لا بد أن أي كاتب يمتلئ غبطة حين يقف أمام الصرح الشامخ لمدينة الثقافة، شمال العاصمة. لقد فعلتها تونس وحققت ما فات دول أخرى الانتباه إليه، وهو تشييد مركز لتعزيز البناء الحضاري للمواطن وتمكينه من ارتياد فضاءات الجمال. يخطر ببالك وأنت تدخل هذا المبنى الأبيض الرخامي الشّاسع أن تخلع نعليك لأنّ المعرفة عبادة، ولأنّك تدخل فضاء يشتمل على بيت الرواية، هو الأول من نوعه في الوطن العربي. هنا بيتك وبيت رفاقك الكاتبات والكتّاب، وهم مدعوون للتباحث في شؤون عملكم وما يهدّد الرواية من مخاطر.
والرواية، في لبّها، هي الخيال. وقد امتلك كاتب تونسي يدعى كمال الرياحي من الحماسة والخيال ما حرّضه على إطلاق فكرة بيت الرواية وطرق أبواب أصحاب الشأن والقرار لتحقيقها. وكان يكفيه أن يلمح الضوء الأخضر لكي يشمّر عن ساعديه ويبدأ العمل، برفقة فريق صغير لا يتجاوز عدد أصابع اليد، فتجسد الحلم وسار على ساقين والكثير من الأمنيات. بيت للرواية يتخذ من صورة دون كيخوت، بطل سيرفانتس، شعاراً له، ذاك الذي كان يحارب طواحين الهواء. فهل توقف الروائيون، منذ مطلع القرن السابع عشر حتى يومنا هذا، عن مقارعة الطواحين من كل فكر وزيّ؟
عشرات الروائيين وأساتذة الأدب والمهتمين التوانسة كانوا في استقبال باقة من الأسماء العربية المعروفة في ميدان الكتابة الروائية: رشيد الضعيف وهدى بركات من لبنان، إبراهيم عبد المجيد وأحمد مجدي همّام من مصر، أمين الزاروي والحبيب السائح من الجزائر، وعبد العزيز بركة ساكن من السودان، ومحمود عبد الغني من المغرب، وسعود السنعوسي من الكويت، وعلي المقري من اليمن، وإنعام كجه جي من العراق، وفي مقدمة هؤلاء ضيف شرف الملتقى الكاتب الليبي البارز إبراهيم الكوني. أمّا من البلد المضيف فقد دعي للمشاركة كل من مسعودة أبو بكر، ومحمد علي اليوسفي، وأبو بكر العيادي، والحبيب السالمي، وآمال مختار، وحسونة المصباحي، وآمنة الرميلي، وكمال الزغباني، ومحمد الجابلي، وحسن بن عثمان، ومحمود طرشونة، وخيرية بوبطان وشفيق الطارقي.
نقرأ في دليل الملتقى الأول الذي انعقد في الثالث من الشهر الحالي، ولثلاثة أيام، أنّ الرواية «باتت واحدة من أهم التعبيرات الأدبية والفنّية في العالم، مما حوّل هذا الجنس المغضوب عليه منذ نشأته الأوروبية، إلى قوة إبداعية استثنائية اكتسبها من قدرته على التجدد في أشكال وأنواع تُكذّب كل مرة المتنبئين بموته، مسائلاً السياسي والاجتماعي والفرديّ، والماضي والحاضر والمستقبل، متقنعاً مرة بالواقعي ومرة بالتجريبيّ. غير أنّ هذه القدرة على التعبير تطرح بدورها أسئلة ملحة أخرى حول حقيقة تحوّل هذه القدرة على القول إلى قدرة على التغيير في مجتمعات لا تقرأ، وأخرى تنهشها تيّارات رجعية تحاول شدّها إلى الوراء. وإذا كانت الرواية قد نجت مرّات من الموت، فإن ذلك لا يعني أنّها لا تواجه أخطاراً دائمة. لذلك سيحاول هذا الملتقى الأول لـ«بيت الرواية» أن يناقش هذه القوة والقدرة التي امتلكتها الرواية من خلال طرح هذه الأسئلة:
هل غيرت الرواية العربية المجتمعات العربية وطريقة تفكيرها؟ وهل ساهمت الرواية العربية في تشكيل الوعي العربي؟ ولماذا تخشى السّلطة الرواية والروائيين؟ ولماذا تصادرها وتمنعها وتنفيهم وتعتقلهم وتكفّرهم إذا كانت المجتمعات فعلاً لا تقرأ ولا تتأثر؟ ثم كيف واجهت الرواية العربية اللحظات السياسية العربية الراهنة كالحروب والانتفاضات والهزائم في ظل أنظمة شمولية؟ وأخيراً: ما الذي يهدد الرواية العربية اليوم ويجعلها في خطر، هل هو انحسار المؤسسة النقدية أم طغيان السلطة أم أنّ ما يهدّدها هو الرواية نفسها بظهور رواية مضادة لقيمها؟
من محاسن الملتقى أنّه لم يكن ساحة للثرثرات. فقد حُددت الجلسات بنحو الساعة، ومُنح كل متحدث سبع دقائق لتقديم مداخلته، يعقبها حوار مع الجمهور. بل إن مداخلات بعض الحاضرين في القاعة، ولا سيما الحاضرات، أغنت الموضوع بشكل جميل وذكي. إنّها واحدة من الملتقيات العربية القلائل التي احترم فيها المتحدثون اللغة العربية، بمنسوب طيب، ولم يعبثوا بقواعدها. كما حظيت الجلسة التي خصصت لضيف الشرف إبراهيم الكوني بحضور استثنائي فنّد الفكرة الشائعة عن عزوف الجمهور عن الاهتمام بالنص الأدبي المطبوع وانصرافه عن قراءة الروايات. وقدم الكوني استعراضاً وافياً لمسيرته الحياتية والأدبية، وكشفاً بالهجرات المتعددة التي مرّ بها، واللغات التي كان عليه أن يتعلمها، بدءاً من الأمازيغية في الصحراء الكبرى، مسقط رأسه، والعربية، مروراً بالروسية والبولونية والألمانية، وأخيراً الإسبانية، لغة البلد الذي غرز فيه عصا الترحال، أو العكاز، منذ سنوات قلائل.
هل يملك الروائي القدرة على تغيير مجتمعه؟ سؤال تضاربت حوله الآراء، مثلما تضاربت حول أسباب ازدهار النشر الروائي في العالم العربي، حالياً، وهل هو دليل عافية أم استسهال، وهل تكون الوفرة أشبه بصحوة موت معلن؟ طُرحت علامات استفهام، أيضاً، عن الجوائز المخصصة للرواية، في هذا البلد أو ذاك، وهل لعبت دوراً في الترويج لها وتشجيعها، أم حبست الروائيين في مدار محدد يحجر على حرياتهم، ويلبي الاشتراطات المفترضة للمانحين؟
أتيح للضيوف التجول في أرجاء مدينة الثقافة، وما تشتمل عليه من فضاءات للسينما والمسرح والكتاب وغيرها من وسائل التعبير. وهو مشروع ضخم بدأ التخطيط له منذ العهد السابق واكتمل بعد الربيع التونسي الذي يربط عليه العرب آمالهم وأيديهم على قلوبهم. ولفتت الانتباه صالة تحمل اسم الراحل حمادي الصيد، المثقف الرائد الذي أشرف على مهرجان قرطاج السينمائي للسينما العربية والأفريقية في تونس. وكان هناك معرض عن الممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي بمناسبة بلوغها الثمانين، وهي المولودة في ضاحية حلق الواد على الساحل التونسي. ثم كانت هناك جولة أخرى لتفقد حجرات بيت الرواية، بصحبة الدكتور محمد زين العابدين، الوزير الشاب للشؤون الثقافية الذي آمن بفكرة هذا البيت، وقدم ما يلزم لكي ترى النور.
تونس تحتضن أول بيت للرواية العربية
أسماء أدبية بارزة تدشن ملتقى حول قدرتها على التغيير
تونس تحتضن أول بيت للرواية العربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة