هل كان الرئيس الفرنسي التاريخي الجنرال شارل ديغول على حق عندما وقف سداً منيعاً في وجه انضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي؟
قال الرجل الفارع الطول الذي قاوم النازيين ووضع فرنسا مجدداً على سكة التعافي واستعادة الدور، إن "عددًا من جوانب الاقتصاد البريطاني، من ممارسات العمل إلى الزراعة، يجعل بريطانيا غير متوافقة مع أوروبا"، وإن في بريطانيا "عداءً عميقاً" لأي مشروع أوروبي عابر للحدود.
عندما تخلى ديغول عن السلطة عام 1969 فُتح الباب أمام دخول بريطانيا "الجنّة الأوروبية"، ونجح الطلب الثالث الذي قدمته في هذا الشأن، ووُقّعت معاهدة الانضمام في يناير (كانون الثاني) 1972 في عهد رئيس الوزراء آنذاك إدوارد هيث زعيم حزب المحافظين. ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 1 يناير 1973.
لكنّ ذلك لم يبدّد التشكيك البريطاني في الإنتماء إلى العائلة الأوروبية، ونظرة التخوّف والارتياب التي يملكها كثير من الإنجليز خصوصاً إلى "القارة". وأجري أول استفتاء على استمرار عضوية المملكة المتحدة في السوق الأوروبية المشتركة عام 1975 وانتهى بـ نعم" قالها 67 في المائة من الناخبين.
استمر الصعود والهبوط في العلاقة، وتجسّد التمايز البريطاني داخل البوتقة الأوروبية أكثر ما تجسّد في رفض اعتماد اليورو والتمسك بالجنيه الاسترليني عملةً وطنية ورمزاً للسيادة الوطنية. وفي نهاية المطاف حلّ 23 يونيو (حزيران) 2016، يوم الاستفتاء الكبير، وصوّت 51.9 في المائة من الناخبين البريطانيين المشاركين لمصلحة مغادرة الاتحاد الأوروبي، علماً أن نسبة المقترعين بلغت 72.2 في المائة من الناخبين. وفي 29 مارس (آذار) 2017، لجأت حكومة المملكة المتحدة إلى تفعيل المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي التي تعطي الدول الأعضاء حق الانسحاب، وسيكون "يوم الخروج" النهائي في 29 مارس 2019.
غير أن عملية انسحاب بريطانيا من الاتحاد تبقى حتى اللحظة غامضة، وموضع أخذ ورد، وتداعياتها ترتدي عند كارهي الخروج زياً سلبياً، فيما هي متجلببة بنظر مؤيدي الطلاق بزي وردي. غير أن المؤكد أن ثمة ارتباكاً كبيراً في صفوف حكومة المحافظين تُرجم في قطع رئيسة الوزراء تيريزا ماي عطلتها في جبال الألب السويسرية لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقر إقامته الصيفي، قلعة بريغانسون المنيفة المشيّدة على أرض شبه جزيرة صغيرة في الجنوب الفرنسي.
وتجسّد الارتباك البريطاني قبل ذلك، باستقالة وزير شؤون الخروج من الاتحاد الأوروبي ديفيد ديفيس في 8 يوليو (تموز) الماضي وتعيين دومينيك راب بدلاً منه في اليوم التالي، ثم نقل صلاحيات التفاوض على "بريكست" إلى رئيسة الوزراء وحصر صلاحيات راب في الاستعداد الداخلي للخروج.
بالعودة إلى اللقاء مع ماكرون، يجدر القول إن الرئاسة الفرنسية استبقته بالحرص على تأكيد عدم صدور إعلان عنه "لأن باريس لا تريد أن تحل محل العملية التي يقودها ميشال بارنييه" المسؤول عن ملف "بريكست" في المفوضية الأوروبية، وهو فرنسي بالمناسبة.
وكشف بارنييه في مقال نشرته صحيفة "لوفيغارو" أمس (الخميس) إننا "متفقون حول 80 في المائة من اتفاق الانسحاب، إنما لا يزال علينا الاتفاق على نقاط مهمة"، خصوصاً مسألة الحدود الشائكة بين إيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي.
مهما يكن من أمر، ومهما قدّم ماكرون للسيدة ماي، فإنها تقبع في مأزق وسط ضباب "بريكست". فهي لا تملك أكثرية برلمانية تدعم خطتها للخروج. كما أن بارنييه لم يخف معارضة الاتحاد الأوروبي لمعظم عناصر هذه الخطة، وخصوصاً اقتراحها إبقاء تجارة السلع حرة بين بريطانيا ودول الاتحاد. بمعنى آخر، يسأل أصحاب الحل والربط في بروكسل "لماذا علينا أن نحفظ للبريطانيين مزايا البقاء في الاتحاد الأوروبي فيما هم يغادرونه؟".
المؤكد وسط الضبابية هذه، أن الخروج سيكون زلزالاً تتبعه هزات ارتدادية. ولا شك في أنه سيضر بالاقتصاد البريطاني، ويمكن أن يدفع اسكتلندا إلى مغادرة المملكة المتحدة، وسرعان ما سيرى الذين صوّتوا لمصلحة "بريكست" أن مشكلة الهجرة التي أخافتهم ودفعتهم إلى التقوقع والابتعاد عن "القارة" هي لا شيء على الإطلاق قياساً بالآتي. وهنا يسأل محللون: هل ستستطيع بريطانيا التعويض عن آلاف الوظائف التي ستخسرها جراء "بريكست"؟ وهل ستتمكن من نسج علاقات تجارية قوية عندما تصير خارج الحاضنة الأوروبية؟
سياسياً، يتوقع المراقبون ألا يطول عمر حكومة تيريزا، واي حكومة ستخلفها اثر انتخابات عامة ستكون بدورها ضعيفة، لأن الانقسام الداخلي حيال المسألة الاوروبية شرخ عميق يشق صفوف المواطنين والأحزاب، خصوصاً اللاعبَين الرئيسيين حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال المعارض الذي يتزعمه جيريمي كوربن.
وهناك من يعتبر أن تطورات الاشهر المقبلة ستدفع بريطانيا إلى استفتاء جديد لا يبدو أن أحداً من السياسيين الأساسيين يريده الآن، وهو سيتناول حكماً ثلاث نقاط: الخروج باتفاق، الخروج بلا اتفاق، العودة عن الخروج.
في كل الأحوال، تعيش بريطانيا مخاضاً عسيراً لا يُعرف إلى اي ولادة سياسية واقتصادية سيفضي، بل إن المسألة هي في جوهرها مسألة شعور تطال المجتمع البريطاني برمّته ونظرته إلى نفسه وإلى "القارة" ماضياً وحاضراً ومستقبلاً...
فلنتذكّر موقف الجنرال شارل ديغول وكلامه...
«بريكست»: رؤية ديغول... و«الطلاق المرّ»
«بريكست»: رؤية ديغول... و«الطلاق المرّ»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة