ما بين تأكيده، مساء الأحد، في حديثه لقناة «فوكس نيوز» أنه «لا وجود لخطة بديلة» عن الاتفاق النووي المبرم مع طهران، صيف عام 2015، وقوله في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض بعد اجتماعين؛ الأول مغلق والثاني ضم الوزراء والمستشارين، إنه «يأمل اعتباراً من الآن العمل على اتفاق جديد مع إيران»، يبدو أن الرئيس الفرنسي اجتاز خطوة جديدة باتجاه ترمب الذي لم يكشف عما سيفعله في الثاني عشر من مايو (أيار) بشأن الاتفاق ساري المفعول الذي ندد به بعنف أكبر.
وذهب إيمانويل ماكرون أبعد من ذلك بإشارته إلى «الأعمدة» الأربع التي يفترض أن يقوم عليها الاتفاق الجديد، والتي تشمل النشاطات النووية الإيرانية على المدى القصير والمشمولة بالقرار الموجود، والثاني فرض الرقابة على البرنامج النووي على المدى البعيد، والتأكد من خلوِّه من أي بُعد عسكري لما بعد عام 2025، والثالث وقف البرامج الصاروخية والباليستية الإيرانية وأخيرا، إيجاد «الشروط» الضرورية من أجل توفير الاستقرار السياسي في المنطقة، واحتواء النفوذ الإيراني بما في ذلك في سوريا، أو كما قال ترمب لمنعها من الوصول إلى المتوسط.
وكدليل على جدية ما توصل إليه مع نظيره الأميركي، أعلن ماكرون أن «مجموعة صغيرة» من الوزراء بدأت العمل وسوف تجتمع مجدداً «قريباً».
وسارع الأول إلى القول إنه «يعتقد أن هناك فرصة عظيمة لدينا للعمل على اتفاق أكبر»، مشدداً على أن أي اتفاق جديد يجب أن يكون «أوسع» ومبنياً على «أسس متينة».
لكن المؤتمر الصحافي المطول للرئيسين لم يتح جلاء الغشاء الذي يعتم على وجهة القرار الذي ينوي ترمب اتخاذه بشأن الاتفاق القائم، بل على العكس من ذلك، ذهب إلى اعتماد لعبة القط والفأر مع الصحافيين، بل مع ماكرون نفسه بإعلانه أن للرئيس الفرنسي «فكرة» عما ينوي القيام به. وقال ترمب: «سنرى ما الذي سيحصل بعد 12 مايو». واقتنص مناسبة المؤتمر الصحافي ليوجه تهديداً لطهران التي سبق لها أن حذرت من أن تخلِّي واشنطن عن الاتفاق سيدفعها إلى معاودة إطلاق برنامجها النووي المجمد جزئياً، واستئناف تخصيب اليورانيوم. وقال ترمب: «لن يعيدوا إطلاق أي شيء، وإذا فعلوا فسيتعرضون لمشكلات أكبر بكثير من التي عرفوها حتى الآن».
حقيقة الأمر أن الرئيس الفرنسي الذي كان يحلم بثني ترمب عن تمزيق الاتفاق النووي لا يبدو أنه نجح في مهمته، رغم كل مظاهر التكريم البروتوكولية والعلاقة الشخصية «الدبلوماسية» التي قامت بين الطرفين.
ولو قبل ترمب بالمحافظة على الاتفاق، والانطلاق من ذلك من أجل البحث عن اتفاق «تكميلي»، كما كان التصور الفرنسي سابقاً، فإن الأمور كانت بدت أقل تعقيداً. لكن الإعلان عن وأده عدة أيام سيفتح الباب أمام ردود فعل قد لا تستوعب أو يتم السيطرة عليها... وهو معنى كلام ماكرون السابق من أنه «لا خطة باء».
من هذه الزاوية، يبدو أن مقترح ماكرون بالسعي لاتفاق جديد لا يوفر مخرجاً من الأزمة التي يبدو أنها جاثمة في الأفق. ويرصد المحللون مشكلتين رئيسيتين: الأولى «منهجية» وقوامها أن ماكرون كان يفاوض ترمب باسمه «الشخصي»، ومن غير أي تفويض أوروبي أو غير أوروبي. والدليل على ذلك أن ردود الفعل التي ظهرت أمس صبَّت كلها في اتجاه التمسك بالاتفاق القائم ورفض التفاوض مجدداً بشأنه. وليس المقصود هنا بالذات ردود الفعل الروسية والصينية، وهي كانت متوقعة، بل ردود الفعل الأوروبية (ألمانيا وبريطانيا ومسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي وهم شركاء فرنسا وحلفاء الولايات المتحدة).
والمنطق السائد أن التوصل إلى اتفاق 2015 استغرق 13 عاماً من الجهود الدبلوماسية المضنية وبالتالي لا يمكن وأده والعودة إلى المربع الأول مع ما يلم به من مخاطر.
أما المشكلة الثانية، وهي ليست أقل صعوبة، فتكمن في أن ماكرون يفكر باتفاق «شامل»، بحيث لم تعد الإشكالية مربوطة فقط بالنووي الإيراني ومصيره، بل إنه يريد اتفاقاً جديداً يضم أيضاً البرامج الصاروخية الباليستية الإيرانية، وسياسة إيران الإقليمية، وتوفير الأمن والاستقرار في المنطقة، وتوفير الشروط لحل سياسي في سوريا، ومنع تمدد الهيمنة الإيرانية فيها، فضلاً عن الحرب في اليمن والوضع في العراق.
ويرى المراقبون أن «الخلط» بين المشكلات سيجعل التوصل إلى اتفاق شامل أمراً «بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً». والحال أن التوجه الفرنسي السابق كان يقوم على المحافظة على الاتفاق النووي كما هو، وفتح باب الحوار بشكل منفصل على المسائل الأخرى.
وفي أي حال، فإن مصادر فرنسية شاركت في المفاوضات التي أفضت إلى الاتفاق النووي أفادت بأن الفصل بين الملفات جاء أصلاً بناء على «إلحاح» وزير الخارجية السابق جون كيري، وبناء على تعليمات الرئيس السابق أوباما، وانطلاقاً من المبدأ القائل إن «خلط» الملفات ببعضها كان سيمنع من التوصل إلى الاتفاق.
ترجح مصادر واسعة الاطلاع في باريس أن ترمب وماكرون، في الإعلان «الغامض» عن توافقهما على البحث عن اتفاق جديد، تعمدا الإبقاء على كثير من العناصر الخاصة بما يريدانه في منطقة «رمادية».
ويعزى ذلك لسببين: إما لغياب تفاهم «حقيقي» بينهما، وإما لرغبتهما في الإيحاء بأنهما توصلا إلى اتفاق ثنائي «كسباً للوقت» والتعرف على ردود الفعل. والحال أن ردة الفعل الإيرانية كانت معروفة سلفاً، وأكد عليها مجدداً أمس الرئيس الإيراني.
ورغم ذلك، فإن باريس وواشنطن تراهنان، على الأرجح، على ضعف موقف طهران التي لم توقع على اتفاق 2015 إلا تحت ضغوط العقوبات الاقتصادية. ولذا، تعتبر العاصمتان أن طهران بحاجة لاتفاق ما مع القوى الكبرى، وأنها رغم لهجة التهديد التي يستخدمها قادتها، فإن ذلك ليس سوى من باب رفع سقف التفاوض، وبالتالي فإن المسؤولين في طهران لن يكون أمامهم من سبيل سوى قبول الدخول في مفاوضات جديدة من أجل اتفاق جديد، مخافة التعرض مجدداً لسيف العقوبات، بما ستحمله من تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلاد واشتداد الأزمات الاجتماعية مع ما سيرافقها من توتر سياسي وصراعات بين الأجنحة.
باريس... من رفض «الخطة البديلة» إلى البحث عن اتفاق شامل
ماكرون يسير خطوات إضافية باتجاه ترمب
باريس... من رفض «الخطة البديلة» إلى البحث عن اتفاق شامل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة