواية والتفكيكية. هذا لا يتناسب مع وسائل التواصل التي تحتاج إلى أسلوب جاذب يتناسب معها».

كلما ازددت توغلاً في فهم ما يحدث حول الكتب على وسائل التواصل، تشعر بأن المشهد يزداد ضبابية. فالقارئ الخليجي، كالمؤثر، له ظروف مختلفة، والجمهور لا يعاني أزمات كبرى. في لبنان، القارئ غائب تقريباً لكنّ الناشر حاضر بقوة، وفي مصر وضع آخر. وإذا كانت الفئة العمرية الناشئة تدمن «تيك توك» و«إنستغرام»، فإن قراء أعمارهم فوق الخمسين قد لا تكون لهم صفحات على «فيسبوك» أو «إكس».