بعد مضي عشر سنوات من دورته الأولى يعود المؤتمر الدولي للموسيقى في عالم الإسلام إلى الالتئام في دورته الثانية على هامش موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ40 بمدينة أصيلة (شمال المغرب)، حيث ناقش على مدى يومين إشكاليات «صون الثقافات الموسيقية وانتقالها في عالم الإسلام» بمشاركة نحو 40 مختصا من نحو 20 دولة من بينها المغرب والإمارات العربية والصين وفرنسا وبريطانيا وأوزبكستان وتركيا ولبنان واليمن والعراق وتونس والسنغال وألمانيا ومصر وإسبانيا وإيطاليا والجزائر.
وقال محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، إن اختيار الحديث عن «عالم الإسلام» وليس «العالم الإسلامي» لم يكن اعتباطيا، مشيرا إلى أن إشعاع الحضارة الإسلامية وانتشارها يتجاوز حدود العالم الإسلامي، وأن ملايين المسلمين يعيشون في أوروبا وأميركا ومناطق توجد خارج هذه الحدود.
وحول إشكالية الدورة الثانية للمؤتمر، أوضح بن عيسى أنه يندرج في إطار استمرارية مؤتمر القاهرة في سنة 1932. وقال إنها تتمحور حول أرشفة وتوثيق التراث الموسيقي العربي والإسلامي والتحديات التي يواجهها في زمن اكتساح العولمة، من جهة، وانتشار بؤر التوتر وتلاحقها وما تمثله من تهديد لهذا التراث، من جهة أخرى.
وقال بن عيسى «ما نصبو إليه ليس فقط أن نترك إرثا للأجيال المقبلة، وإنما مادة خصبة للبحث الأكاديمي، من خلال توثيق يستجيب لأرقى المعايير العلمية وأكثرها دقة». وأضاف: «لقد تلقينا هذا الموروث من الأجيال السابقة والذين علمونا كيفية الأداء وكيفية الغناء. لكن هذا غير كاف نحتاج إلى توثيق دقيق يوفر مادة للبحث بشكل أفضل في التراث».
وتحدث بن عيسى عن تجربته في مجال حفظ التراث الموسيقي المغربي خلال توليه حقيبة وزارة الثقافة المغربية. وتحدث بالخصوص عن تجربة التراث الأندلسي، مشيرا إلى أن هاجسه حينئذ هو أن أغلب الشيوخ الحاملين لهذا التراث كانوا في مرحلة متقدمة من العمر. وقال «اشتغلنا بوسائل محدودة جدا لمدة ناهزت ست سنوات، تمكنا خلالها من تسجيل الكثير من الشيوخ والحفاظ على أهم نوبات الموسيقى الأندلسية المغربية».
وأشار بن عيسى على الخصوص إلى عمله مع الشيخ عبد الكريم الرايس، الذي كان يعاني من أمراض الشيخوخة، بحيث كان تسجيل نوبة واحدة معه يستغرق عدة أيام.
من جانبه، استعرض شريف خازندار، رئيس المؤتمر ورئيس دار ثقافات العالم في باريس سابقا، مسار 35 سنة من التعاون الوثيق بين مؤسسة دار ثقافات العالم ومنتدى موسم أصيلة الثقافي، بما في ذلك إطلاق المؤتمر الدولي للموسيقى الذي بدأ الإعداد له في 2005، ونظمت دورته الأولى في 2007 والثانية في 2018 بأصيلة.
وقال خازندار إن المؤتمر الأول طرحت فيه إشكالية حماية مراكز التوثيق في عالم الإسلام عندما تكون مهددة كما كان الحال في العراق، غير أن هذه التهديدات ارتفعت اليوم بسبب تناسل مناطق النزاعات واتساعها. وتحدث عن مساعي محمد بن عيسى من أجل تنفيذ توصيات وخلاصات مؤتمر 2007. والاتصالات التي قام بها لدى عدة جهات لدعم مشروع أرشفة وتوثيق التراث المسموع العربي الإسلامي والتي تكللت بالنجاح من خلال إطلاق مبادرات أعطت أكلها، وذكر على رأسها التعاون مع هيئة أبوظبي للثقافة وما تمخض عنه من إنشاء مركز للتوثيق ونشر إصدارات.
واستعرض المشاركون الكثير من التجارب التاريخية، انطلاقا من مؤتمر القاهرة سنة 1932 والذي عرف التجارب الأولى لتسجيل وتوثيق التراث المسموع العربي، ثم مؤتمر 1939 بمدينة فاس بالمغرب، والذي لم تصل منه إلا بعض التقارير والمقالات الصحافية.
وأشار المتدخلون إلى أن المبادرات توقفت بعد ذلك مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وانشغال شعوب المنطقة بالكفاح الوطني من أجل الاستقلال، قبل أن تنظم الدورة الثانية لمؤتمر الموسيقى العربية في مدينة فاس المغربية سنة 1969. في استمرار الدورة التي نظمت في القاهرة سنة 1932.
وتناول المشاركون في الندوة التحديات الجديدة التي يواجهها الموروث الموسيقي العربي والإسلامي في سياق العولمة وعصر التقنيات الرقمية. وأشاروا إلى ظهور الكثير من التجارب الجديدة لإقامة مراكز بحث جد متطورة منذ سنة 2000. وأوصى المشاركون في المؤتمر بضرورة ربط هذه المراكز في إطار شبكة تتضافر فيها الجهود وتتشارك الوسائل والإمكانيات.
كما تحدثت شهرزاد حسن، الخبيرة العراقية في الموسيقى الإثنولوجية، عن التجربة الرائدة في العراق التي انطلقت خلال السبعينات وتمكنت من وضع أرشيف وثائقي كبير حول تراث مختلف الطوائف والإثنيات العراقية، والذي تحول إلى رماد بفعل القصف الأميركي لبغداد. وأوصت ببحث سبل حماية مراكز التوثيق العربية والتراث العربي عموما.
من جانبه، تحدث مصطفى سعيد، مدير مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية، عن تجربة المركز في استعمال وسائل البحث الحديثة من أجل إعادة بناء نصوص موسيقية قديمة جدا، من خلال وثائق مكتوبة تعود إلى القرن التاسع عشر وتسجيلات تعود إلى مؤتمر القاهرة، باستعمال أجهزة غرامفون برؤوس أصلية لقراءتها، إضافة إلى استعمال التقنيات الرقمية لترميم المقطوعات الموسيقية.
وقال سعيد لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لي يجب أن يكون الهدف من استعادة التراث هو الانطلاق منه من أجل إنتاج الجديد والتقدم». وأضاف: «التراث لا بد أن يكون وسيلة للمعاصرة. ولا بد أن نقطع من تلك الفكرة التي هيمنت عند مبدعينا منذ مائة سنة، والتي تعتبر أن الاستيراد والتقليد هو السبيل الوحيد للتطور والتقدم». وأضاف: «صحيح أن الاستيراد هو وسيلة للتقدم، لكنها ليست الوسيلة الوحيدة. ففي كل العالم تتطور الفنون، بما فيها النغم والأدب، من الداخل. فهناك الفنون الفصحى في الغناء والأدب، التي تتطور من الداخل، وتنطلق من الأرشيف التراثي لتبدع فنا جديدا. وهناك الفنون العامية والشعبية التي تتطور عبر التلاقح والاختلاط بين الثقافات والشعوب. نحن للأسف اكتفينا بالنوع الثاني لمدة مائة عام». وحول أبحاث المركز، قال سعيد «إنها محاولة للفت أنظار الموسيقيين إلى الرصيد المسجل في مطلع القرن العشرين من أجل الارتكاز عليه لإنتاج موسيقى جديدة مطورة نابعة من إرثهم وتراثهم، من الداخل، أي من أجل إنتاج موسيقى فصيحة».
تحديات توثيق الإرث الإسلامي في ندوة بأصيلة
ناقشها المؤتمر الدولي الثاني للموسيقى في عالم الإسلام
تحديات توثيق الإرث الإسلامي في ندوة بأصيلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة