لم يعد السؤال المطروح في باريس حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وربما بريطانيا، ستعمد إلى توجيه ضربات عسكرية ضد قواعد النظام السوري، لمعاقبته على استخدام سلاح كيماوي السبت الماضي في مدينة دوما، بل: متى وكيف؟
وسارع خبراء في باريس لطرح سؤال: ما الأهداف المفترض تحقيقها من هذه الضربة؟ المهم أن فرنسا تتحضر على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري. دبلوماسيا، من خلال التواصل شبه اليومي بين الرئيسين الفرنسي والأميركي وفي مجلس الأمن الدولي. وعسكريا من خلال تهيئة الخطط وتحضير «بنك الأهداف» واختيار الوسائل العسكرية التي ستلجأ إليها القيادة العسكرية لتنفيذ أوامر رئيس الجمهورية الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
والتأم مجلس الدفاع مجددا في قصر الإليزيه برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي سبق له أن اتصل بنظيره الأميركي دونالد ترمب مرتين خلال 24 ساعة. كذلك ثمة تواصل فرنسي - أميركي على المستوى العسكري. وإذا لم يصدر من مجلس الدفاع أي بيان عقب اجتماعه، فإن الأجواء التي رافقته والتحذيرات الصادرة عن المسؤولين الفرنسيين في باريس أو في نيويورك تصب كلها في إطار عزم فرنسا على المشاركة في الضربات العقابية ضد النظام السوري؛ خصوصا بعد أن وصلت الجهود الدبلوماسية في مجلس الأمن إلى طريق مسدود.
لكن لباريس «رؤيتها» الخاصة بشأن صيغة هذه الضربات والمواقع التي يجب أن تستهدفها، فضلا عن «الأهداف السياسية» المنتظرة منها. وفي هذا السياق، فإن الرئيس ماكرون أماط اللثام، في المؤتمر الصحافي الذي ضمه إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مساء الثلاثاء في قصر الإليزيه، عن «مفهوم» فرنسا للعملية العسكرية المنتظرة. وبحسب ماكرون، فإن المطلوب ليس تغيير النظام الذي هو «عدو الشعب السوري وليس عدو فرنسا»، وليس استهداف «الرأس» السياسي؛ بل المواقع ذات العلاقة بالهجوم الكيماوي كمراكز التخزين أو المطارات التي انطلقت منها الطائرات. والأهم من ذلك كله أن باريس «لا تريد التصعيد». ولذا، فإن الضربات «لن تستهدف حلفاء النظام» أي الروس والإيرانيين. وإذا كان ماكرون حسم الأمر بالتأكيد على أن المعلومات التي تتوفر للفرنسيين عن الهجوم على الغوطة تؤكد استخدام السلاح الكيماوي وسقوط ضحايا بأعداد كبيرة، فهذا يعني أن الشروط التي وضعتها باريس للرد على اجتياز «الخط الأحمر» قد تحققت، وبالتالي لم يعد أمام فرنسا من باب للتهرب من تنفيذ وعيدها كما حصل في المرات الأخيرة. وبما أن الرد أصبح إلزاميا ولا أحد يتوقع أن يطرح الجانب الروسي «مبادرة» كتلك التي أطلقها عام 2013، وسمحت للنظام السوري بأن يتلافى عملا عسكريا ضده، فإن باريس تتمسك بأن يكون رد الأسرة الدولية، أي الغربيين «جماعيا وشديدا» بحسب الإليزيه، عقب الاتصال الهاتفي مع ترمب. ورغم ذلك، فإن ماكرون أعطى نفسه «عدة أيام» لاتخاذ القرار الذي لم يعد تساور أحدا الشكوك حول طبيعته. ولا يتوقع الجانب الفرنسي أن يتراجع ترمب عن تهديداته، كما تراجع قبله الرئيس السابق باراك أوباما. وما زالت باريس تعتبر أنه لو لم يحصل ذلك لكان مسار الحرب في سوريا قد تغير جذريا، وما كانت موسكو - ومعها طهران - تصول وتجول في سوريا كما تفعل منذ خريف عام 2015.
ثمة تساؤلات سياسية وأخرى عملية تطرح على السلطات الفرنسية، وأولها اختلاف الرؤية مع واشنطن، وتحديدا حول مسؤولية روسيا وإيران. فالواضح أن تحذيرات ترمب من أن النظام وروسيا وإيران «سيدفعون ثمنا باهظا» تثير قلقا وتساؤلات في باريس التي تريد أن تعرف ما إذا كانت هذه التهديدات «بلاغية» أم أن هناك حقيقة رغبة أميركية باستهداف مواقع قد يوجد فيها الروس بالدرجة الأولى. وتفيد المصادر الفرنسية بأن المسؤولين في باريس يريدون أن يعرفوا «طبيعة الخطط» الأميركية، وما إذا كان ترمب ما زال عند رغبته في الخروج منها في أقرب فرصة أم لا. من هنا تأتي أهمية التنسيق «السياسي» بين الطرفين لتحاشي إشعال نزاع تكون القوتان العالميتان طرفا فيه، وأهمية التعرف على أهداف الإدارة الأميركية باعتبارها الطرف الغربي الوحيد المؤثر في الملف السوري.
تستطيع القوات الفرنسية، من الناحية العملية، تنفيذ ضربات جوية أو صاروخية على المواقع السورية بشكل مستقل، بحسب تأكيدات رئيس الأركان الجنرال فرنسوا لوكوانتر في حديث إذاعي لراديو «أوروبا رقم واحد». وحفلت الوسائل الإعلامية على أنواعها بتقارير وتحليلات حول «سيناريوهات» التدخل الفرنسي، الذي يفترض أن يأمر به رئيس الجمهورية. ويفهم منها أن باريس قادرة على استخدام طائرات «رافال» التي يمكن أن تنطلق، إما من القواعد الجوية على الأراضي الفرنسية وإما من قواعد في الخارج، حيث تستفيد باريس من تسهيلات. وفي الحالة الأولى، يتعين أن تزود هذه الطائرات بالوقود في الجو ذهابا وإيابا.
أما الاحتمال الآخر، فهو إطلاق صواريخ من البحر. وتمتلك القوات الفرنسية صواريخ بحرية يصل مداها إلى ألف كيلومتر، ويعتبرها الطرف الفرنسي «أكثر كفاءة» من صواريخ «توماهوك» التي أطلقتها المدمرات الأميركية العام الماضي ضد مطار الشعيرات. وتستطيع الفرقاطات الفرنسية التي تحمل كل منها 16 صاروخا من هذا الطراز تنفيذ المهمة التي تكلفها بها القيادة السياسية. ولباريس حاليا في مياه المتوسط الشرقي الفرقاطة «أكيتان» متعددة المهام، التي تعرضت نهاية الأسبوع الماضي لتحليق طائرات حربية روسية مسلحة من طراز «سي يو 24»، و«سي يو 30»، وصفتها المصادر العسكرية الفرنسية بأنه «عدواني وخطير». ولا يستبعد أن يكون هذا التحليق بمثابة «تحذير» لفرنسا.
باريس جاهزة للعمل العسكري وتنتظر من واشنطن «رؤية سياسية»
باريس جاهزة للعمل العسكري وتنتظر من واشنطن «رؤية سياسية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة