مرة جديدة، تبرز بوجه السلطات الفرنسية السياسية والقضائية مشكلة الفرنسيات، أو المقيمات على الأراضي الفرنسية، اللواتي التحقن بتنظيم داعش الإرهابي في سوريا أو العراق، والعشرات منهن معتقلات في هذين البلدين. وككل مرة، تكشف باريس عن موقف واضح قوامه أنها لا ترغب في عودة هؤلاء إلى الأراضي الفرنسية. وبالتوازي مع مشكلة النساء، ثمة معضلة مصاحبة هي كيفية التعاطي مع الأطفال، إما الذين اصطحبهم أهلهم إلى «ميادين القتال»، أو الذين ولدوا هناك. وبعكس ملف الرجال الذين لم يتوجهوا إلى هذه المناطق بغرض السياحة مثلاً، فإن «حسم» الدور الذي لعبته النساء يبدو أكثر صعوبة. وهذا تحديداً حال الفرنسية ميلينا بوغدير المعتقلة في العراق، التي عادت إلى واجهة الأحداث في الأيام الأخيرة.
ميلينا بوغدير تخضع حالياً للمحاكمة في العراق، حيث تم القبض عليها في مدينة الموصل الصيف الماضي. وبداية، حكم عليها بالسجن سبعة أشهر بطريقة غير شرعية. وكان يفترض إبعادها إلى فرنسا مع أن تكون قد أمضت حكم السجن. إلا أن الأمور سارت باتجاه معاكس، إذ إن محكمة التمييز العراقية أعادت دراسة الملف، واعتبرت أن الأمر «لم يكن دخولاً غير شرعي بسيطاً، لأنها كانت تعلم أن زوجها سينضم إلى تنظيم داعش»، وتبعته «رغم علمها بذلك». ولهذا السبب، فإنها تخضع لمحاكمة جديدة، ولكن هذه المرة بتهمة الإرهاب والانتماء إلى تنظيم إرهابي. وإذا تمت إدانتها بهذه التهمة، فإنه من المرجح أن يحكم عليها بالإعدام، الأمر الذي سيزيد المسألة تعقيداً بالنسبة للسلطات الفرنسية، حيث إن باريس ألغت عقوبة الإعدام منذ عقود، وترفض أن ينطق بهذا الحكم ضد مواطنيها مهما تكن الجريمة التي ارتكبوها، بما فيها جريمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي.
في الحديث الذي أدلى به إلى القناة الإخبارية «أل سي أي»، أعاد وزير الخارجية جان إيف لو دريان التأكيد على أمرين: الأول، أن بوغدير إرهابية، وبما أنها اعتقلت في العراق فيتعين أن تحاكم في هذا البلد، أي في «المكان الذي ارتكبت فيه ممارساتها». واعتبر لو دريان أن هذا «أمر طبيعي» لأن يوغدير «قاتلت ضد الوحدات العراقية، ولذا يجب أن تحاكم في العراق». أما الأمر الثاني، وهو في الواقع استباق للحكم بالإعدام المرجح ضد بوغدير، بالنظر لما صدر عن المحاكم العراقية في السنوات الأخيرة، فقد أعلن لو دريان أن بوغدير تتمتع بحق الدفاع، كما أن وزارته تعمل من أجل أن «تتابع قنصليتنا وضعها لكن يتعين على القضاء أن يصدر حكمه على إرهابية من (داعش) قاتلت ضد العراق». ويعني كلام الوزير الفرنسي عملياً أن باريس يمكن أن تتدخل لدى العراق من أجل تحويل حكم الإعدام في حال صدوره إلى حكم آخر.
عند ظهورها أمام المحكمة للمرة الأولى، كانت بوغدير تحمل طفلها الأصغر «من بين أربعة أطفال ثلاثة منهم أعيدوا إلى فرنسا». ونفت هذه الفرنسية التي هي واحدة من مئات الفرنسيات اللواتي التحقن بأزواجهن، أو انتقلن بمفردهن إلى سوريا والعراق، أمام المحكمة، أن تكون إرهابية أو منضوية في تنظيم إرهابي، مؤكدة أنها عاشت كـ«ربة منزل». كذلك أكدت أن زوجها وهو فرنسي اعتنق الإسلام واسمه ماكسميليان تيبو، طاه بسيط ولم يكن مقاتلاً في صفوف «داعش». والحال أن الأخير كان اسمه موجوداً على لائحة الأشخاص الذين يشكلون تهديداً للأمن في فرنسا، وسبق أن حكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، منها سنتان مع وقف التنفيذ، لانتمائه إلى خلية تسمى «فرسان العزة» الذي أمرت وزارة الداخلية بحلها. وفي العام 2015 انتقل هذا الثنائي الذي كان يعيش في مدينة نانتير القريبة من باريس إلى سوريا، ثم استقرا في الموصل. وفي صيف عام 2017 ألقي القبض على بوغدير مع أطفالها، وهي مختبئة في كهف بالموصل منذ ما يزيد على الشهرين. أما مصير زوجها فما زال مجهولاً. وتعتقد السلطات العراقية أنه قد قُتل. في محاكمتها الجارية حالياً في بغداد، يريد الدفاع أن يثبت أن المتهمة ميلينا بوغدير لم تكن عضواً في «داعش». والحال، وفق تقارير حصلت عليها باريس، أنه عند توقيفها عثر معها على جَوَّالين. وعلى الجهاز الذي لم تمح معطياته، اكتشف المحققون ثبتاً بمواقع القوات العراقية و«الجهادية» في الموصل ومعطيات عسكرية أخرى ما يرجح أنه جهاز زوجها، وبالتالي فإن ذلك يثبت أنه كان عضواً فاعلاً في «داعش». وتفيد شهادة الجنود الذين أوقفوها أنها تفوهت بعبارات التمجيد لـ«داعش»، كما أن صورة لها تبين أن ترسم شارة النصر. وثمة شكوك في أن تكون بوغدير قد انتمت إلى الفصائل النسائية التابعة لـ«داعش»، التي كانت تلعب دور شرطة الأخلاق في مناطق سيطرة التنظيم الإرهابي.
يتوقف اليوم مصير بوغدير على ما ستقرره محكمة التمييز العراقية. إلا أن حالتها تعكس مشكلة أوسع طرحت منذ أواخر العام الماضي، وأصبحت أكثر إلحاحاً بعد سقوط معاقل «داعش» في سوريا والعراق. وعندما سُئل الرئيس الفرنسي نهاية العام الماضي عن مصير النساء والأطفال، أجاب أن «كل حالة ستدرس على حدة». ولكن الواضح أن باريس غير راغبة في رؤية كل من ذهب إلى سوريا والعراق يعود إلى الأراضي الفرنسية، بسبب المخاوف الأمنية، وأيضاً لتأثير هؤلاء العائدين، في حال سجنهم، على الآخرين باعتبار السجون هي أحد أهم «مدارس» التشدد؛ وليس تشديد الوزير لودريان على أن بوغدير منتمية إلى «داعش»، وقاتلت القوات العراقية، إلا من باب التعبير غير المباشر على الرغبة في أن يكون الحكم الجديد الذي سيصدر بحقها كافياً لإبقائها في السجون العراقية لأطول وقت ممكن.
فرنسا متمسكة بأن يحاكم متطرفوها المقبوض عليهم في أماكن اعتقالهم
لودريان عن ميلينا بوغدير: المتهمة في بغداد «إرهابية» يجب أن تحاكم في العراق
فرنسا متمسكة بأن يحاكم متطرفوها المقبوض عليهم في أماكن اعتقالهم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة