المهمّشون نجوماً والشعر مشاع بين الجميع

بعد الانتشار الواسع لمواقع التواصل

المهمّشون نجوماً والشعر مشاع بين الجميع
TT

المهمّشون نجوماً والشعر مشاع بين الجميع

المهمّشون نجوماً والشعر مشاع بين الجميع

لم يحدث عبر حقب التاريخ المختلفة أن وُضعت المعارف والإبداعات والخبرات الإنسانية في تصرف البشر ورهن إرادتهم، كما هي الحال في العقود الأخيرة الماضية. فما كانت تقتصر معرفته والإحاطة به على القلة القليلة من النخب المثقفة والعقول النيرة، بات اليوم في متناول الجميع على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم وشرائحهم الاجتماعية. لقد فقد المثقفون التقليديون جُلّ امتيازاتهم السابقة التي كانت تمنحهم سلطة الهيمنة والاستحواذ على من هم دونهم اطلاعاً وتحصيلاً ووقوفاً على الحقائق، وبات محرك البحث «غوغل» شبيهاً بقمقم سحري لا يحتاج فتحه والوقوف على كنوزه المعرفية إلى أكثر من نقرة أصبع سريعة. ولا يقتصر الأمر على وجه واحد من وجوه المعرفة أو الاختصاص، بل يستطيع أي شخص عادي أن يحصل على ما يريده في مجالات التاريخ والجغرافيا والفن والفلك والطب والشعر والرياضيات وعلوم النفس والاجتماع... وغيرها، بحيث يصبح «غوغل» بشكل أو بآخر التجسيد الفعلي لفكرة خورخي بورخيس عن المكتبة الكونية التي تختزن بين جنباتها كل علوم الأرض وآدابها منذ الأزل وحتى إشعار آخر.
لا أحسب أن مارك زوكربيرغ من جهته كان يدرك في البدء أن موقع «فيسبوك» الذي دفعته إلى تأسيسه رغبته الشخصية في إقامة نوع من التواصل المباشر بينه وبين زملائه في الجامعة، سيمكنه خلال سنوات قليلة من أن يستقطب مليارات البشر الساعين إلى الخروج من عزلاتهم وقواقعهم المغلقة نحو رحابة التواصل الإنساني والتفاعل مع الآخرين. وقد يكون إقبال البشر الكاسح على وسائل التواصل بمثابة رد رمزي على الجانب الوحشي من العولمة، خصوصا في شقيها الاقتصادي والسياسي، حيث يتم طحن الأفراد والمجموعات الأقلوية تحت سنابك الإمبراطوريات الكبرى والشركات العابرة للقارات.
وإذا كان «غوغل» وغيره من محركات البحث يوفر لزواره على اختلاف مستوياتهم متعة الاطلاع والتحصيل النظري، فإن «فيسبوك» وإخوانه يوفرون لزوارهم متعتين أساسيتين؛ تتعلق أولاهما بالمشاهدة والتلصص على حيوات الآخرين ونصوصهم وأحوالهم، فيما تنتقل الثانية إلى خانة الفعل والمشاركة المباشرة عبر الكتابة والموقف في أكبر الجداريات النصية والسيميائية التي عرفها التاريخ البشري. الـ«فيسبوك» بهذا المعنى هو نقل للعولمة من إطارها النخبوي إلى إطارها «الشعبوي» حيث بات لكل فرد، صغُر أم كبُر، حق الظهور صورةً ولغةً على شاشته الهائلة التي تتسع لجميع الوجوه؛ السافرة والمقنعة، ولجميع الأسماء؛ الحقيقي منها و«الحركي». وحيث الكل يتواصل مع الكل بلا حواجز ولا حدود، فإن هذه الشبكة العنكبوتية قد استطاعت أن تشكّل أكثر من قوة ضغط سياسية واجتماعية وأخلاقية، وأن تلعب قبل سنوات أكبر الأدوار خطورة في انتفاضات الربيع العربي وفي التحولات التي أعقبتها.
لقد حقق «فيسبوك» بامتياز رغبة البشر المهمّشين والمتوارين داخل حيواتهم المنسية في تحقيق ذواتهم وإثبات وجودهم وإعلان انتسابهم إلى هذا الكوكب الذي لا يكف سكانه عن التناسل المطرد. فقد باتت صفحاته الرحبة تتسع لجحافل لا تحصى من البسطاء والكادحين والجنود المجهولين والأطفال والعجزة وممن لا يكادون «يَفُكُّون الحرف»، وكل من يريد الدفع بأناه المغيبة والمكبوتة إلى الظهور أو التحقق عبر نشر صور وأخبار مفصلة عن مأكله ومشربه ومغامراته وحِلّه وترحاله. وكلما ازداد شعور البعض بالعزلة والتهميش وعقد النقص ازداد بالمقابل تهالكهم على البروز وتضخيم الذات، وإلحاحهم على طلب الصداقات مع كتّاب وفنانين ونجوم لم يكونوا من قبل ليجدوا سبيلاً إلى معرفتهم أو التواصل معهم أو نشدان صداقتهم. هكذا تبدو مواقع التواصل من بعض وجوهها أشبه بـ«هايد بارك» كوني من الوجوه والأصوات والمواقف والخطب والآراء والشعارات. ويبدو حائطها المفتوح على مداه أشبه ببرج بابل جديد من خلائط اللغات والوقائع وأخبار الوفيات والولادات وحفلات الزفاف والولائم والاحتفال بالحياة أو التبرم من صروفها.
وإذا كان «غوغل» قد جعل المعرفة مشاعاً بين البشر، فإن «فيسبوك» قد انتقل بهم من مشاعية «التلقي» إلى مشاعية «الإرسال»، ومن خانة القراءة إلى خانة الكتابة والتعبير. لكن اللافت في هذا السياق هو أن بابل الجديدة قد ألغت الفوارق بين الجميع ولم يعد ثمة من تراتبيات مسبقة في سلم التصنيفات بين المشاركين، بحيث يمكن أن يتجاور المشاهير والمغمورون، الأسماء البراقة والأسماء الغفْل، الرواد المخضرمون والمتدربون الصغار. لا بل إن «فيسبوك» قد ذهب أبعد من ذلك حين قلب هرم التراتب على رأسه وخلط أوراق اللاعبين وفقاً لمعايير وأسس مغايرة لا ينتمي معظمها إلى المعايير النقدية الموضوعية، بل إلى معايير المجاملات الاجتماعية والمداهنة والتزلف المتبادل. يكفي أن نتصفح حائط الشبكة العنكبوتية بشكل عشوائي لكي نتوقف ذاهلين إزاء التفاوت الواسع بين العدد الضئيل لعلامات الإعجاب التي تُمنح لكاتب مرموق، وبين مئات «اللايكات» التي تحصل عليها كاتبة رديئة تدعو المفتونين بجمالها إلى مشاركتها فطور الصباح. ولعل هذا الوضع الغرائبي بامتياز هو ما دفع كاتباً عالمياً مرموقاً هو الإيطالي أمبرتو إيكو إلى شن هجوم بالغ القسوة على مواقع التواصل، لأنها، وفق تعبيره، نوع من «غزو البلهاء»، ولأنها «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يثرثرون في الحانات فقط دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق في الكلام كمن يحمل جائزة نوبل». لقد تحولت ساحة «فيسبوك» إلى مباهلة لغوية غير مسبوقة بين ملايين المنتسبين إليه ممن يقدّمون دون انقطاع تعليقات ونصوصاً مفتوحة حول شؤون الحياة وشجونها المختلفة. ولأن الشعر، في الإطار العربي، لا يزال يحتفظ بوهجه ورمزيته العالية، فإن آلافاً مؤلفة من غير الموهوبين ومنتحلي الصفة قد وجدوا الفرصة سانحة لوضع ما يكتبونه ضمن خانته، ولادعائهم، كهولاً ومسنين، اللقب الذي لم يكونوا ليجرؤوا على ادعائه في مطالع شبابهم. لقد أفاد هؤلاء من حالة البلبلة وسوء الفهم المتعلق بالحداثة الشعرية، وبقصيدة النثر على وجه الخصوص، ليدرجوا كل ما يرتجلونه من «تأوهات» وخواطر إنشائية ساذجة ضمن خانة الشعر وإطاره. على أن الأمر لم يتوقف عند حدود الشعرية «الافتراضية»؛ بل انتقل فجأة إلى التكريس المباشر على أرض الواقع من خلال عقد الأمسيات والمهرجانات المتنقلة، وصولاً إلى إصدار النصوص في مجموعات ودواوين مستقلة، يفيد كتابها من فوضى النشر وغياب النقد على حد سواء. وقد يكون «فيسبوك» قد عزز بشكل أو بآخر فكرة الرمزيين الذين يرون في كل شخص شاعراً بالقوة، لكنه يحتاج لكي يصبح شاعراً بالفعل إلى الموهبة المجردة؛ بل إلى سنوات كاملة من الكدح والمثابرة وتنمية قدراته الأسلوبية والجمالية. لكن النسبة العظمى من الأسماء المعنية بالأمر تفتقر إلى الموهبة من جهة وإلى الاشتغال والحفر المعرفي من جهة أخرى.
على أن الوجه الآخر للصورة يتمثل في تحول مواقع التواصل إلى محفزات دائمة للتفنن الأسلوبي وتمرين الخيال على الابتكار، ولتفجير كل ما كان البشر الموهوبون يختزنونه في أعماقهم بفعل التهيب والخوف. كما يتمثل في اكتشافنا اليومي لمزيد من الأسماء المفاجئة التي لا تكف نصوصها الشعرية والنثرية عن إصابتنا بالدهشة أو الذهول. ثمة أسماء كثيرة لم يسبق أن سمعنا بها من قبل تمكنت خلال فترة وجيزة من رفد شعريتنا العربية الآخذة في الترهل بقدر هائل من الاستعارات الطازجة والكشوف الجمالية غير المألوفة. صحيح أن منسوب التسيب الذي أتاحته مواقع التواصل قد بلغ مستويات غير مسبوقة، ولكن الصحيح أيضاً أن الجودة تكتسب ألقها الإضافي في ظل هيمنة الرداءة والتهافت الغث. والذهب وسط أكوام الرمال يبدو أكثر إثارة للفتنة منه في محلات الصاغة وواجهات العرض.



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.