«لوبوان» الفرنسية تخصص عددها الأخير لألكسيس دو توكفيل

المفكر الذي تنبه مبكراً «لاستبداد الديمقراطية الناعم»

«لوبوان» الفرنسية تخصص عددها الأخير لألكسيس دو توكفيل
TT

«لوبوان» الفرنسية تخصص عددها الأخير لألكسيس دو توكفيل

«لوبوان» الفرنسية تخصص عددها الأخير لألكسيس دو توكفيل

خصصت مجلة «لوبوان: Le Point» في عددها (24) الأخير، لشهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) للمفكر «ألكسيس دو توكفيل» الذي ما أن نسمع اسمه حتى نستدعي لفظة «الديمقراطية». فهو كما يقال كان يحملها كصليب، فهي بؤرة اهتمامه وشاغله ذهنه، إلى درجة أنه سافر في رحلة إلى أميركا ليطلع عن كثب على تجسدها الملموس، فترك لنا كتابه التحفة «الديمقراطية في أميركا» في جزأين كبيرين.
كتبت «كاترين غويو» افتتاحية للعدد بعنوان: «مزيدا من المجهود يا معشر الديمقراطيين»، تتساءل فيه عن الديمقراطية التمثيلية في الغرب، وهل ما زالت هي النظام النموذجي لضمان الحريات الفردية بموازاة مع المنافع المجتمعية؟ مذكرة بمقولة المؤرخ فرنسيس فوكوياما بعد سقوط جدار برلين: «نهاية التاريخ»، والتي كان مغزاها أن الديمقراطية الليبرالية ومعها الرأسمالية وحقوق الإنسان قد أصبحت ظافرة ومنتصرة. وهو الأمر الذي لا تؤكده تجربة الثلاثين سنة الأخيرة، إذ نجد العديد من الثورات والحروب وكذلك الإرهاب الذي تفشى في كل أنحاء العالم، وكأننا لم نصل إلا إلى أبواب موصدة، فالديمقراطية قد أظهرت إمكانية تحركها في كل الاتجاهات، بل أحيانا تقود إلى احتمالات سيئة جدا. وهنا تكمن بحسب «كاترين غويو» أهمية المفكر دو توكفيل، فهو ومنذ سنة 1840 قد تنبه إلى مفارقة الديمقراطية، خاصة في الجزء الثاني من كتابه: «الديمقراطية في أميركا».
إن الخطر الأكبر الذي تنبأ به دو توكفيل، ومنذ وقت مبكر، على الديمقراطية يأتي من الديمقراطية نفسها، فالإنسان الديمقراطي يصبح بسهولة ضحية الفردية، أي الوقوع في التراخي الذي يحول المواطن إلى منعزل، يعيش فقط لنفسه، فالديمقراطية تخلق شخصا مستقلا، لكن مع الوقت يهجر النشاط السياسي تاركا إياه للدولة كاملة، وهذا ما عبر عنه دو توكفيل بالشر السياسي، الذي كان من أكبر مخاوفه، حيث يمكن بسهولة وباسم المساواة أن تضيع الحرية، إنه نوع من الاستبداد الناعم والجذاب.
ولد دو توكفيل عام 1805 وتوفي عام 1859 بمرض السل، وهو الذي قال فيه والده مندهشا، حينما نظر إليه بعد خروجه للوجود: «أنا متأكد أنه سيكون رجلا عظيما». لم يكن دو توكفيل أميركيا يفاخر بتاريخ وطنه ومنجزاتها السياسية، بل لم يكن حتى ديمقراطيا، فهو سليل عائلة فرنسية، أرستقراطية، كرس جهده ووقته لخدمة وطنه فرنسا في القضاء والإدارة والتشريع والسياسة... وما ذهابه إلى أميركا إلا من أجل خدمة قضايا بلده، فهو اتجه صوبها للحصول على معلومات حول نظام السجون هناك، وأثناء رحلته التي لم تدم سوى تسعة أشهر ما بين عام 1831 و1832 استطاع تأمل أسس المجتمع الأميركي ومحاورة كبار الأميركيين، ولكن الذي كان يشغل باله في الدرجة الأولى، قضية المساواة الاجتماعية.
خرج دو توكفيل من رحلته بغنيمة كبرى جمعها في كتابه «الديمقراطية في أميركا» بجزأين، صدر الأول منه عام 1835 والثاني 1840. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لدينا ترجمة باللغة العربية قام بها أمين مرسي قنديل عن دار النشر (عالم الكتب). لقد جمع دو توكفيل في عمله بين المؤرخ والرحالة المسجل للملاحظات والفيلسوف الذي رسم حضورا جعله من الكبار كميكيافيلي وهوبز واسبينوزا ومونتسكيو وروسو... كما أنه ألف الكتاب بالفرنسية ليقنع به أبناء وطنه، بأن الديمقراطية أفق البشرية المنتظر وقدرها، وأنها قادمة لا محالة وستصيب كل الأمم وهنا طبعا تكمن راهنيته.
إن مؤلف «الديمقراطية في أميركا» كان تنبيها من طرف دو توكفيل على أن هناك بلدا في القرن التاسع عشر في العالم يعيش الديمقراطية تطبيقا وتنفيذا على أرض الواقع، وذلك ردا على المعارضين لها في زمانه، فهو حسم أمره معلنا أن الديمقراطية حقيقة وهي تتكرس وتنضج يوما بعد يوم، ومن يشكك في ذلك، ما عليه إلا أن يسافر لأميركا، ليرى بأم عينه تجسدها الفعلي، وما التغير الذي أصاب نظام الإرث عند الأميركيين إلا شاهد على ذلك، إذ لم يعد الابن البكر هو الأحق بالتركة، بل الأمر أصبح يوزع بالمساواة بين الأبناء، ناهيك عن انتشار نظام لا مركزي، جعل كل بلدة تستقل في تدبير شأنها العام، وكان ذلك طبعا شكلا متقدما من الديمقراطية بما هي حكم ذاتي لكل منطقة والتي تتحد مع بقية المناطق في اتحاد فيدرالي. والأكثر من ذلك تبلور نظام المحلفين الذي يورط الناس في القضاء والتدبير المشترك. عموما، لقد ظهر الكتاب في النصف الأول من القرن التاسع عشر ليؤكد أن أميركا كانت محظوظة وتوفرت على كل الظروف الملائمة لتعيش الحكمة الديمقراطية.
تبقى الإشارة هامة للدور الكبير لعالم الاجتماع ريمون آرون (1905 - 1983)، إذ يرجع له الفضل في إعادة اكتشاف متن دو توكفيل الذي كاد أن يهمل جراء هيمنة الماركسية من جهة والنزعة الوضعية من جهة أخرى، وهو ما أبرزته المجلة بمقال وقعه المؤرخ جويل موريس. فريمون آرون جند نفسه للدفاع عن الحرية ضد كل الأنظمة الشمولية التي ظهرت في القرن العشرين وهنا سيشارك توكفيل شغفه بالحرية.
في الختام، نقول كما توضح المجلة في أكثر من مقال، إن إعادة إحياء دو توكفيل في القرن العشرين كان لمجابهة الماركسية، فهو يعد من المساهمين في إسقاط جدار برلين، حيث كان الفرس الأبيض للغرب الليبرالي ضدا عن كل مد شيوعي آنذاك. أما عن إحيائه راهنا فذلك يعود إلى كونه تنبه لمخاطر الديمقراطية، وكيف أنها يمكن أن تكون هي السبب في قتل الحرية نفسها.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.