لم تبخل باريس في توفير الوسائل والقدرات العسكرية للمشاركة مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في الضربات الليلية التي استهدفت 3 مواقع سورية ليل الجمعة السبت. وبحسب المعلومات التي توافرت من وزارة الدفاع، فإن باريس أشركت 9 طائرات قتالية، وهي 4 طائرات من طراز «رافال» و5 طائرات من طراز «ميراج - 5»، إضافة إلى طائرتي استطلاع من طراز «أواكس»، وكلها انطلقت من مطارات موجودة على الأراضي الفرنسية، وأهمها مطار سان ديزيه.
وعبأت الأركان 5 فرقاطات متعددة المهام في مياه المتوسط الشرقي، بينها 3 من بين الأحدث الذي تملكه (فرقاطة لحرب الغواصات، وثانية للدفاع الجوي، وثالثة للتموين)، إضافة إلى السفن المصاحبة. لكن الجانب الفرنسي، رغم الحشد العسكري الكبير، اكتفى بإطلاق 12 صاروخاً من أصل أكثر من 100 صاروخ أطلقها الحلفاء الثلاثة في عمليتهم ضد المواقع السوري. غير أن الأهم أن هذه العملية وفرت لقيادة الأركان الفرنسية تجربة آخر ما أخرجته الصناعات العسكرية من الصواريخ البحرية التي يزيد مداها على ألف كلم، وأطلق منها 3، وهي المرة الأولى التي يجرب فيها هذا الصاروخ في وضعية حرب حقيقية. ووجهت باريس صواريخها نحو الموقعين القريبين من مدينة حمص. وبحسب وزارة الدفاع، فإن أحدهما مخصص لإنتاج المواد الكيماوية السامة، والثاني لتخزينها. كل هذا الحشد كان المقصود منه تحقيق هدفين متلازمين: الأول إبراز الدور الفرنسي، والثاني تمكين الرئيس إيمانويل ماكرون من تحقيق الأهداف التي أراد الوصول إليها من خلال هذه المشاركة. ورغم أن ماكرون لم ينجح في تحقيق إجماع داخلي حول مساهمة باريس في الضربات العسكرية، فإنه رغم ذلك حقق كثيراً من أهدافه.
وبحسب مصادر سياسية فرنسية، فإن ماكرون أظهر أولاً أنه «وفى بوعده»، عندما رسم «الخط الأحمر» الكيماوي في مؤتمر صحافي في قصر فرساي، وإلى جانبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولو امتنع عن المشاركة لخسر الكثير من مصداقيته. فضلاً عن ذلك، فإن الضربات العسكرية وجهت رسالة واضحة للنظام السوري، وأعادت المصداقية لـ«الخط الأحمر». يضاف إلى ذلك أن ماكرون نجح في التحول إلى «قائد عسكري»، وهي تجربته الأولى في هذا المجال. فرئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوت المسلحة، وهو الآمر الناهي في العمليات العسكرية، وهو لم «يتهرب» من تحمله المسؤولية.
بيد أن ماكرون، بعيداً عن الجوانب الشخصية، نجح في أن يبقي الرد على استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي محصوراً بما يتعلق بهذا السلاح وحده، بعكس ما كانت توحي به تغريدات الرئيس ترمب، الذي كان يريد بداية «تلقين» درس للنظام ولحلفائه من الروس والإيرانيين. فمنذ الثلاثاء، أعلن ماكرون أن الضربات هدفها فقط «الإمكانيات الكيماوية» للنظام، وليس مراكز القيادة والتحكم أو المستويات السياسية. وأكد ماكرون أنه «لا يريد التصعيد»، والمقصود به مع روسيا. ورغم المشاركة الفرنسية، فقد أعلن وزير الخارجية جان إيف لو دريان أمس أن الزيارة المرتقبة لماكرون إلى روسيا أواخر مايو (أيار) المقبل «لم تلغَ حتى الآن».
والواضح أن ماكرون أراد أن يبقي باب التواصل مع بوتين مفتوحاً، الأمر الذي يعكسه الاتصال الهاتفي بين الرئيسين أول من أمس، وتأكيد قصر الإليزيه على الحاجة لتواصل الحوار مع الطرف الروسي. ولا تستبعد المصادر السياسية أن يكون ماكرون قد لعب دوراً رئيسياً في حصر الأهداف العسكرية المستهدفة، وبالتالي منع التصعيد مع روسيا وإقناعها بعدم الرد، وتأكيد عدم استهداف مواقعها وقواعدها على الأراضي السورية، وهو ما أقرت به القيادة العسكرية الروسية.
من هنا، أهمية ما قالته وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، التي أعلنت، في بيان قرأته على الصحافة في قصر الإليزيه وإلى جانبها لو دريان، أن موسكو «اطلعت» على العملية قبل حدوثها، وهو ما نفاه رئيس الأركان الأميركي الجنرال دانفورد. وهذا التضارب يبين على الأرجح شيئاً يشبه «توزيع الأدوار» بين واشنطن وباريس.
وفي أي حال، فإن الجانب الفرنسي سعى أيضاً لطمأنة روسيا من خلال التأكيد على أن الضربات العسكرية لن تكرر. وقال لو دريان، في حديث للقناة الإخبارية «بي إف إم»، رداً على سؤال عما إذا كان ما حصل الليلة الماضية مرحلة أولى يمكن أن تتبعها مراحل: «ليست هناك مرحلة أولى. هناك مرحلة واحدة فقط»، لكنه اغتنم الفرصة لتوجيه رسالة تحذيرية للنظام السوري بقوله: «إذا تم اجتياز الخط الأحمر مرة أخرى، فستكون عندها ضربات جديدة»، بيد أنه استدرك معلناً أن النظام «فد فهم الدرس»، وأن الإنشاءات التي استهدفت تم تدميرها.
وتعتبر باريس أن ما حصل في الساعات الأخيرة يتخطى «الحالة السورية»، لأنه يتناول مصير معاهدة حظر استخدام السلاح الكيماوي، وأن غياب ردة الفعل كان سيترك الباب مشرعاً أمام من يشاء اللجوء إلى هذا السلاح. وجاء في بيان صادر عن قصر الإليزيه أن فرنسا «لا تقبل الاعتياد على استخدام الكيماوي، لأنه يشكل خطراً مباشراً على الشعب السوري، وعلى أمننا الجماعي». وتريد باريس العودة إلى مجلس الأمن الدولي من أجل إقامة «آلية دولية تكون مهمتها تحديد المسؤوليات (لدى أي استخدام للكيماوي)، ومنع الإفلات من العقاب، والتزام اليقظة إزاء أية رغبة للنظام السوري للعودة إلى هذا السلاح».
ويوم أمس، سعى كبار المسؤولين (رئيس الجمهورية ووزيري الخارجية والدفاع) إلى تبرير المشاركة الفرنسية، والتأكيد على أنها «شرعية» و«قانونية»، رغم أن استهداف سوريا لم يحصل على ضوء أخضر من مجلس الأمن، وأنه جرى يوم وصول بعثة منظمة حظر استخدام السلاح النووي. ولذا، فإن الخارجية عمدت إلى نشر وثيقة مكثفة تبين فيها أن النظام استخدم حقيقة هذا السلاح يوم السبت الماضي في مدينة دوما. وجزم ماكرون بأن «الوقائع ومسؤولية النظام السوري ليست موضع شك»، قاطعاً الطريق في ذلك على أي جدل داخلي، أو تشكيك بشرعية ما قامت به القوات الفرنسية.
ولا تعتبر باريس أن الضربات العسكرية هدفاً بذاتها، أو أنها ستكشف الأهداف الأخرى التي تسعى إليها، والتي عددها بيان الإليزيه، وكذلك فصلها وزير الخارجية، حيث تريد باريس الانتهاء من مكافحة «داعش»، وتوفير الفرصة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، خصوصاً إطلاق «آلية جماعية» من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع، وأخيراً العمل من أجل استقرار المنطقة. وقد وعد ماكرون بالعمل على ذلك في الأسابيع المقبلة، في إشارة مبطنة لزيارته للولايات المتحدة الأميركية بعد أقل من 10 أيام، ثم إلى مدينة بطرسبرغ الشهر المقبل للقاء بوتين. ويأمل الرئيس الفرنسي في أن الدفع بقوات بلاده إلى المشاركة سيعطيه «وزناً»، من أجل أن تكون لفرنسا كلمتها عند البحث عن صورة الحل في سوريا.
لكن رغم التعبير عن كل هذه النيات، وطمأنة الطبقة السياسية بأن البرلمان سيناقش قريباً المشاركة العسكرية الفرنسية، فإن ماكرون لم ينجح في توفير إجماع وطني على ما قرره، وجاءت الانتقادات من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وأحياناً من اليمني الكلاسيكي. فقد أدلى الرئيس السابق فرنسوا هولاند بدلوه، معتبراً أن ما حصل «غير كاف»، واعتبرت مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف المرشحة الرئاسية السابقة، أن باريس «أضاعت فرصة للظهور على المسرح الدولي كقوة مستقلة متمسكة بالتوازن».
وما لم تقله لوبان صراحة، جهر به النائب وزعيم تيار اليسار المتشدد جان لوك ميلونشون، الذي اتهم ماكرون بـ«التبعية لترمب ولأميركا». وقال النائب أدريان كواتننس، من حزب المتمردين الذي يقوده ميلونشون، إنه «لا يمكن (الدعوة) لاحترام القانون الدولي، بينما ننتهكه نحن أنفسنا»، في إشارة لغياب تفويض من مجلس الأمن للعمل العسكري. وقال برونو روتاييو، رئيس مجموعة حزب «الجمهوريون» في مجلس الشيوخ، إن «صوت فرنسا لا يكون مسموعاً إلا عندما يكون متفرداً، وعندما تدعو إلى الحوار». وصوب روتاييو على ماكرون لأنه «نسي أمثولات الماضي وإخفاقات فرنسا في الشرق الأوسط».
باريس تعيد الصدقية لـ«الخط الأحمر» وتأمل بالعودة إلى المسار السياسي
باريس تعيد الصدقية لـ«الخط الأحمر» وتأمل بالعودة إلى المسار السياسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة