جاء في التقرير الأخير الذي صدر عن «المرصد العالمي للغات» في خريف العام الماضي، أن اللغة الأم الأكثر شيوعاً في العالم هي الصينية التي ينطق بها 1280 مليون شخص، تليها الإسبانية ويتحدث بها 400 مليون، ثم الإنجليزية التي يتكلّم بها 372 مليوناً يضاف إليهم 500 مليون يتكلمون بها كلغة مكتسبة. وتأتي لغة الضاد في المرتبة الخامسة ينطق بها 250 مليوناً.
لكن اللغة الإسبانية التي شهدت انتشاراً واسعاً في العقود الأخيرة نتيجة التمدد الديموغرافي للجاليات الأميركية اللاتينية في الولايات المتحدة؛ إذ أصبحت تنافس الإنجليزية في مدن مثل ميامي ولوس أنجليس، وبنسبة أقل في نيويورك، تواجه اليوم مشكلة مستجدة يحتدم الجدل لمعالجتها في مجمع اللغة الملكي بالعاصمة الإسبانية، وتتضارب الآراء بين الأكاديميين حول مقتضيات إخضاع لغة سرفانتيس لمجرى الرياح السياسية والاجتماعية الجديدة التي تهبّ على البلاد.
كان بيّناً منذ الإعلان عن تشكيلة الحكومة الاشتراكية الجديدة، أن التأنيث هو أحد عناوينها الرئيسية، حيث تتولّى فيها النساء إحدى عشرة حقيبة من أصل سبع عشرة، مما يشكّل ظاهرة فريدة في التاريخ السياسي الأوروبي والعالمي. وتبدّى بوضوح مع صدور القرارات الأولى عن اجتماعات الحكومة، أن ملفّات حقوق المرأة، مثل المساواة في الأجر والعنف الأسري وتولّي مناصب إدارية عليا، تحظى بأهمية لا تقلّ عن الملفات السياسية والاقتصادية الكبرى. آخر هذه القرارات كان تكليف المجمع اللغوي مراجعة النصوص الدستورية والإفتاء حول وجوب تعديلها بما يتماشى مع مبدأ المساواة التامة بين الرجال والنساء.
الجدل حول تأنيث الخطاب السياسي والاجتماعي ليس جديداً في المجتمعات الغربية، وبخاصة بعد أن بدأت المرأة تحصل على حقوق متساوية بالرجل في معظم المجالات. وقد شهدت العقود الأخيرة احتداماً شديداً في بعض الأوساط الفكرية والاجتماعية حول مقاربة هذا الموضوع وتحديد أطر معالجته، وثمّة من يُرجِع هذا الجدل في بريطانيا إلى عهد شكسبير، الذي كان يقول إن «المرأة كوكب يستنير به الرجال». لكن النقاش الذي يدور منذ أيام في المجمع الملكي الإسباني قد أخذ منحى جدلياً وصدامياً بامتياز منذ بدايته، عندما أعلن عضو الأكاديمية الروائي والصحافي آرتورو بيزيز ريفرتي، أنه سيستقيل من الأكاديمية إذا قرر المجمع تنقيح النص الدستوري وإلغاء علامات التذكير من متنه لاستبدالها بعلامات جامعة للذكر والأنثى.
الأعضاء المؤيدون لفكرة تنقيح النص الدستوري، مثل الأكاديمية الكاتبة إينيس فرنانديز، يعتبرون أن هذا النقاش دائر منذ فترة في الأوساط الاجتماعية والفكرية، وعلى المجمع اللغوي أن يصغي لنبض الشارع والمجتمع، وتقول: «لو كان إنهاض اللغة مقصوراً على الفقهاء والمتبحّرين، لكنّا ما زلنا نتكلّم باللاتينية إلى اليوم».
ويرى آخرون، أن الدفع باتجاه التنقيح لا يعكس مطلباً اجتماعياً واسعاً، بقدر ما هو نتيجة الضغوط السياسية التي ليس مفترضاً أن يخضع لها المجمع اللغوي. ويقول المخرج مانويل آراغون: «كان المجمع دائماً ضد استخدام اللغة الجامعة؛ لأن المساواة في الحقوق بين الجنسين وإبراز دور المرأة في المجتمع والمعترك السياسي لا ينبغي أن يترتّب عنه غصب اللغة على ما لا تجيزه».
وثمّة من يقف في منزلة بين المنزلتين ويدعو إلى حلول وسط والنظر في كل حالة بمفردها على أساس المفاضلة النحوية والمقتضيات العملية في اللغة. وفي حين ترى الاختصاصية في الألسنية باث باتّانير، أن مبادرة الحكومة ليست تجاوباً مع مطلب اجتماعي ملحّ، وأن هناك أموراً أخرى أكثر أهمية وإلحاحاً ينبغي الانصراف لها، تصرّ الحركات النسائية على شموليّة المراجعة لاعتبارها أن اللغة كائن حي لا يمكن أن تنفصل عن الناس والمجتمع. ويردّ المعترضون بأن «من الرجعيّة عدم الاحتكام إلى منطق الفكر وتسخير اللغة لمآرب سياسية».
لكن يبدو أن المنحى الذي اتخذه النقاش حول هذا الموضوع بين الأوساط السياسية والأدبية في الأيام الأخيرة، ينذِر باحتدام الجدل وخروجه عن الإطار اللغوي الصرف. فبعد التصريحات التي أدلى بها مدير المجمع اللغوي الإسباني داريو فيـّانويفا، الذي يرأس رابطة المجامع اللغوية في العالم والتي تضم 23 مجمعاً، مؤكداً أنه لا يوجد «أي احتمال لتعديل أي شيء في النص الدستوري... لأن المناخ السياسي الراهن لا يسمح بذلك»، ردّت نائب رئيس الحكومة كارمن كالفو بقولها «لغة النص الدستوري مقصورة على المذكّر وهذا لا يتناسب مع نظام ديمقراطي راسخ... أزف الوقت لكي يتعامل هذا النص بالتساوي بين الجنسين». وأضافت «الحكومة ماضية في مشروعها، بغض النظر عن فتوى المجمع اللغوي». وكان مدير المجمع قد أشار إلى أن فرنسا شهدت جدلاً مماثلاً منذ فترة، لكن فتوى الأكاديمية الفرنسية جاءت قاطعة برفض التعديل، فتجاوبت الحكومة معها.
سقى الله أيام أبي الطيّب المتنبي الذي قال في لاميّته الشهيرة يرثي بها والدة سيف الدولة:
ولو كان النساء كَمَنْ فقَدْنا
لفُضِّلت النساءُ على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ
ولا التذكيرُ فخرٌ للهلال
التأنيث والتذكير... مشكلة يواجهها المجمع العلمي الإسباني
مطلب اجتماعي... أم انعكاس للضغوط السياسية؟
التأنيث والتذكير... مشكلة يواجهها المجمع العلمي الإسباني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة