محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق

10 سنوات على غياب صاحب «الجدارية»

محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق
TT

محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق

محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق

لم يكن محمود درويش يحتاج إلى غيابه الجسدي لكي يتيح لنا أن نقف في ضوء هذا الغياب على المساحة الشاغرة التي خلفها وراءه.
ولم يكن الشاعر عرضة للتجاهل والغبن وسوء الفهم لكي نقول: لا بد من موته لكي ننتبه إليه. ذلك أن أحداً في دنيا العرب، ربما باستثناء نزار قباني، لم يكن ليملك تلك الكاريزما الآسرة التي امتلكها درويش منذ بداية شهرته في فلسطين المحتلة وحتى تحوله إلى أيقونة حقيقية في سني حياته الأخيرة. وهو من بين الشعراء القلائل الذين أمكن لأمسياتهم ولقاءاتهم مع الجمهور أن تتحول إلى تظاهرات حاشدة يتنادى لها الناس من مختلف الشرائح والأمزجة والأهواء الفكرية والسياسية، وتغص بها القاعات والمحافل ومدرجات الجامعات وملاعب كرة القدم. وفي حين ظلت النجومية في العالم العربي صناعة مقتصرة على المطربين والممثلين، فقد عرف درويش كيف يجسد بنضارة نصوصه وديناميتها، كما بالوسامة اللافتة التي لم تفارقه كهلاً، ما سماه الكاتب الآيرلندي جيمس جويس «صورة الفنان في شبابه». وحيث راح بعض الشعراء يردون على واقعهم المزري وفقرهم وتهميشهم من قبل السلطة أو المجتمع، عبر الصعلكة والتقوقع الشخصي وتدمير الذات، فإن الظروف القاسية التي واجهت درويش في الوطن المحتل وخارجه لم تزده إلا تشبثاً بصورة الشاعر الأنيق و«الأرستقراطي» الذي يعرف متى يقترب من الآخرين، ومتى يحتجب عنهم، والذي يرى في الشعر رديفاً للكرامة والجمال والترفع، لا للمهانة والتسكع والسلوك العدمي. فإذا كان لا بد من الجنون، فليكن بالنسبة له من داخل النص وعبره، وإذا كان لا بد من الصعلكة فلتكن عن طريق الانقلاب على المتن المتوارث والبلاغة السائدة.
لكن السؤال الأكثر إلحاحاً في هذا السياق لا يتعلق بالمكانة التي اكتسبها محمود درويش في حياته، بل بالعوامل المختلفة التي وفرت لاسمه ولشعره أن يظلا، بعد عشر سنوات من موته، راسخين أشد الرسوخ في الوجدان العربي والإنساني. وما على أي منا سوى التأمل قليلاً في مواقع التواصل الاجتماعي لكي يتبين له المدى الواسع لتفاعل الآلاف مع نتاج درويش، واستشهادهم بنصوصه الشعرية والنثرية، لا حين تحضرهم مأساة فلسطين فحسب، بل في شتى المواقف والمناسبات المتعلقة بشؤون الحياة في مباهجها ومكابداتها.
وفي حين أن عشرات الشعراء الفلسطينيين والعرب ممن يدينون بنجوميتهم إلى الرافعتين الآيديولوجية والإعلامية، قد عادوا بعد رحيلهم إلى كنف النسيان المطبق، لا يزال اسم درويش يحتفظ ببريقه السابق، ويلتف من حوله قراء ومتابعون كثر من الأجيال القديمة أو الصاعدة. والحقيقة أن القيمة المضافة لمكانة صاحب «سرير الغريبة» لا تتعلق بالقضية العادلة التي حمل لواءها مع كثر غيره، بل بإيلائه الشعر كل عنايته ووقته، وجعْله له جوهر حياته ومعنى وجوده الأهم. فهو لم يركن في مسيرته الشاقة إلى الموهبة وحدها، ولم ينم على حرير التعاطف التلقائي والمسبق للجمهور الواسع الذي هتف في وجهه ذات يوم «أنقذونا من هذا الحب القاسي». وهو أيضاً لم يستسلم لإغواء السلطة التي وصل يوماً إلى سدتها في قيادة منظمة التحرير، بل وضع كل ذلك خلف ظهره وانتهج الطريق الأصعب لخوض معركته القاسية والقاتلة مع الكلمات. ومن يتتبع المجموعات الأولى للجيل الذي انتمى إليه الشاعر لن يعثر على فروق تُذكر بينه وبين أقرانه، فيما تكشف أعماله اللاحقة عن ثقافة واطلاع عميقين، وعن تبتل روحي قارب حدود التنسك، وعن نزف نفسي وجسدي ما لبث أن قاد شرايينه الواهنة إلى الانفجار.
كانت «هجرة» محمود درويش من فلسطين باتجاه العالم الأرحب في مطلع سبعينات القرن الفائت أول الأثمان التي كان لا بد من دفعها في سبيل تطوير لغته وإخراجها من دائرة الكتابة الخام والفضفضة الغنائية والتحريض المباشر باتجاه الترميز والتكثيف الدلالي والأسئلة الإنسانية العميقة. فضلاً عن أن تلك الهجرة كانت، رغم ما سُدد باتجاهه من سهام التجريح، أكثر من حاجة ملحة لاستكناه فلسطين الأعماق واستردادها عبر الشعر بما هي بحث مضن عن قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، لا بوصفها مساحة جغرافية محددة. ولدى إقامته في بيروت أظهر درويش انحيازاً واضحاً للشرط الإبداعي في وجه اللافتات السياسية والتعليب الآيديولوجي المحْكم، وهو ما يفسر رده الانفعالي على من طالبه بقراءة قصيدته الشهيرة «سجل أنا عربي» بقوله غاضباً «سجل أنت!». ولم يكن ذلك ليعني بأي حال تنصل الشاعر من القضية التي حملها في قلبه وشعره حتى النهاية، بل يعني تراجعاً عن مقولاته السابقة حول مصالحة الشعر مع الجمهور الواسع، ولو اقتضى ذلك تنازل الشاعر عن بعض سقوفه الإبداعية العالية. وهو ما جسدته بوضوح قولته الشهيرة:
قصائدنا بلا طعمٍ بلا صوتِ
إذا لم يفهم البسطا معانيها
إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتِ
وإن لم يفهم البُسطا معانيها
فأوْلى أن نذرّيها
ونخْلد نحن للصمتِ
وحيث مثلت قصيدته «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» بداية مغادرته لمرحلة الغناء الرومانسي، وانعطافته نحو التكثيف واستخدام الرمز، عاش درويش في بيروت، التي كانت عشية حربها الأهلية موزعة بين مغامرة الحداثة وبين التدجين الثقافي والآيديولوجي، لحظات صعبة ومكلفة على صعيد العلاقة بجمهوره.
وما زلت أذكر كيف انسحب العديد ممن وفدوا للاستماع إليه في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية ليلتحقوا بأمسية مظفر النواب في كلية الحقوق، بعد أن أرهقتهم مواكبة قصيدته الطويلة والآهلة بالرموز «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق». لا بل إن الراحل شفيق الحوت اضطر في أمسية أخرى، وأثناء قراءة درويش لقصيدته «أحبك أو لا أحبك»، أن يطرد أحد الطلاب «اليساريين» من القاعة بعد أن احتج هذا الأخير على ما اعتبره «تلهي» شاعر المقاومة المفترض بأمور الحب، في اللحظة التي تتعرض فيها المقاومة الفلسطينية للضرب على يد الجيش اللبناني.
بذل محمود درويش من جهة ثانية جهوداً ضارية للتخلص من كل أولئك الذين وقع تحت تأثيرهم في مقتبل تجربته، والذين بدت ظلالهم واضحة في نصوصه الأولى من مثل السياب ونزار قباني وأدونيس وصولاً إلى لوركا ونيرودا. لكنه بالضراوة ذاتها تصارع مع نفسه وظل ينقلب على منجزه السابق بين مجموعة وأخرى.
ومع ذلك فإن نذُر موهبته العالية لم تكن غائبة عن بعض قصائده الشفافة والغنية بالترجيعات، من مثل:
مطرٌ ناعمٌ في خريف بعيدْ
والعصافير زرقاءُ زرقاءُ والأرض عيدْ
لا تقولي أنا غيمة في مطارْ
فأنا لا أريدْ
من بلادي التي سقطتْ من زجاج القطارْ
غير منديل أمي وأسباب موتٍ جديدْ
على أن الشاعر منذ مجموعته «محاولة رقم 7» الصادرة أوائل السبعينات، مروراً بقصيدة «الأرض» و«أحمد الزعتر» ووصولاً إلى «بيروت» و«مديح الظل العالي» راح يؤالف بين الترجيع الغنائي المترع بالحنين وبين النفس الملحمي الذي تتقاطع في مناخاته الأسطورة والتاريخ والرموز الصوفية المختلفة. وهو المنحى الذي عمّقه لاحقاً في نصوص «الهدهد» و«مأساة النرجس وملهاة الفضة» و«حجر كنعاني في البحر الميت»، كما لو أنه أراد أن يكون هوميروس الجديد الذي يؤرخ للتغريبة الفلسطينية، ويعصم الذاكرة الجمعية من التلف.
ومع ذلك فقد شعر محمود في منتصف الثمانينات، وبعيد أزمته القلبية الأولى، بأنه يكاد يستنزف لغته وإيقاعه الإنشادي ومراثيه وموضوعاته الأثيرة. لذلك فقد راح يبحث عن أفق للكتابة بعيد عن القصيدة «الشاملة» التي تقول كل شيء، والتي تزخر باللغة الهادرة والصور الباذخة والإيقاع العالي الذي يأخذه البحر الكامل نحو فضاءات صوتية يصعب لجمها. ولم يكن ابتعاده عن «الكامل» واختياره لـ«المتقارب» نموذجاً إيقاعياً وحيداً ينتظم قصائد مجموعته «ورد أقل»، سوى الترجمة العملية لتبرمه بالغنائية المفرطة وجنوحه نحو موسيقى أكثر خفوتاً تسمح للغة الدرامية بالتنامي، وتتواءم مع خلجات النفس وتوترات الداخل. ليس ثمة هنا من معلقات ومطولات نافلة، بل سونيتات قصيرة نسبياً تتحلق كل منها حول مشهد أو فكرة أو تفصيل حياتي أو حوار مونودرامي يتصل بالفرد كما بالجماعة:
مطار أثينا يوزعنا للمطارات
قال المقاتل: أين أقاتل؟
صاحت به حاملٌ: أين أهديك طفلك؟
قال الموظف: أين أوظف مالي؟
فقال المثقف: مالي ومالكَ!
قال رجال الجمارك: من أين جئتمْ؟
أجبنا: من البحر
قالوا إلى أين تمضون؟
قلنا: إلى البحر...
كان مطار أثينا يغيّر سكانه كل يوم
ونحن بقينا مقاعدَ فوق المقاعد ننتظر البحرَ
كم سنة يا مطار أثينا!
كما أن المتابع لتجربة درويش بعد خروجه من بيروت لا بد أن يلحظ اهتمامه المتنامي بتعميق ثقافته، التي راحت تغرف من غير مَعين وتتسع دائرتها لتشمل الفلسفة والفكر السياسي والنقدي والتاريخ وعلمي النفس والاجتماع وغيرها من القراءات والدراسات اللغوية والدينية والنقدية. وهو ما عكسته بوضوح موضوعاته المتصلة بمعنى الحياة والموت والزمن والحب والغياب، إضافة إلى تكثيف صوره وتنويع موضوعاته وعنايته بالتفاصيل المحسوسة وتعميق أسئلته الإنسانية. وإذا كان شاعر متميز بمهارة درويش قادراً على إخفاء مصادره المعرفية وتذويبها داخل النص الشعري، فإننا رغم ذلك نستطيع أن نتعقب في بعض نصوصه آثار الكتب التي شغف بها، فتعيدنا قصيدة «خطبة الهندي ما قبل الأخيرة» إلى كتاب تودوروف «فتح أميركا»، وتعيدنا قصيدة «الهدهد» إلى كتاب «منطق الطير» لفريد الدين العطار، وتعيدنا «قناع مجنون ليلى» إلى كتاب «سوسيولوجيا الغزل العربي» للطاهر لبيب، و«لو ولدت» إلى «الهويات القاتلة» لأمين معلوف، حيث نقرأ له قوله عن الهوية المركبة:
لو ولدتَ من امرأة أسترالية وأبٍ أرمني
ومسقط رأسك كان فرنسا
فماذا تكون هويتك اليوم؟
طبعاً ثلاثية
كما أن افتتانه بالرواية ورغبته المتعذرة في كتابتها قد تمثلا بشكل واضح في أعماله النثرية المتميزة التي تضاهي شعره في توهجها وثرائها ونقائها البلوري، كما في شغفه بالسرد الشعري حيث نعثر في الكثير من قصائده على نتف متناثرة من سيرته الشخصية ووقائع حياته، وهو ما نجده على الأخص في دواوينه «لماذا تركت الحصان وحيداً» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«الجدارية»، وصولاً إلى عمله الأخير «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»:
كان يمكن أن لا يكون أبي
قد تزوج أمي مصادفة
أو أكونْ
مثل أختي التي صرخت
ثم ماتت ولم تنتبه
إلى أنها وُلدت ساعة واحدة
ولم تعرف الوالدة
أو كبيض حمامٍ تكسّر
قبل انبلاج فراخ الحمام من الكلس
ولأن درويش كان شاعراً قلقاً بامتياز فهو لم يكن يأنس إلى أسلوب بعينه أو إيقاع محدد أو بنية بذاتها. فالشعر عنده ليس رديفاً للنمط المتماثل والتسليم اليقيني، بل رديف الشكوك والتجدد والانقلاب على الذات. ولأنه لم يكن وفياً لغير الحرية فقد كان يكتب المطولة جنباً إلى جنب مع الشذرة الخاطفة، وينتقل من قصيدة الكشوف العميقة ذات البعد الصوفي باتجاه البوح الغنائي البسيط، ويلح على التقفية المتماثلة حيناً ويتخلى عنها بالكامل حيناً آخر. وهو في ذروة مغامرته الأسلوبية والإيقاعية لم يتردد في العودة بين حين وآخر نحو النظام الإيقاعي الخليلي.
أما صوره المشهدية المنتزعة من كافة عناصر الطبيعة وتشكلاتها فكانت تتناغم مع الجرس الأشد عذوبة لمفرداته وتعابيره لتجعلا من نصوصه لوحات سمعية - بصرية أخاذة. واللافت في هذا السياق اقتصار شعره على بحور قليلة كالكامل والمتقارب والوافر والرمل، فيما بدا تجنبه لـ«الخبب» تعبيراً عن ضيقه بالخفة الراقصة لهذا البحر، كذلك الأمر بالنسبة لـ«الرجز» الذي لا تتلاءم إيقاعاته «الملجومة» نسبياً مع استمراء الشاعر للتحليق في فضاءات إيقاعية مفتوحة. ومع أن درويش قد أبدى نفوراً واضحاً من محاولات تعليبه وإلحاقه التعسفي باللافتات الكيانية والشعارات السياسية الفجة، فإن إخلاده إلى الأعماق الأخيرة لمكابدات نفسه قد وفر لشعره سبل التعبير عن مكابدات البشر جميعاً على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم وهوياتهم الشخصية.
ولعل ما يجمعه بالمتنبي، إضافة إلى قوة موهبته ورهافة إحساسه وفرادة لغته وصوره، هو قدرته على اختزال المواقف والهواجس الإنسانية المشتركة بعبارات مكثفة تقترب من الحكم والأمثال السائرة ويرددها الناس أينما وجدوا، من مثل قوله «وطني ليس حقيبة / وأنا لست مسافر»، أو «إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر»، أو «ومن لا برّ له \ لا بحر له»، أو «يدعو لأندلس إن حوصرتْ حلبُ». أما قولته الشهيرة «هزمتك يا موت الفنون جميعها» فبدت أقرب إلى الحدس الشخصي بما ستؤول إليه قصائده ونصوصه الفريدة، التي ستظل لسنوات كثيرة قادمة ترفد بماء الاستعارات صحارى العرب القاحلة وزمنهم المقفر.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!