على عكس ما توحي به المقدمة النظرية لكتاب فرنسوا بورغا «فهم الإسلام السياسي» - ترجمة جلال بدلة، دار الساقي، 2018 - فيما صدرت النسخة الفرنسية عام 2016، وعنوانه أيضاً، يحفل الكتاب بكثير من ملاح السيرة الذاتية والفكرية للباحث الفرنسي الذي جال في العالم العربي منذ ستينات القرن الماضي، كطالب ثم باحث ثم مدير لمراكز ثقافية وعلمية فرنسية في المنطقة.
ولا يبخل بورغا على قارئه بتفاصيل عمله، وإقامته في الجزائر وتونس ومصر واليمن، مع لمحات أقل تفصيلاً عن عمله في سوريا ولبنان، حتى ليخال المرء أنه أمام مؤلف في المذكرات عن أوضاع البلدان التي زارها، والمسؤولين العرب الذين التقى بهم. وبعد بضع عشرات الصفحات، تكاد تغيب عن الذاكرة المقدمة الغنية التي يبدو كأن بورغا قد تخلى عن تجهمها، واختار الانصراف إلى سرد لذكريات شبابه ودراسته، وكيف انتقل من التجول في الشرق الأوسط في أثناء إجازاته الصيفية إلى واحد من الباحثين المتفرغين لشؤون الإسلام السياسي، خصوصاً في البلدان العربية، حيث يشير في أكثر من مكان إلى الفوارق بين الإسلام السياسي عند العرب ونظيره عند المسلمين غير العرب.
لكن بورغا سرعان ما يكشف عن خدعته الأدبية، فمن بين سطور الذكريات في الجزائر، على سبيل المثال، تبرز ملاحظات أكثر جدية عن دور الإسلام في البلاد منذ استعمرها الفرنسيون في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وعن آراء المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي في مجتمع بلاده، ومواجهته لأنواع الهيمنة المختلفة التي سعى الفرنسيون إلى فرضها على الجزائر، ما أدى إلى تغييرها تغييراً أعمق بكثير من ذلك الذي تركه الاستعمار على الجارتين القريبتين، تونس والمغرب.
تسفر هذه الطريقة في السرد عن هدف يتجاوز «أدب الرحلات» ليصل إلى شرح، من خلال الأمثلة، للمنهج الذي يعتبره المؤلف الأهم في تفسير ظواهر العالم العربي، ومنها الإسلام السياسي، وهو المنهج المقارن، والتركيز على الاختلافات بين التجارب السياسية للحركات الإسلامية، وظهورها، وردود الفعل على محاولتها نشر رؤاها إلى العالم. فيصر في كثير من الفصول على الأساس السياسي للتوترات التي تطال علاقة العالم العربي بالغرب، وبكون الأساس هذا هو ما يتعين النظر إليه، وليس الاقتصار على محاولة تفسير الحركات الإسلامية من خلال المؤلفات البرنامجية، أو حتى النصوص الدينية الإسلامية، ليميز في هذا المجال بين النص والممارسة السياسية. ويقف بورغا في صف القائلين إن الإسلام السياسي نشأ مع تمدد الاستعمار الغربي إلى المنطقة العربية، وليس مع نشوء حركة «الإخوان المسلمين» في مصر، وهذا ما يمثل عنصراً إضافياً في التميز عن الإسلام السياسي في إيران أو أفغانستان، حيث كان الأثر الاستعماري أضعف مما شهدته المجتمعات العربية.
أفضى الأثر هذا إلى وسم ردود الفعل العربية بقدر من الانفعال الذي يسهل انقلابه عنفاً مؤسساً للراديكالية الإسلامية. لم يكن العنف والانفعال مجانيين، على ما يرغب عدد من الباحثين الغربيين في القول، بل رمياً إلى إنهاء الهيمنة الرمزية الأوروبية، ثم الأميركية، على المسلمين الذين بدورهم سعوا إلى صوغ لغة جديدة يرون أنها تتلاءم مع تاريخهم وثقافتهم. هو صراع على المصطلح، على ما يقول المؤلف، لكن المصطلح الإسلامي ذاته وجد من يستخدمه استخدامات متباينة. فخطاب «خليفة» تنظيم داعش، أبي بكر البغدادي، وخطاب زعيم حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي، قد يتألفان من المصطلحات ذاتها، بيد أن لكل من الخطابين سياقه السياسي الذي يجعله شديد الاختلاف عن الآخر. يترك تباين السياقين، المرتبط بتباين الموقع السياسي لكل من «داعش» و«النهضة»، ارتباكاً عند الدارسين الغربيين للإسلام السياسي. فعند هؤلاء، لا بد للخطاب والمصطلح الواحد أن يعنيا الشيء ذاته في كل مكان. بذلك، جرى تعميم النظرة إلى الحركات الإسلامية كمنتج واحد لخطاب واحد من دون إبداء الاهتمام الكافي بالخلفيات السياسية لكل واحدة من هذه الحركات.
عليه، لا يكون العنف ناتجاً عن الإسلام، بل عن التاريخ الحديث للمسلمين، الذي يحدد أكثر من الآيات القرآنية والكتب الدينية طبيعة الصراعات التي تخوضها الحركات الإسلامية. ويقدم بورغا ما جرى بعد فوز حركة حماس الفلسطينية في الانتخابات التشريعية سنة 2006، إذ فازت «حماس» فوزاً واضحاً، ما أغضب إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة وحركة فتح، على الرغم من أن هذه الأخيرة كانت قد تعرضت لمحنة مشابهة، عندما أرغم رئيسها ياسر عرفات على الإتيان بفريق اختاره الآخرون إلى القيادة، بعد اتهامات بفساد عرفات وعدم كفاءته. ويعيد بورغا إلى الذاكرة أيضاً انتخابات الجزائر في 1991، وكيف وقف الغرب إلى جانب المجلس العسكري ضد «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» الفائزة. وفي ذلك، يظهر الرياء الأوروبي والغربي في أجلى صوره، حيث إنه يصر على العلمانية والديمقراطية، لكن إذا جاءت نتيجة الاقتراع على غير ما يتلاءم مع تصوراته المسبقة عن شكل الحكم الذي يجب أن يحكم هذه البلاد، لا يشعر بأدنى خجل من دعم الديكتاتوريات العسكرية، أو العناصر الأشد فساداً.
أما في سوريا، فقد امتنع العالم عن الرد على قصف النظام لمواطنيه بالأسلحة الكيماوية في 2013، ما شجعه على التصعيد والتمادي في العنف، وعزز مقولات جماعات مثل «داعش» و«النصرة» عن عدم المساومة، لكن هذه تخلت عن فكرة إسقاط النظام بطرحها مشروع يوتوبيا عالمياً، يتجاوز سوريا والحكم فيها.
وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى تشريح علاقة المسلمين الفرنسيين بدولتهم، وبنظامها العلماني الذي يحصر فكرة الاندماج بتخلي المسلم عن إسلامه، كحاجز أمام اقتحام ثقافة الآخر للفضاء العام «الوطني»، وكرفض لتكدير عيش الأوروبيين من خلال تذكيرهم تذكيراً ملحاً بنهاية الحلم الإمبريالي، وبنهاية احتكار إنتاج الغرب للقيم الكونية. ويطرح الكتاب الغربيون، في هذا السياق، دعوات إلى الإصلاح الديني على نحو يجعل الإسلام يخضع للنمطية، ويقربه من صورة الغربيين، يضاف إلى ذلك أن الإشكالات التي تنشأ في الغرب، المتعلقة بالإصلاح الديني، تسهم على نحو مؤذٍ في إعطاء مظهر ثقافي لمشكلات هي في أساسها سياسية. وينتقد بورغا الانحياز الغربي إلى مسيحيي الشرق، وزرع أوهام التميز عندهم، ملاحظاً أن عدداً لا بأس به منهم كان يمكن أن يتموضع إلى جانب أكثر التيارات اليمينية المتطرفة في فرنسا، في حال انتقاله للإقامة هناك. ويخلص إلى القول إن الدفاع عن مسيحيي الشرق يتغذى في الأصل من العداء إزاء الحضور المسلم في الغرب.
وقد يكون تناول الكتاب لموقف الغرب من القضايا النسوية في العالم العربي من بين الفصول الأدق في وصف الانفصام الغربي عند تعامله مع شؤون المسلمين والعرب. وإذ يقدم بورغا تفصيلاً لسبب الاهتمام بـ«تحرير نساء الآخر»، كنوع من استمرار السياسة الانتقائية، وكغطاء لاستخدام القضية النسوية من قبل الأنظمة الاستبدادية في صراعها السياسي مع مجتمعاتها، يرى أن تأييد أي قضية يصدر أولاً من أجل توكيد الذات، فيما يصعب تأييد أي قضية لا تساهم في هذا التوكيد. فنحن نؤيد ما يشبهنا، وما نرى أنه يعزز شعورنا بالإخلاص لقيمنا. فالمرأة المسلمة تحتاج إلى تأييدنا لأننا نؤيد الضعفاء والمهمشين في وجه الأقوياء والظالمين.
هذه الممارسة التي استطالت لتشمل رفض كل مظهر لا تستطيع جماعات السياسيين ومثقفي المسار العريض في الغرب تنميطه وإدراجه في ثنائيات تبسيطية، عثرت على كثير من المؤيدين المحليين من اليساريين والأقليات، بحيث بات أسهل عليهم اللجوء إلى أحضان الثورة المضادة من القبول بحكم الأكثريات في بلدانهم.
وفي الفصول الأخيرة، يستعرض الكاتب السجال بين الباحثين الفرنسيين الشهيرين في الشؤون الإسلامية جيل كيبيل وأوليفيه روا، الذي تكثف بعد هجمات «داعش» في فرنسا في يناير (كانون الثاني)، ثم في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، حيث يرفض وجهتي نظر الرجلين. فتغليب كيبيل للعامل الثقافي، وتحميل الإسلام ككل مسؤولية الإرهاب، يخفي الجانب السياسي من الموضوع، فالغرب لم يتوقف يوماً عن أن يكون جزءاً من النزاعات المحلية، مؤيداً الطرف المفيد لمصالحه، وإن عليه أن يعي هذه المسألة قبل لوم الثقافة الإسلامية، في حين أن تناول روا للقضية من منظور اجتماعي ونفسي، وإن كان أقرب إلى الواقع من التناول الثقافي لكيبيل، يطرح أسئلة عدة عن الخلفيات الاجتماعية والنفسية لكثير من الصراعات في العالم، وعن السبب الذي يضع الإرهابيين على طاولة التشريح الاجتماعي والنفسي، ويعفي خصومهم من الخضوع للعملية ذاتها.
ولعل الخاتمة الأنسب تكون مع تذكير بورغا بأن الإسلام السياسي في نهاية المطاف هو سيرورة تملك ثقافي للحداثة، وأن الإسلام هو ما تريد غالبية المسلمين اليوم له أن يكون.
* كاتب لبناني