اسمحوا لنا أن نتوقف قليلاً عند الحسناوات الروسيات اللواتي هاجرن إلى فرنسا بعد الثورة البلشفية أو قبلها بقليل بحثاً عن الأمان والاطمئنان، ثم بحثاً عن الحب، والحرية، والشهرة، والعباقرة. ومعلوم أن باريس كانت حلم كل الحسناوات السلافيات. بل وحلم كل الناس، بمن فيهم الطلاب العرب وغير العرب. باريس أسطورة الأساطير. هذا ما تسرده لنا كتب عدة نثرثر على هامشها الآن بكل حرية. أولها كتاب الباحثة الفرنسية دومنيك ديزانتي عن «ايلزا وأراغون. العلاقة الغامضة». وثانيها كتاب الباحث برتران ماير ستابلي عن غالا وسلفادور دالي بعنوان: «من هي غالا الحقيقية يا ترى؟»، وثالثها كتاب فلاديمير فيدوروفسكي عن «الحسناوات الروسيات» إن لم نقل الملهمات القويات الشخصية اللواتي سحرن أدباء فرنسا الكبار ومفكريها؛ فوقعوا في شباكهن. ويبدو أن بعض الجميلات الفاتنات لعبن دوراً سياسياً، أو حتى مخابراتياً لصالح الأجهزة السوفياتية. وليس سراً أن إيلزا التي سلبت قلب أراغون وعقله كانت متهمة من قبل الأوساط الفرنسية بأنها عميلة روسية. والواقع أنها هي التي أدخلت زوجها في الحزب الشيوعي بعد أن كان سريالياً حراً لا يعرف معنى الانضباط ولا التحزبات الضيقة... وهي التي جعلته يوقّع على بيان الانضمام إلى المعسكر السوفياتي ويؤيده بشكل أعمى على طول الخط. من قال إن المرأة ليست قادرة على كل شيء؟ إنها تقودك من أنفك إلى حيث تريد أو لا تريد عندما تقع في هواها. ويبدو أن أحدهم غير طائفته أو مذهبه أكثر من مرة بسبب الحوريات والغزالات...
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ولا يزال هذا الشخص هائماً على وجهه في الطرقات والدروب. ولا أحد يعرف لماذا؟ ولا إلى أين؟ ولا أي منقلب ينقلبون. أجمل حياة في العالم! بل وحتى جان جاك روسو عندما رأى «مدام دو فارين» صعق بجمالها فغير مذهبه فوراً من بروتستانتي إلى كاثوليكي، قائلاً عبارته الشهيرة: إن مذهباً يعتنقه أمثالها سوف يقود حتما إلى الجنة!
على أي حال، فالشيء الذي يلفت الانتباه بعد الاطلاع على هذه الكتب هو أن معظم عباقرة فرنسا في مطلع القرن العشرين أو منتصفه كانوا متعلقين عاطفياً بروسيات. فهناك أولاً «أولغا» زوجة بيكاسو. وهناك ثانياً «غالا» صاحبة بول إيلوار قبل أن توقِع سلفادور دالي في شباكها. وهناك بالطبع «إيلزا» التي ألهمت أراغون ديوانه الشهير: مجنون إيلزا. وقد أصبحت قصتهما شهيرة في الأوساط الأدبية إلى درجة أنه يمكن مقارنتها بقصة مجنون ليلى في الأدب العربي. وهناك «ليديا» التي ألهمت الفنان الكبير ماتيس. وهناك «مايا» التي سلبت رومان رولان قلبه إلى درجة أنه لم يتورع عن تقديم الولاء والخضوع لجوزيف ستالين! رومان رولان يفعل ذلك، هو المشهور بالاتزان ورجاحة العقل... ثم ينبغي ألا ننسى زعيم الوجودية الفرنسية جان بول سارتر. فقد كانت له مغامرات كثيرة، من بينها قصة حب مكتومة أو شبه سرية مع حسناء روسية تدعى «لينا زونينا». وهي التي أهداها كتابه الشهير الذي يشبه السيرة الذاتية: الكلمات. لكنه لم يتجرأ إلا على ذكر الحرف الأول من اسمها لكي لا ينصبّ عليه غضب سيمون دو بوفوار. فقال في الإهداء المختصر والغامض: «إلى السيدة ز…»، وكثيراً ما تخبط المعلقون والنقاد في شرح هذا الحرف «ز»، ولمن يرمز دون أن يتوصلوا إلى نتيجة. ذلك؛ أن سارتر نجح في المحافظة على سرية العلاقة إلى أقصى حد ممكن، ولم يكن يلتقي بعشيقته الروسية إلا على شواطئ بحر البلطيق، أو في زوايا العاصمة السوفياتية عندما كان يزور موسكو فتكلف بمرافقته رسمياً وكأن شيئاً لم يكن…
غالا وبول إيلوار
عندما وصلت غالا إلى باريس عام 1918 لكي تلتقي ببول إيلوار بمحض الصدفة وتستقر في فرنسا إلى الأبد، كانت البلاد خارجة للتو من حرب مدمرة. كانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها للتو. وهي التي تدعى بالحرب الكبرى، أو حتى المجزرة الكبرى. وقد شارك فيها إيلوار نفسهن وجاء بالبزة العسكرية إلى الكنيسة لكي يتزوج من تلك الفتاة الروسية التي أحبها. لكنه كبقية أبناء جيله، كان قد خرج محطماً من تلك المذبحة. فنادراً ما كان يخلو بيت فرنسي من قتيل أو مفقود أو جريح أو معاق. ويمكن القول، إن الحركة السريالية التي انفجرت مباشرة تقريباً بعد الحرب العالمية الأولى بزعامة أندريه بريتون لم تكن إلا رد فعل عنيفاً على تلك الحرب ومآسيها. لقد كانت صرخة احتجاج عارمة ومن أقوى ما يكون. فقد أراد الشباب الفرنسي في تلك الفترة أن يروّح عن نفسه، أن يتنفس الصعداء، أن ينسى مآسي الحرب وما رآه من فظائع في ساحة الوغى. فلم ير أمامه من وسيلة إلا أن ينخرط في حركة فنية عبثية وتحررية في آن معاً. إنها لا تقل عبثية عن الحرب الكبرى نفسها. وعبثية الفن هنا ينبغي أن تكون على مستوى عبثية الحرب ذاتها، وإلا فإن شحنة الحرية لن تكون كافية. لهذا السبب جذبت السريالية معظم فناني فرنسا وشعرائها في تلك الفترة. فقد كانت تلبي حاجة تاريخية آنذاك تماماً كالفلسفة الوجودية لسارتر بعد الحرب العالمية الثانية. ألا تتيح السريالية للفنان، شاعراً كان أم أديباً، أن ينسى نفسه ولو قليلاً، أن يسرح في الحلم، أن يشطح في متاهات الخيال؟ ألا تتيح له أن يتحرر من رقابة العقل الواعي القمعي على العقل اللاواعي الباطني؟ ألا تتيح له أن يرتفع من مستوى الواقع البائس المحطم إلى عوالم ما فوق الواقع الوردية؟ وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية. نعم، لقد لبّت السريالية حاجة تاريخية؛ لأنها جاءت في الوقت المناسب وساعدت المبدعين الفرنسيين على التحرر من أنفسهم، من الإكراهات التي تضغط عليهم، من جحيم الواقع الذي لا يرحم، من كوابيس الحرب الرهيبة. وهكذا أطلقوا لطاقاتهم الإبداعية العنان لكي تتفجر في الاتجاهات كافة... وتركوا اللغة تتفجر أيضاً وتتحرر من عقالها، أي من معانيها القاموسية أو الشرعية لكي تكتسب معاني أخرى فوضوية أو جنونية، لكي تكسر القوقعة. نعم، لقد تركوا اللغة تتجاوز نفسها، وتعبر ليس فقط عن المعنى، وإنما أيضاً عن اللامعنى والعبث واللامعقول، بل وحتى الجنون... ورأوا أن الواقعية الحقيقية هي ألا تكون واقعياً على الإطلاق! وما هو هذا الواقع المجرم الذي ينبغي احترامه؟ فهل الحرب المدمرة القذرة واقعية أم معقولة أم ذات معنى؟ هل يمكن التعبير عن عبثية الحرب بلغة منطقية، قاموسية، محافظة؟ ألا ينبغي على الفن أن يعبر عن جنون الواقع بلغة أكثر جنوناً منه؟ من هنا ظهر أيضاً موضوع تفجير اللغة الذي انتقل إلى ساحة الشعر الحديث في الستينات، وأنتج بعضاً من أجمل الدواوين الشعرية العربية. أقول ذلك وأنا أفكر «بأغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس مثلاً. كل الشعر العظيم نتج من هذه الحركة التحريرية الهائلة: تفجير اللغة، تفجير الشعر، تفجير التفجير ذاته. ثم بالأخص تفجير اللاهوت والكهنوت. وكل ذلك من خلال مغامرة استكشافية كبرى في أرض بكر لم تطأها قدم قط. ومن خلال لغة ابتكارية ومجازات إبداعية خارقة غيرت خريطة الشعر العربي، ودشنت مساحة جديدة من الحرية. بهذا المعنى؛ فكل الحداثة الشعرية العربية خرجت من معطف أدونيس.
هذه هي بعض الأسباب والبواعث العميقة التي أدت إلى انطلاقة الحركة السريالية في العشرينات من القرن الماضي. ثم توسعت فيما بعد وانتشرت حتى أصبحت حركة فنية بحجم العالم كمعظم الحركات الأصيلة التي ظهرت في عاصمة النور والحرية: باريس. لكن السريالية تطرفت فيما بعد في سلوكها وتعبيرها حتى وصلت لدى الأتباع الصغار الذين لا يبدعون شيئاً إلى درجة مقيتة من التهتك والغثاثة والتكرار. أياً يكن من أمر، فإن غالا ألهمت قريحة بول إيلوار بعضاً من أجمل الأشعار:
أحبك لأجل كل النساء اللواتي لم أتعرف عليهن
أحبك لأجل كل الأزمان التي لم أعشها
أحبك لأجل رائحة البحر والخبز الساخن
أحبك لأجل الثلوج التي تذوب والبراعم الأولى
أحبك لأجل الحب
...
هكذا دخل إيلوار وغالا في حلقة السرياليين وانضما إلى أندريه بريتون ولويس أراغون وفيليب سوبول ورينيه شار وآخرين كثيرين. وهكذا، شكلت الحركة السريالية الطليعة الإبداعية المثقفة في فرنسا آنذاك، تلك الطليعة التي تريد تغيير الحياة. وأصبح أندريه بريتون يتصرف بصفته رئيس حركة أو حتى زعيم عصابة. وأصبح حي المونبارناس في باريس بكل مقاهيه مركزاً للحركة الجديدة التي تريد أن تكتسح العالم.