كتاب روسي يدعو إلى «الشراكة» عبر حوار الحضارات

تحولات المستقبل لا بد أن تنطلق من القيم الإنسانية

كتاب روسي يدعو إلى «الشراكة» عبر حوار الحضارات
TT

كتاب روسي يدعو إلى «الشراكة» عبر حوار الحضارات

كتاب روسي يدعو إلى «الشراكة» عبر حوار الحضارات

في كتابه «حوار الحضارات... روسيا والعالم الإسلامي»، يدعو الباحث الروسي أنور بيك فاضليانوف الدول صاحبة الحضارات الكبرى إلى أن تلعب دوراً محدداً في مقاومة الأنماط الخطرة في الثقافات والقضاء على مفاهيم المواجهة والاغتراب، وتعزيز الحوار والحلول الوسط، لافتاً إلى أنها جهود يمكن أن تتممها الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية المعنية بمناقشة عملية بناء نظام إدارة عالمي يكون معيار النجاح فيه القدرة على استيعاب مصالح الدول المتوسطة والصغيرة، باعتبارها ضرورة ملحة وموضوعية.
وهو يرى أن فرص نجاح مثل هذا المشروع العالمي ستبقى غير واقعية ما لم تأخذ جميع الأطراف في اعتبارها وتنطلق من القيم الإنسانية العامة وجوهر التحولات الجارية، من أجل إرساء توجه عالمي جديد يشق طريقه عبر الاشتباكات الواقعة بين مختلف المصالح، مؤكدا أنه من المهم استيعاب التحولات الجارية لفهم المستقبل، كما أن أول تحرك واقعي يجب أن يبدأ بالتقييم الموضوعي والوعي بما يحدث في الواقع، عندها فقط يمكن أن تصبح الخطوات والقرارات قابله للتنفيذ. ويشير إلى أن كل ذلك يتطلب رؤية جديدة لكل ما يحيط بنا، ما يفتح الباب أمام حل القضايا الشائكة دون تجاهل لمصالحنا أو لمصالح الآخرين أيضا.
ويتسم الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية في الرياض وقدمها المصري محمد نصر الدين الجبالي والسعودي بدر بن عبد الله العكاش، بطابعه الشامل، إذ استخدم فاضليانوف مواد تنتمي لعلوم السياسة والجيوسياسة والصراعات والأنثروبولوجيا الاجتماعية والتاريخ والاقتصاد، وتناول عدداً من الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، رأى أن لها أهمية قصوى في إرساء السلم في العالم، وتوطيد العلاقات الثنائية بين الدول، والتقريب بين الشعوب، وذلك من أجل بحث قضية حوار الحضارات بين بلاده من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى.
وقام فاضليانوف الذي عمل سفيرا لروسيا في كل من السعودية والعراق والكويت والسودان بتتبع الصلات التاريخية التي تربط بين هذه الدول وروسيا، محدداً نقاط الالتقاء والاختلاف بينهما، من أجل التركيز على الأولى وتطويرها، ومحاصرة الثانية والحد من تأثيراتها.
ويحاول الكتاب، الذي يتكون من ثلاثة أجزاء، تفسير التحولات الدولية المختلفة والنظام العالمي الجديد بحثاً عن فهم أفضل للعالم الإسلامي وطبيعة مجتمعاته، والتوصل إلى تفاهم متبادل مع البلدان الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد أخذ في اعتباره تشابه الأساليب التي يتم التعامل بها مع قضايا مكافحة الإرهاب الدولي والاتجار بالمخدرات والجرائم الدولية والتطرف والفقر والأوبئة وغيرها.
ويرى المؤلف أن حجم هذه التحديات يحتم على روسيا ودول العالم الإسلامي، فضلا عن البلدان الغربية، تقوية ودعم المؤسسات المشتركة والهيئات الإقليمية وأهمها الأمم المتحدة ودورها المركزي والتنسيقي، لذا سعى إلى البحث عن إجابات لأسئلة مهمة في حياتنا المعاصرة مثل: كيفية توحيد الناس حول أهداف مشتركة بغض النظر عن فروقهم الثقافية، وضمان توفير الظروف الملائمة لإحداث التنمية لكل شعوب العالم بالاستفادة قدر الإمكان من الوسائل غير السياسية، كما أن هناك فرصة، حسب اعتقاده، لحدوث تقارب في المواقف السياسية حول العديد من القضايا الدولية في إطار احترام حقوق الإنسان المعلنة في مواثيق الأمم المتحدة، وكذا القواعد والمبادئ المنظمة للقانون الدولي، ورفض أي معايير مزدوجة بما في ذلك ما يتعلق بسياسة مكافحة الإرهاب واحترام القيم الإنسانية التقليدية والمقبولة من مختلف الديانات العالمية.
إلا أن هناك أحداثا كثيرة جرت في مناطق مختلفة من العالم، وأظهرت، طبقا لفاضليانوف، سيطرة مظاهر العنصرية والإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب، مما يستدعي بذل جهود سياسية أكثر لمقاومة انتشار الصدامات والأزمات، وضرورة إرساء العلاقات المتبادلة بين سكان العالمين الإسلامي والغربي، حيث يفتقد كل منهما إلى المعلومات الكافية عن الآخر وتقاليده ونمط حياته. وبالرغم من الانتشار الواسع لوسائل الإعلام وثورة المعلومات والإنترنت فإن معرفة كثير من سكان الغرب عن تاريخ العالم الإسلامي وتنوع ثقافاته وعاداته تظل في حدها الأدنى، فالكثير من سكان أوروبا وأميركا الشمالية لا يستطيعون التمييز بين إندونيسيا وماليزيا، ويعتقدون أن دارفور (في غرب السودان) هي السودان نفسها.
ويعتقد فاضليانوف أن عملية إرساء الثقة المتبادلة بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية يجب أن تبدأ من الحوار، وتعرف كل طرف على الآخر. لكنه يستدرك بالقول: «للأسف نسمع لدينا وفي أماكن أخرى أصواتا تنادي بعدم جدوى هذا الحوار، وكونه غير مفيد انطلاقا من المبدأ القائل، المعرفة تولد الشكوك، لكن وقبل كل شيء يجب أن نتعلم كيف نحلل أسباب وطبيعة الصراع الناشئ في المنطقة محل الأزمة. ويجب أن نعرف ما إذا كانت هناك مبررات قوية لاعتبار هذا الصراع أو غيره في عداد الصراعات الثقافية أو الإثنية أو الدينية؟ وفيم تكمن خلفيته؟ وسيكون من الجيد أن نحدد الطرف الذي يواجه الآخر في هذا الصراع. فأي صراع أو نزاع هو عبارة عن صدام بين دوافع سياسية ومصالح اقتصادية وغالبا ما يكون بين أصحاب هذه الدوافع والمصالح سواء كانت جماعات منفصلة أو أفراد تتغير مصالحهم ودوافعهم مع الزمن. أما الديانات والثقافات فهي قيم عظيمة تتسم بالديمومة».
وخصص فاضليانوف الجزء الأخير من الكتاب للحديث عن اهتمام كل من روسيا والعالم الإسلامي بتوسيع وتنويع العلاقات الاقتصادية وغيرها، ورأى أن انضمام روسيا إلى منظمة التعاون الإسلامي يمثل عاملاً مساعدا إضافيا لتحقيق ذلك، فضلا عن اعتماد السفير الروسي في القاهرة ممثلاً مفوضاً لدى جامعة الدول العربية.
الكتاب يتضمن أيضاً تحليلاً شاملاً للجوانب التطبيقية في التعاون مع الدول الإسلامية في المجالات التجارية والاقتصادية والبنكية والاستثمارية أخذاً في الاعتبار النمو الكمي والنوعي للهياكل المالية في العالم كله، حيث شارك المؤلف في العديد من المشروعات والبرامج بهدف صياغة سياسات مشتركة للتعاون المتبادل المستقبلي في إطار من الشراكة.
وتتضمن أجزاء الكتاب وفصوله دراسات لبعض جوانب الحوار والشراكة بين الحضارات والتوجهات المهمة لتجسيدها على أرض الواقع، كما تتناول التحولات والأحداث الهامة لفهم السياسة العملية لروسيا والنظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب حيث يشهد القرن الحادي والعشرون بروزاً لحضارات الصين والهند وغيرها. ويدعو المؤلف هنا إلى التركيز على القضايا المرتبطة بتنظيم «الشراكة» ودعم وضمان انتهاج سياسة حضارية سعياً وراء كل الأهداف التي يمكن تحقيقها على أرض الواقع.
وحول الدور الروسي في القضايا الراهنة التي يشهدها العالم، وخصوصا المنطقة العربية، يقول فاضليانوف إن «روسيا تأخرت لفترة طويلة عن الاهتمام بقضية علاقتها الهامة والضرورية مع العالم الإسلامي. لكن في الوقت الحالي لا توجد دولة واحدة يمكنها أن تزعم أنها لا تتحمل المسؤولية عن سياسات ومصير العالم، أو تتنصل من واجباتها أمام مجتمعاتها. ولا يمكن للدول، خاصة ذات الحضارات الكبرى أن تتذرع بخصوصية قيمها الحضارية، والحرص على الحفاظ عليها، فتمتنع عن دعم «الشراكة»، كما أنه لا يمكن لها أن تتنصل من مسؤولياتها عن الكوارث البيئية والاقتصادية والإثنية والدينية، فالجميع مسؤولون عن حالة انخفاض مستويات المعيشة للحضارة الإنسانية ككل.
التهديدات العالمية بطبيعتها، والتي تواجهها الدول تتطلب، من وجهة نظر فاضليانوف، تحويل قاعدة «الحوار» السياسية إلى أولوية لها، خاصة، وأننا في عصر يشهد خلاله تاريخ البشرية تحولات جذرية، ما يُصَعِّب الاعتماد على التجربة التاريخية، لأن الفترة الحالية من عمر الدول ليست شبيهة بما سبقها، ويجب على الحكومات أن تبذل جهوداً كبيرة للتأقلم مع الواقع المتغير بسرعة حتى لا تتعرض الشعوب لكوارث شديدة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.