تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

حفتر يطهر شرق البلاد من «المتطرفين» بإمكانات متواضعة

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)

تمكن الجيش الوطني الليبي، الذي يعاني حظرا دوليا على تسليحه منذ 2011. من دحر جماعات متشددة في مدينة درنة الساحلية، آخر معاقل الخروج عن الدولة في شرق البلاد. ووضع الجيش، بقيادة المشير خليفة حفتر، خططا لنشر الأمن ومكافحة الإرهاب، لكن هذا يحتاج إلى جهود كبيرة من المجتمع المحلي ذي الطابع القبلي، ومن المعنيين بإنهاء الفوضى والانقسام في هذا البلد الغني بالنفط.
ويقول الشيخ علي أبو صوة، مستشار الهيئة العامة للأوقاف في النظام السابق، إن خطر خلايا المتطرفين النائمة خاصة في درنة وبنغازي، ما زال كبيرا... و«خطر هذه الجماعات يكمن في الفكر؛ الفكر المتهور... وهو أنه حين يستهدف أبرياء، أو الجيش، أو المؤسسات، أو المناطق الحيوية، يعد نفسه يقوم بعمل صحيح، نكاية في الطاغوت، أو الدولة، وفقا لتوصيفاتهم».
تبلغ مساحة ليبيا نحو مليوني كيلومتر مربع، وهي أراض صحراوية جرداء في العموم تقع على شريط ساحلي مواجه لأوروبا. ويربط بين المدن، البعيدة عن بعضها بعضا، طرق طويلة يصعب تأمينها. وفي محطة «المخيلي» الواقعة في منتصف الطريق الصحراوي الجنوبي الرابط بين طبرق وبنغازي، تقوم مجموعات من المتطرفين الفارين من درنة، بالمرور بشكل خاطف من هذه المحطة التي كانت في الماضي نقطة صراع بين جيوش الحرب العالمية الثانية.
في مرات كثيرة كان ينبغي المرور من «المخيلي»، مع مرافقين مغامرين، لأن الخطر مستبعد فيها أكثر من الطريق الساحلي. وإذا ظهر الخطر فإنه يظهر فجأة، ويجعلك تستسلم سريعا لمصيرك، كما حدث لعشرات من سائقي الشاحنات المصرية في السابق. ورغم تواضع إمكانياته، بسبب الحظر الدولي، وضع الجيش نقاط تفتيش عدة من أجل منع أي خارجين عن القانون من الوصول إلى مفترق الطرق الرئيسية الذي تعد «المخيلي» نقطة ارتكاز لها، ما بين مدن الشمال والجنوب ومدن الشرق والغرب.
ويتميز أبناء التجمعات السكنية المبعثرة في الصحراء حول «المخيلي»، مثل غالبية مناطق ليبيا، بالكرم، والبساطة، وقرض الشعر، منذ القدم. وفي السابق كان يمكن أن تجد سيارة مفتوحة وداخلها المفتاح، دون أن يخشى صاحبها من سرقتها. كما اعتادت المطاعم التي تقدم الطعام للمسافرين كتابة شعار «معك نقود تأكل... ليس معك نقود تأكل أيضا».
لكن مرور المتطرفين على المنطقة، وارتكاب جرائم ضد الأبرياء، بعد مقتل القذافي، جعل السكان أكثر حرصا ومراقبة للغرباء. وحين أرسل حفتر الجيش إلى هنا، كان موضع ترحيب كبير. وتطوع شبان في الخدمة. وأثنى الشعراء على الجنرال في قصائدهم.
وفي البوابة الأمنية التي تقع على بعد خطوات من مطعم الفرسان الرئيسي في «المخيلي»، يقول أحد العرفاء التابعين للجيش: المشكلة التي تواجهنا هي الافتقار إلى أجهزة حديثة للكشف عن الأسلحة والمتفجرات التي قد تكون في السيارات العابرة من هنا، بالإضافة إلى عدم القدرة على توفير عناصر تفتيش نسائية، لأن العادات والتقاليد في ليبيا تمنع الرجال، حتى لو كانوا من الأمن، من الكشف عن وجوه النسوة المنتقبات.
وقام الجيش بتعزيز واحدة من أهم النقاط الأمنية في الوقت الراهن، وهي نقطة «وادي السهل» المعبر الرئيسي للقادمين من مدينة درنة التي تشهد اشتباكات بين الجيش والمتطرفين، إلى مدينة طبرق التي يوجد فيها برلمان الدولة.
وفي منطقة «وادي السهل» نفسها، وقعت في سنة (1913) مواجهات دامية بين الاحتلال الإيطالي والقبائل. وفي الوقت الراهن وقف معظم أبناء القبائل مع الجيش ضد متطرفين استوطنوا درنة التي تقع بين جبلين على ساحل البحر. ومع تشديده للحصار على مسلحي المدينة، زاد الجيش كذلك من عدد الجنود المسلحين بالكلاشنيكوف هنا. وجرى مضاعفة عدد السيارات العسكرية في النقطة. وتم نصب مدافع من عيار 23 ملم على صناديق خمس سيارات. بينما تقف ثلاث سيارات أخرى بجوار المبنى الإداري للنقطة، وكل منها مخصص لها جندي محترف في مطاردة من يحاولون الفرار من كمين الجيش.
وعلى كثير من النقاط الأمنية، تبدو حالة الفقر والعوز في أوساط جنود شبان التحقوا خلال السنوات الأخيرة بالعمليات العسكرية لاستعادة الأمن في عموم البلاد. ويقول أحد هؤلاء الجنود من قبيلة القطعان، ويبلغ من العمر 22 عاما، إنه فر من درنة إلى طبرق، مع أسرته في 2016. بسبب سطوة المتطرفين. وفي طبرق التحق بالجيش وتلقى تدريبات على عجل في معسكر يقع قرب المطار الجوي للمدينة، مع مئات الشبان الآخرين، لمدة شهر، ثم جرى تعيينه على نقطة «وادي السهل»، تحت إمرة رئيس عرفاء، له خبرة أمنية منذ عهد معمر القذافي. ويقول الجندي في فخر إن جده كان ممن استشهدوا في معركة «وادي السهل» أثناء التصدي للاحتلال الإيطالي.
ويروي الجنود في مرارة أن العالم تركهم ليحاربوا الإرهاب وحدهم، لأنه ما زال يمنع تسليح الجيش. ولا يوجد في هذه النقطة أيضا أي معدات حديثة لكشف المعادن. كما يصعب توفير عناصر أمن نسائية. ويتذكر الجندي، القطعاني، أنه في إحدى المرات جاءت سيارة ذات قمرتين وصندوق. ويُعرف هذا النوع من السيارات لدى العامة باسم «ميتشي موزة». وتتسع لحمل شخصين في القمرة الأمامية، وثلاثة في القمرة الخلفية.
ويضيف: كان الظاهر من خلال الزجاج الأمامي للسيارة، وجود سائق وبجواره سيدة تخفي وجهها بطرحة سوداء، لا غير. وفي هذه الأحوال فإن المتعارف عليه هو أن يقوم الجندي بإزاحة البرميل الذي يغلق الطريق، والسماح للسيارة بالمرور، دون تفتيش، باعتبار أن من فيها عائلة (رجل وزوجته).
لكن الأمور تغيرت الآن، بالنظر إلى الحرب ضد «المتطرفين». فمثل هذه الاستثناءات كانت من الماضي... «ظل البرميل يسد الطريق، وهو أمر لم يتوقعه السائق... وحين اقترب أحد الجنود لفحص السيارة، وهويته، وهوية المرأة التي معه، اندفع السائق بالسيارة مرة واحدة، وضرب البرميل بمقدمتها وفر هاربا». وفي لمح البصر استقل جنديان آخران سيارتيهما، وطارداه على الطريق المرصوف لأكثر من عشرين كيلومترا. ثم انحرفت السيارة إلى درب ترابي، وتم توقيفها في نهاية المطاف.
وكانت المفاجأة. يوجد خمسة شبان صغار السن جرى إخفاؤهم في موضع الأقدام، في القمرة الخلفية، وكان فوقهم حقائب سفر فارغة، للتمويه. وبالتحقيق في القضية اتضح أنهم من المتطرفين الفارين من درنة، وكانوا في طريقهم إلى الشرق، حيث يعتقد أنه توجد خلايا نائمة في طبرق، التي تعرف باسم «مدينة السلام»، وتبعد عن درنة بنحو 150 كيلومترا. كما يوجد مركز تجميع للمتطرفين الهاربين يقع في صحراء واحة الجغبوب على الحدود، قبالة واحة سيوه المصرية.
ويقول ضابط في الجيش، إن «القوات المسلحة العربية الليبية»، أصبح لديها خطة صارمة للتحقق من كل عابر على الطرق المرصوفة والترابية، في كل المناطق التي فرضت سلطتها عليها، سواء كان هذا العابر رجلا أو امرأة، حتى لو كانت الإمكانيات ضعيفة، مثلما هو الحال في «المخيلي» وفي «وادي السهل»، وغيرهما.
ويضيف: أن الجيش بدأ في الفترة الأخيرة يشرك المرأة في العمل الأمني، بعد الالتحاق بمعسكرات تدريب متخصصة، وذلك لتسهيل مهمة التفتيش في مجتمع له تقاليد محافظة. وأنه بدأ بنشر عناصر أمنية نسائية في بنغازي وسيفعل ذلك في درنة، وغيرها، ويشير مع ذلك، إلى أن خطر الخلايا النائمة في هذه المدن المحررة ما زال قائما، قائلا: إن الأجهزة الاستخباراتية التابعة للجيش تراقب عن كثب تحركات المجاميع المسلحة التي تمكنت من الفرار من بنغازي ودرنة إلى الصحراء في وسط البلاد وجنوبها.
ويعمل معظم جنود الجيش في ظل ظروف صعبة. ويضطر بعض الملتحقين بالخدمة لشراء الملابس العسكرية على نفقتهم الخاصة. وفي كثير من الأحيان تتأخر الرواتب لشهور عدة. وتتطوع بعض العائلات بإعداد الطعام لنقطة أمنية مجاورة. ومن خلال الحديث مع جنود في بنغازي ودرنة وطبرق، يبدو أن الدافع الرئيسي وراء هذا النوع من العمل المضني، هو الرغبة الجارفة في تخليص البلاد من «المتطرفين» ومن الفوضى. فقد أدى انتشار «المتطرفين» المحليين والأجانب في عموم ليبيا، إلى ابتعاد معظم المواطنين عن الطرق السريعة، حتى لا يقعوا في كمين يديره الدواعش أو غيرهم ممن يحملون مسميات مختلفة ويقومون بنفس تصرفات الابتزاز وسرقة السيارات الخاصة والقتل والاحتجاز والتعذيب في سجون سرية.
ولوقت طويل كان لا يمكن لعائلة من مدينة طبرق، مثلا، أن تزور أقرباءها في مدن بنغازي أو درنة أو البيضاء أو القبة، إلا بعد إجراء عشرات الاتصالات الهاتفية مع معارفهم للتأكد من أن هذا الطريق آمن أو لا. وظل الطريق الساحلي الرابط بين طبرق وبنغازي، والذي يبلغ طوله نحو 475 كيلومترا، ويمر بمدن عدة، بمثابة طريق للموت. وسقط فيه عشرات المواطنين ضحية لعناصر التنظيمات المتطرفة. ويقول جندي قبيلة القطعان في بوابة «وادي السهل «أنا أقف هنا لأدافع عن أهلي... عن أبناء عمومتي. ومن يدافع عن أهله لا ينتظر راتبا عن هذا العمل».
ويبدو أن سلطة البرلمان التي يتبعها الجيش، وهي سلطة منتخبة، تشجع على التعاون الأمني والاستخباراتي بين الجيش ودول أخرى، سواء عربية أو أوروبية. لكن البرلمان لم يتمكن أبدا من إقناع المجتمع الدولي برفع حظر التسليح. ومع ذلك هناك اعتقاد أن الضربات الدقيقة التي وجهتها الطائرات الحربية الليبية لمعسكرات ومراكز المتطرفين في درنة، استفادت إلى حد كبير من معلومات جرى جمعها من مصادر مختلفة من أصدقاء ليبيا «لأنها ضربات اعتمدت على تقنيات حديثة في الرصد والتتبع»، كما يقول أحد القيادات السابقة في الجيش.
وطوال الشهور الثمانية الأخيرة، وحتى توغل الجيش في درنة، الأسبوع الماضي، كانت تحركات «المتطرفين» وقياداتهم تحت رقابة صارمة من القوات المسلحة. وأمكن توجيه غارات محكمة في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، وفبراير (شباط)، أدت إلى إضعاف العناصر المتشددة وإصابة زعماء مهمين من العرب، من بينهم المصري الملقب بـ«المهاجر»، والذي يعتقد أنه محاصر في الوقت الراهن في منطقة في الوادي الجنوبي لدرنة، أي ما بين «الشلال» و«شيحا».
كما يعتقد أن قياديا مصريا آخر يدعى «سرور» قتل، مع عشرات آخرين من المتشددين المصريين والتونسيين والجزائريين، في الاشتباكات الأخيرة، بالإضافة إلى القبض على شخصيات تعد «صناديق سوداء لحركة المتطرفين في المدينة»، كما يقول أحد المصادر الأمنية الليبية. ويضيف أن معلومات المقبوض عليهم «تقلل إلى حد كبير من خطر الخلايا النائمة... من خلالهم نعرف أين توجد هذه الخلايا، وماذا تريد أن تفعل، وما نوع الإمكانيات التي يتحصلون عليها. وهذا ما فعلناه في بنغازي، بعد تحريرها، حيث كان عدد السيارات المفخخة التي تنتقم من الجيش ومن مؤسسات الدولة، أقل من المتوقع».
وشهدت درنة تفجير سيارتين مفخختين وهجمات بأحزمة ناسفة، قرب ضاحية شيحا الشرقية، الأسبوع الماضي. كما وقعت تفجيرات مماثلة في السابق في بنغازي وفي نقاط أمنية قرب سرت والجفرة في الشمال الأوسط والجنوب الأوسط من البلاد. وفي مقابلة سابقة في مكتبه، يقول العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، وباسم المشير حفتر، إن القوات المسلحة تدرك أن تحرير المدن من «الإرهابيين» لا يكفي للقضاء على الإرهاب، وأن الأمر يتطلب تجفيف منابع هذا الفكر.
ومن ضمن الاستراتيجية الجديدة للجيش، إنشاء غرفة أمنية موحدة، للتنسيق بين مختلف الأجهزة سواء تلك التابعة للجيش، أو الشرطة، أو المخابرات، من أجل تبادل المعلومات ووضع الخطط لتأمين المواطنين والمؤسسات الحيوية والمرافق العامة. ويقول مسؤول عسكري، إن ليبيا في حاجة ماسة إلى «غرفة أمنية موحدة» بشكل أوسع، لكي تشمل كل البلاد، بحيث لا يقتصر الأمر على مدن المنطقة الشرقية وبعض المدن في الجنوب.
ويضيف أن خطر الإرهاب لا يمكن أن يتوقف طالما ظلت مؤسسة الجيش والشرطة منقسمة بين شرق ليبيا وغربها... «هناك انقسام أيضا في المخابرات العامة، وفي المخابرات العسكرية... وبالتالي يصعب، في الوقت الراهن، وضع تصور شامل لخريطة أمنية تحد من نشاط «الإرهابيين»... أنظر إلى مدن الغرب مثل طرابلس، وصبراتة، وزوارة، والزاوية، ومصراتة. نعلم أنه توجد مراكز للمتطرفين هناك، لكن لا نعرف في الحقيقة كل ما يدور فيها على وجه التحديد».
وشهدت طرابلس نفسها عمليات إرهابية عدة، كان أكبرها في الفترة الأخيرة تفجير مفوضية الانتخابات بسيارة مفخخة وأحزمة ناسفة في العاصمة. ويقول الشيخ أبو صوة، الذي تعرض للسجن في طرابلس بعد سقوط نظام القذافي في مقار يديرها متطرفون، إن مشكلة الإرهاب تكمن في الفكر. والسيارات المفخخة من أخطر ما يكون في هذا المجال.
وعما إذا كان يعتقد بوجود حواضن شعبية للمتطرفين في مدن مثل درنة وبنغازي، يقول المستشار السابق للهيئة العامة للأوقاف: لا... لكن هناك أئمة في بعض المساجد (يقومون بالتحريض)، وبعض الناس تتعاطف مع الخطاب الديني... المشكلة تكمن في أن الفكر المتداول في كثير من المواقع هو نفس الفكر الذي أسست له كتب سيد قطب (المنظر الإخواني المصري الراحل). ويضيف: «يتم الترويج للقصة التي تتبعها جماعة «الإخوان» منذ القدم، فيما يتعلق بصوت الحق، وصوت الباطل، وصوت الطاغوت... وهكذا».
ولا يفرق عموم الليبيين بين التنظيمات المتشددة... وتتساوى لدى معظمهم أسماء جماعة «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» و«أبو سليم». واعتاد العميد المسماري نفسه جمع كل هؤلاء في سلة واحدة، حين يتناول تحركات «المتطرفين» الذين يستهدفون الجيش والدولة. وتبين في تحقيقات متفرقة مع قيادات تنتمي لهذه الجماعات وجود تنسيق بطريق مباشر، أو غير مباشر، فيما بينها.
ويعتقد الشيخ أبو صوة أن هناك نوعا من التواطؤ بين «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش»، في بعض المدن، وفي بعض المسارات، وفي بعض الطرق أيضا. ويقول: «لا أشك في مثل هذا التواطؤ أبدا. فالقاعدة العامة تقول عدو عدوي، صديقي، فما بالك بأن هناك فكرا يلتقون حوله». ويشير إلى أن «الدواعش هم فصيل من جماعة «الإخوان»... حتى لو رأيت دواعش ينالون من شخصيات إخوانية بأنهم ميعوا القضية، فأنا أقول لك: لا... هم في النهاية يتفقون حول عدة نقاط».
ويخلص كثير من المحققين في ليبيا، إلى أن الفرق بين جماعة «الإخوان» وتنظيم داعش، هو أن الإخوان يعملون ببطء، أما الدواعش فيتعجلون الأمور، ويريدون تنفيذ كل شيء بسرعة. ويقول أبو صوة عن هذا إنه «صحيح إلى حد كبير... الدواعش متعجلون أكثر من «الإخوان»، لكن الفكر واحد، وهو تكفير المجتمع، وتكفير الحاكم، والخروج عليه، والغاية تبرر الوسيلة، وما إلى ذلك».
ويتشكل المجتمع الليبي في أغلبه من قبائل وعائلات كبيرة معروفة. وسبق لمصر أن استضافت مؤتمرا لهذه القبائل في القاهرة في صيف 2015. وأصدر المؤتمر وقتها توصيات كان من بينها دعوة أبنائهم للخروج من صفوف الجماعات المسلحة، أيا كان نوعها. وتعهدت برفع الغطاء الاجتماعي عن الأبناء الذين يصرون على العمل في صفوف الميليشيات. وأدت مخرجات المؤتمر إلى تقليص كبير في عدد المنخرطين في صفوف المسلحين في المنطقة الشرقية ذات التماسك القبلي.
وحول ما إذا كان يعتقد أن الجانب القبلي والعائلي يمكن أن يتغاضى عن بعض الشباب المتطرف، رغم كل شيء، يقول أبو صوة: هذا ممكن. حسب القبيلة. وحسب الشخصية التي يراد الإبلاغ عنها. هذا يلعب دورا كبيرا في التغاضي عن المتطرفين من عدمه.
وتمكنت قبائل كثيرة من «تنظيف» مناطقها من «المتطرفين»، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى القبيلة نفسها، ولم يقتصر هذا الأمر على الشرق الليبي فقط، ولكنه حدث في بعض مناطق الغرب والجنوب. واضطرت بعض المجاميع المنتمية إلى «داعش» أو «القاعدة» أو «الإخوان»، إلى النزوح بعيدا عن مواقع قبيلتها، وبعضها اجتاز الحدود إلى خارج البلاد مع القيادات الأجنبية التي تواليها. لكن الخطر يظل كامنا، ويمكن أن يظهر في أي وقت في المستقبل، مثلما حدث العام الماضي من عملية اغتيال لوفد المصالحة القبلية الذي كان قادما من مدينة «بني وليد» للم شمل قبيلتين في غرب طرابلس.
والأمر لا يقتصر على رغبة «المتطرفين» في استمرار الفوضى والانقسام في ليبيا، ولكن توجد أطراف مختلفة - بعضها مدني، وبعضها ليبرالي مدعوم من المجتمع الدولي - تمد يد المساعدة لكل ما من شأنه أن يطيل أمد الأزمة، أو بالأحرى، لكل ما من شأنه أن يعرقل جهود حفتر والجيش الوطني لفرض الأمن والاستقرار في عموم البلاد.
ويقول أبو صوة، بعد أن تمكن حفتر من بسط مظاهر الدولة في شرق ليبيا: الآن، وفي سبيل الإطاحة بحفتر، أو إضعافه، أو تأخير مشروعه: «الإخوان» يتعاطفون مع كل من يعمل ضد قائد الجيش. ويشير إلى أن الهجوم الذي جرى قبل أيام على منطقة مصافي تصدير البترول في الهلال النفطي، التي يسيطر عليها الجيش في غربي بنغازي... «يبدو هجوما مدعوما من كل خصوم حفتر، سواء كانوا «متطرفين»، أو غير «متطرفين».



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».