1999... في ذلك العام كانت البشرية تتأهب لدخول ألفية جديدة تاركة وراءها كل الخطايا السياسية والاقتصادية. كان جدل العولمة يتصاعد. والدّول الضعيفة هي من ستدفع الأثمان. في ذلك التاريخ، بدأت العمل الصّحافي في الدائرة الاقتصادية بجريدة «الرأي».
كانت لي تصوّراتي الخاصة عن المهنة التي يراها كثيرون «وظيفة». انطلقت على أنها قيمة إضافية لا بدّ أن أتعلم منها. كما ينبغي أن أكون أنا نفسي.
كانت الصحافة الاقتصادية حينها، تعتمد في معظمها على تصريحات الجانب الرسمي، وعلى أخبار المال والشركات والاستثمار، وبعض التحليلات والمقالات. والفرد كان الغائب الأكبر عنها.
خطوت أولى خطواتي في الصحافة متلمّسة طريقي في قسم مليء بالأرقام الصماء. لا بدّ من إيجاد طريقة معينة نسلكها تكون قريبة من الناس، لنخبرهم معنى هذه الأرقام وانعكاساتها على حياتهم.
حينها، بدأت ملامح ما يمكن تسميته «أنسنة الاقتصاد» أو «الاقتصاد الاجتماعي» بالظهور في الصحافة والثقافة في الأردن. كنت أكتشف الطريق التي أبحث عنه.
مرّ الوقت وأصبح لدي «أجندة شخصية»، تتمثل في تقريب المفاهيم الاقتصادية، وتعريف الناس بحقوقهم. بت أمتلك مجموعة كبيرة من الملفات الخاصة بأرقام الفقراء، وأماكن وجودهم، وأمور أخرى. في تلك الفترة، بدأت كتابة المقالات. لم تكن اقتصادية بحتة.
في عام 2006، عملت في صحيفة «السجل» الأردنية، إلى جانب عملي في «الرأي». التجربة مغرية مع الأستاذين، مصطفى الحمارنة وجورج حواتمة. صحيفة أسبوعية يديرها فريق عمل صغير ومحترف. هنا تعرّفت على مفهوم «الصحافة الديمقراطية». لا تكون رسمية ولا معارضة، بل تحتفي بالمنجز والتخطيط السليم، وتنتقد العبث السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كان المفهوم السائد في الصحافة الأردنية، حينها، أنّ الوقوف مع المعارضة يعني أنك تقف إلى الجانب الصحيح، بينما الوقوف مع الدولة سيثير حولك علامات الاستفهام. لكن الصحيفة استطاعت أن تخلخل المفهوم، وتعيد رسم الطريق باتجاه المصلحة العامة أي ألا تكون مع أحد، بل مع منطق الأمور.
في أواخر 2008، غادرت «الرأي» لأنضمّ إلى «الغد» بصفتي مديرة للدائرة الاقتصادية. عملت مع فريقي على تجذير مفهوم «الأنسنة» مركزين على الاقتصاد الاجتماعي الذي يهم الأفراد العاديين. بدأت كتابة المقالات الأسبوعية التي تركز على الفقر والبطالة وواقع المرأة ومساهماتها في السياسة والاقتصاد. بعد أكثر من عقد على دخولي عالم الصحافة، شاركت في المؤتمرات الاقتصادية واللجان المتخصصة، وعمدت لتمرير خبراتي المتراكمة إلى صحافيين جدد. في عام 2012، جاءت النقلة الأهم لحياتي المهنية، وأصبحت رئيسة تحرير «الغد». كنت سادس رئيس تحرير للصحيفة التي انطلقت صيف 2004. حين يكون الشخص رئيسا للتحرير، فلا يمكن أن يحصر اهتماماته في الجانب الاقتصادي فحسب، بل لا بدّ أن يتحلى بنظرة شمولية يستوعب من خلالها جميع الملفات المهمة المطروحة في الشارع. هناك جانب آخر من الجهد ينبغي أن تبذله، وهو الدفاع عن استقلالية مؤسستك، بعيداً عن صراع السلطة والمعارضة.
التغييرات في الحكومة وفي مؤسسات الدولة المختلفة تلقي بظلالها دائما على عمل الإعلام، والتعامل مع الإعلام ينطلق من تقبل المسؤول لفكرة حرية الإعلام.
من هذا المنطلق، غالباً ما تخوض وسائل الإعلام في العالم الثالث، جدلا واسعا مع أجهزة الدولة وحكوماتها لإقناعها بأنّها مؤسسات وطنية، وأنها تمثل سلطة رابعة تنطلق من المصلحة العامة التي ينبغي أن تكون واضحة لدى الجميع، ولا بدّ عليها من ممارسة الرقابة على السلطات الثلاث الأخرى، وتعمل بدورها في عملية التنوير. من هنا يتمحور الجهد الأكبر لصناع السياسيات الإعلامية في المؤسسات الإعلامية. وبعد سبع سنوات على تسلمي للمنصب، أرى أنّ أكثر ما أنجزناه وزملائي في العمل، هو الدفاع عن حرية الإعلام، وتكريس خط فاصل بين التحليل المنطقي أو «التطبيل»، وبين النقد البناء أو الهدم والتجريح.
اليوم، نواجه في الأردن والمنطقة تحديات كثيرة، ونعمل بجميع طاقتنا لنكون قريبين من الناس وهمومهم، ولا تزال معركتنا مع حرية الصحافة والسقف قائمة، ومحاولاتنا أيضا تتكرر لوضع تعريف محدّد للمفهوم المطاط «المصلحة العامة» الذي يستطيع مصادرة الحريات، ولا يزال الجدل قائما مع أكثر من جهة في إمكانيات احتكار الحقيقة في هذا العالم المعولم.
في عالمنا الثالث، ثمة مسؤولية كبيرة تنتظر الشباب الصحافيين ليكملوا معركة الحريات، لذا عليهم امتلاك المهارات والأدوات، والأهم الإيمان بدورهم في بناء مجتمعاتهم وحمايتها.
- صحافية أردنية
رئيسة تحرير جريدة «الغد» الأردنية