الأفلام الأولى التي بدأت باحتلال شاشات الدورة الحادية والسبعين توحي أكثر مما تؤكد. وباستثناء الفيلم المصري المبهر وجدانياً، على الأقل، «يوم الدين» لصاحبه أبو بكر شوقي، فإن ما تلاه، حتى الآن، هو المستوى المتوقع وإن لم يكن المفضل من ثلاثة مخرجين متباعدين أسلوباً واهتماماً ملتقين في الالتفات إلى الماضي، سواء بقوا فيه أو استخدموه تفعيلةً للانتقال إلى الحاضر.
إذ تعالج هذه الأفلام موضوعات لها علاقة مع الماضي، فإن حال فيلمين منها هما «صيف» و«حرب باردة» هو النظرة البانورامية على ما كان الفاعل الاجتماعي والثقافي آنذاك مدخلاً لنقد فترة مضت ولم تمض بعد آثارها النفسية أو حتى الاجتماعية.
أما بالنسبة للفيلم الثالث، «الجميع يعلم»، الذي افتتح الدورة، فإن الماضي هو تفعيلة لاستخراج سر دفين. المخرج هنا لا يود البحث في السياسة ولا في النظم، بل في شخصيات تفتح أحداث اليوم نوافذ ذكرياتها عما حدث سالفاً.
{الجميع يعلم}
إخراج: أصغر فرهادي
المسابقة | إسبانيا
دراما اجتماعية تكشف أسراراً عائلية
تقييم:
> لعب المخرج الإيراني أصغر فرهادي على مسألتي الاختفاء والماضي. كان هناك «عن إيلي» حول الفتاة الغريبة عن مجموعة من الرجال والنساء الذين يقومون برحلة استجمام لشاطئ البحر. يتساءلون حولها ثم يسيتفقدونها عندما تختفي من دون أن نعرف كيف اختفت ولماذا. شيء من هذا القبيل، في فيلم أفضل بكثير، قام مايكل أنجلو بتحقيقه تحت عنوان «المغامرة» سنة 1960، أي قبل 46 سنة. في فيلم أنطونيوني تختفي بطلته خلال رحلة بحرية من دون أن تترك أثراً. هذا ما يحدث في فيلم فرهادي. هناك حكاية غير تشويقية تكشف نوايا من كانوا حول المرأة المختفية ومن ثم دلف إلى واقع عاطفي مغلف بآخر أقوى اجتماعياً واقتصادياً.
عند فرهادي أيضاً الحكاية غير تشويقية، لكن اختفاء بطلته لا يؤدي إلى أي بحث في الشخصيات المحيطة؛ كون ذلك قد يؤدي إلى إثارة نقد لا مكان له في السينما الإيرانية من دون دفع ثمن باهظ. بعد ذلك، أفلام المخرج الثلاثة الأخرى «انفصال» و«الماضي» و«البائع» رحلات تنطلق من حدث آني يستدير بعضه للماضي ليكشف عن تفعيلة خفية (أو هكذا يُعتقد أنها) سترمي بظلها على ما سيلي من أحداث.
إذن، هو الحاضر ثم الماضي ثم المستقبل، وهذا ما يحدث تماماً في «الجميع يعلم»: دراما عاطفية أخرى من مخرج لديه حكاية واحدة ترتدي بدلات عدة وتستعرضها على الشاشات الكبيرة. الاختلاف هذه المرّة هو أن المخرج عمل حسابه على رسم خط تشويقي ينطلق في سيناريو يذهب في اتجاهات كثيرة ويعتمد على أسلوب مونتاجي فطري. ما زال الفيلم «فرهادياً»، لكنه من دون نجاحاته السابقة في تفعيل حدث خفي يبقى سراً بين اثنين، لكنه يؤثر عليهما معاً.
في «انفصال» يخلق المخرج حادثة سقوط خادمة عن السلم؛ ما أدى إلى إجهاضها وادعائها بأن رب الأسرة دفعها بينما ينفي هذا الحدث. في اللحظة المطلوبة يقص المخرج كادراً من المشهد سيؤكد للمشاهد من الصادق ومن هو الكاذب وسيساعده على توفيز لغزية الوضع بأسره.
في «البائع» هناك الزوجة التي كانت تأخذ حماماً في بيتها عندما سمعت حركة في البيت فاعتقدت أن زوجها عاد. لكن من دخل البيت ليس زوجها، ولو أن لديه مفتاحاً للشقة. يدفع المخرج بالسؤال حول ما الذي حدث تبعاً لذلك، ويبقيه ضمن منال الافتراض على أساس أنه مفتاحه لفيلم لغزي.
على هذا النحو قدّم كذلك «الماضي» الذي يكفيه أن عنوانه دال على تلك الحركة الثلاثية بين الوقع الحاضر والكشف عن الماضي وآثار ذلك على المستقبل.
في فيلمه الجديد هذا، يعمد فرهادي إلى خلطته التقليدية. الحاضر: عودة لاورا (بينيولي كروز) إلى قريتها الإسبانية ولقاؤها مع أهلها وأقاربها ومعارفها، وحفلة العرس التي تُقام في الليلة ذاتها. الحفلة التي انقلبت إلى فاجعة عندما اكتشفت لاورا اختفاء ابنتها إيرين (كارلا كامبرا).
الماضي كائن في علاقة ربطتها بصديق العائلة وجارها المحب باكو (خافييه باردم) وكيف أنها، بعد الليلة الأخيرة مع باكو، سافرت لاورا إلى الأرجنتين وتزوّجت وأنجبت ابنتها بعدما صارحت زوجها أليخاندرو (ربكاردو دارين) بحقيقة الأمر. هذا تبنّـى الفتاة كما لو كانت ابنته وهي ترعرعت تعتقد أنه والدها.
ما أن يتم الكشف، في سياق الفيلم، عن هذا الماضي الذي كان سرّاً لا يعرفه كاملاً حتى باكو الذي لم يشك في أن الفتاة المخطوفة هي من صلب زوج لاورا الحالي، حتى ندخل في نطاق النتائج المترتبة.
إنه تقسيم كلاسيكي فاعل هنا، لكنه لا يحقق إضافة تُذكر على أعمال فرهادي السابقة، بل ينطلق منها في مسار سهل. مسار موجه لجمهور غير ذاك الذي وجد في فرهادي اكتشافاً لمخرج إيراني لديه ما يقوله عن الناس وعن الناس الإيرانيين تحديداً.
في عمله هنا تمر مفارقات ناتجة من الحدث الكبير (اختطاف الفتاة مقابل فتية) تتفرق عنها المفارقات المعهودة قبل أن نعرف من هم الخاطفون ومن، من بين أفراد العائلة، ساعد في العملية طمعاً في الحصول على فدية. هذه الفدية لا يدفعها الأب المتبني، بل يضطر إليها باكو الذي اكتشف الحقيقة فانبرى لبيع أرضه. المعضلة في هذا الموقف وفي أمثاله. طوال المحنة لا يوفّـر المخرج فرهادي قوّة حقيقية وراء هذا الدافع. نعم هي ابنته، لكن باكو متزوّج سعيد ولديه أرض خصبة ويفكر في صالح عماله، لكن هل يذهب إلى حد خسارة كل شيء لدفع الفدية أم كان سيندفع لاستدانته فقط أو المساعدة عليه؟
ثم ماذا عن البوليس؟ يتردد اسمه كثيراً، لكن لا الأم ولا باكو ولا أليخاندرو يريدون إخبار البوليس خوفاً من قتل المخطوفة. مخاوف مبررة، لكن مع استمرار البحث وإعادة البحث والإتيان بكل الدراميات الناشئة عن هذا الوضع، فإن السبب يخسر من قوّته كذلك في مقابل ألا يخسر المخرج من خطته التي وضعها لتجنب إدخال البوليس وتغيير العمل إلى فيلم تحقيقات رسمية.
مبرره هنا مقبول (ولو أن طريقة بلوغه تترك أسئلة غير مجابة حول السيناريو)، وتقنياً فإن شغل المخرج لا غبار عليه. يعمل فرهادي بمعادلات الخبرات الأوروبية بنجاح ويدير ممثلين جيدين ومتحمّسين للعمل. حتى حين يكرر بعض مشاهده بمفاداتها ذاتها، فإن الممثلين يتجاوزون هذا الضعف بمد إضافي من تجسيد المشاعر الذي تخالجهم على كثرتها. لكن ضمن هذه التجسيدات هناك مستويات. بينما ليس في وسع كروز، في غالبية مشاهدها، إلا أن تعكس الهلع الذي أصابها نتيجة خطر فقدانها ابنتها، فإن باردم عليه التعامل مع جوانب ومشاعر أخرى ولديه الحيّـز الكافي لذلك. لذا؛ هو أكثر الممثلين إجادة.
صيف
إخراج: كيريل سيريبينكوف
المسابقة | روسيا
بيوغرافي عن حياة المغني فكتور تسوي
تقييم:
> المخرج كيريل سيريينكوف ينضم إلى المخرج جعفر باناهي في قاسم مشترك: كلاهما محكوم عليه بالبقاء في بيته لا يغادره. لكن هذا الوضع هو النقطة الإيجابية شبه الوحيدة إذا ما حاول هذا الفيلم الذي حققه قبل صدور الحكم بالسجن المنزلي مباشرة شق طريقه للعروض بعد أن شهد عرضه العالمي الأول هنا.
«صيف» ليس فيلماً جيداً بقدر ما هو عمل يستدعي العودة إلى زمن «الروك أند رول» والغناء الغربي المنسوج من رحاه. ما يعرف بـ«بوب ميوزك» كان عبارة عن بديل للشبكة العنكبوتية، كما يسمون الإنترنت اليوم؛ إذ كان الجمهور يتلقفها علناً أو سراً وفي روسيا لم يكن المستورد منها محبوباً من السلطات، لكن جمهوره كان كبيراً.
فيكتور تسوي كان نجماً روسياً معروفاً في هذا الشأن وذا شهرة محلية. والمخرج سيريينكوف يود من مشاهديه مراجعة إرث فني من دون أن يكشف النقاب عن تميّـز شديد أو يدخل إلى صميم ما يقترحه من محيط وبيئة سياسيين واجتماعيين. البديل الذي يقترحه هو الاستفادة من بعض ما ورد في حياة المغني من علاقات ووضعها تحت المجهر ما يحوّل النص، تبعاً لما هو وارد في الفيلم، إلى دراما عائلية مشبعة بالجو الموسيقي أساساً.
لا يفتأ الفيلم التذكير بأن فترة مطلع الثمانينات كانت المرحلة التي انتقلت موسيقى الروك أند رول من عصر «البيتلز» و«الرولينغ ستونز» إلى عصر «ذا دورز» و«غريتفول دَد» (Greatful Dead) تمهيداً لموجة ثالثة هي موجة «البانك» و«الهارد روك». ضمن هذه الذكرى المنشودة لذاتها هنا يمر المخرج على حياة شخصيته الرئيسية ليس من خلال موسيقاها فقط، بل من خلال علاقاتها العاطفية.
في الحقيقة، السيناريو مأخوذ عن كتاب وضعته إرينا ستارزهنبوم التي كانت على علاقة معه ومع مغنٍ آخر في الوقت ذاته.
هناك قدر من النقد الذي يوجهه المخرج صوب العهد الشيوعي آنذاك من حيث كيفية تعامل النظام مع موسيقى الروك أند رول التي لا تشبه أياً من المنابع الروسية أو الجورجية أو سواهما من الدول التي كانت منضوية تحت النظام السوفياتي. هناك شكوك دائمة حول غاية الموسيقيين المتأثرين بالغرب؛ لذلك لم يكن مسموحاً لهم بالغناء إلا من بعد قراءة الأغاني للتأكد من أنها لا تمس النظام ومن بعد إيفائهم بشرط آخر وهو الغناء في المرابع الشبابية المرخصة.
صوّر سيريينكوف فيلمه بالأبيض والأسود تماشياً مع النوستالجيا، لكن سرده مهزوز في مونتاجه وإيقاعه. المشكلة هنا هي أن المخرج بالحديث عن الحياة العاطفية والسعي لإثبات الذات في ذلك الجو الصارم نسي أن يتحدث عن موسيقى ذلك المغني لمن لا يعرفه. بذلك؛ هناك فراغ في عمل كان يمكن له أن يتبلور على مستوى أفضل مما جاء عليه.