إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

بعد توقيف الزعيم الانفصالي بوتشيمون... واحتجازه في ألمانيا

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة
TT

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

بعد نصف سنة على انطلاق «المغامرة الانفصالية» الكتالونية التي شكلّت أكبر تهديد لوحدة الدولة الإسبانية في تاريخها الحديث، يبدو المشهد محزناً في هذا الإقليم المتوسطي الذي منذ عقود يستقطب اهتمام الفنانين والمبدعين، ويجذب السيّاح والتجار وهواة الرياضة من أرجاء المعمورة. كارليس بويدجيمونت، الزعيم الانفصالي الذي أعلن قيام «الجمهورية الكتالونية» متحديّاً حكومة مدريد وقرارات المحكمة الدستورية، يقبع الآن في أحد السجون الألمانية إلى جانب مهرّبي مخدّرات ومغتصبين ومرضى نفسانيين بانتظار أن يبّت القضاء الألماني طلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية. ومن شبـه المؤكد أن تنتظره عقوبة بالسجن لسنوات بتهمة التمرّد والعصيان المدني والتحريض على الفتنة. أما بقيّة الزعماء الذين قادوا «المغامرة الانفصالية» فليسوا بحالٍ أحسن من حال رئيسهم الذي فرّ متخفيّاً إلى بلجيكا، ومن هناك راح يتنقّل في العواصم الأوروبية محفوفاً برموز الحركات الانفصالية في أوروبا. ومعظم هؤلاء الآن إما في السجون قيد المحاكمة، أو اختاروا الفرار من وجه العدالة الإسبانية التي يبدو أنها السلاح الوحيد في متناول حكومة مدريد المركزية... المستمرة في جمودها السياسي إزاء ما يعتمل في أغنى أقاليم إسبانيا.
يرى متابعو الشأن السياسي في إسبانيا أن الملاحقات القانونية التي يخضع لها القادة الكتالونيون الانفصاليوّن تحول دون تكليف أي منهم تشكيل الحكومة الإقليمية المرتقبة بعد الانتخابات الأخيرة التي فازت فيها الأحزاب المطالبة بالاستقلال بغالبية بسيطة. ومن ثم، فمن دون تشكيل الحكومة الإقليمية يستحيل إبطال مفاعيل المادة 155 من الدستور الإسباني التي لجأت إليها سلطات مدريد لتعليق العمل بنظام «الحكم الذاتي» في كتالونيا، ووضع المؤسسات المحلية في الإقليم تحت الإشراف المباشر للسلطات الفيدرالية المركزية.
وليس هناك ما يشير حتى الآن إلى أن الأحزاب الانفصالية مستعدة لتقديم مرشّح لا يخضع لملاحقة قانونية كي يشكل الحكومة الجديدة؛ تمهيداً لمحاولة الخروج من الطريق المسدودة الذي وصل إليه الصدام بين مدريد وبرشلونة. وبعد شهرين على الانتخابات المحلية الأخيرة في كتالونيا يتبدّى يوماً بعد يوم أن البرنامج الوحيد للقوى الانفصالية في هذه المرحلة هو الإصرار على المواجهة، أياً كان الثمن، والتهميش الكامل والمنتظم للمعارضة البرلمانية التي فازت بنسبة 48 في المائة من المقاعد، بل وحصلت على أصوات شعبية أكثر مما حصلت عليه الأحزاب الانفصالية.
- حسابات الانفصاليين
في حسابات الانفصاليين، أن استمرار المواجهة مع مدريد يعزّز صورة «الضحيّة» التي يراهنون على استغلالها لزيادة شعبيتهم واستدرار الدعم الخارجي لمن «يدافعون عن أنفسهم في وجه قمع الدولة المركزية». إلا أن الاستطلاعات الأخيرة تبيّن أن التأييد للقوى الانفصالية إلى تراجع، بينما تتسع دائرة المعترضين على إدارة الأزمة داخل هذه القوى التي تشرذم قادتها بين معتقلٍ وفارٍ من العدالة بعيداً عن القواعد الشعبية. وهذه الأخيرة، تراقب بقلق تراجع النمو الاقتصادي وركود الحركة السياحية وارتفاع معدلات البطالة... بعد خروج نحو أربعة آلاف من المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية من كتالونيا. وفي المقابل، لا تبدي حكومة مدريد أي جاهزية للانفتاح على الحوار، متشبثّة بمشروع سياسي قوامه البقاء في السلطة بأي ثمن، ومحاصر بسلسلة من فضائح الفساد وتراجع حاد في الشعبية.
بعض الأصوات المعتدلة داخل المعسكر الانفصالي بدأت تدندن ترنيمات «انفتاحية» من باب التمهيد لمرحلة جديدة، وتطويق «المنحى الانتحاري» الذي دفعت باتجاهه بعض القوى المتطرفة. إذ أعلن كارليس رييرا، الناطق بلسان الحزب الذي يتزعمه الزعيم الانفصالي الفار كارليس بوتشيمون، أمام البرلمان يوم الخميس الماضي «أن المسرى الانفصالي انتهى»، داعياً القوى الانفصالية التي خاضت الانتخابات الأخيرة متحالفة إلى «التحلّي بالواقعية والشجاعة وإعادة رسم استراتيجية جديدة». مثل هذه التصريحات الصادرة عن قيادي انفصالي بارز في الحزب الوازن، شعبياً وفي البرلمان، تحمل المراقبين على التفاؤل إذا ما تبيّن أنها ليست من باب كسب الوقت والتقاط الأنفاس بهدف إعادة تنظيم الصفوف تأهباً لمرحلة جديدة من المواجهات مع الحكومة المركزية - المترنّحة منذ تشكيلها - على قاعدة ما تيّسر لتمرير المرحلة، والخروج من الطريق المسدودة الذي أفضت إليه الانتخابات العامة الأخيرة.
لكن بعض المراقبين المتابعين عن كثب الوضع في كتالونيا يرون أن النواة الأساسية للقوى الانفصالية، التي تضّم أحزاباً من اليمين إلى أقصى اليسار التروتسكي - أي البورجوازية المالية والنخب الفكرية - كانت تدرك منذ البداية أن قيام جمهورية مستقلة، معترف بها دوليّاً، شبه مستحيل في المرحلة الراهنة. ذلك أن في صميم هواجس الاتحاد الأوروبي، الذي تشكّل إسبانيا إحدى ركائزه السياسية والاقتصادية والجغرافية، إفلات الحركات القومية العديدة في دياره من عقالها.
وعلى هذا الأساس يرجّح مراقبون أن يكون الهدف الحقيقي من «المغامرة» في فصلها الأول هو دفع الحكومة المركزية الضعيفة، والتي غالباً ما خانها «الحامض النووي الفرنكي» (نسبة إلى ديكتاتور إسبانيا السابق الرحل الجنرال فرانشيسكو فرنكو) النائم في خلاياها، إلى اللجوء للقمع الأمني والاعتقالات والملاحقات القضائية. وهذا ما يؤدي إلى استنهاض القواعد الشعبية المتردّدة حيال تأييد الانفصال، والنيل من صدقية الديمقراطية الإسبانية، تسهيلاً لاستقطاب التعاطف الخارجي الذي افتقدته المغامرة بعد الأسابيع الأولى.
بعض المحللين النافذين في أوساط النخب الانفصالية يلمحّون إلى أن بوتشيمون ورفاقه قد أدّوا دورهم. وبالتالي، فإن المرحلة التالية تقتضي تولّي قيادات جديدة قادرة على استثمار ما تحقق في الجولة الأولى، وبخاصة ارتفاع نسبة المؤيدين للانفصال إلى النصف تقريباً، بعدما كانت تراوح عند 30 في المائة خلال السنوات القليلة الماضية. وهؤلاء يدعون إلى الإسراع في إعادة تنظيم المعسكر الانفصالي حول تفاهمات أفقية ثابتة بين أطيافه المتباعدة عقائدياً واجتماعياً قبل أن يستقرّ الإحباط في أوساط القواعد الشعبية، وتتشكل تحالفات جديدة تمليها ضرورة رأب الصدع الاجتماعي العميق ووقف النزف الاقتصادي المتسارع، الذي بات يرخي بثقله على المشهد الكتالاني منذ أواخر العام الماضي.
- بوادر تفاؤل...
ويبدو الآن أن الجناح المتطرف الذي يقوده بوتشيمون، والذي يأخذ عليه بعض حلفائه «انسلاخه» عن الواقع السياسي والاجتماعي، قد بدأ يفقد سيطرته الحصرية على القرارات التي توجّه الدفّة الانفصالية. ومن البوادر التي تحمل على التفاؤل بانفراجات ممكنة خلال الأسابيع المقبلة، تعاقب الدعوات الصادرة عن الاشتراكيين الكتالونيين وبعض الأصوات المعتدلة في صفوف اليمين والوسط إلى تشكيل «حكومة إنقاذ» ائتلافية تستعيد نظام «الحكم الذاتي»، وتضع «خريطة طريق» مشتركة لحلحلة الأزمة، مع ملاحظة أن هذه الدعوات لم تلقَ الرفض الفوري المعتاد من القوى الانفصالية.
في هذا السياق، يذكّر البرلماني الاشتراكي والمحلل البارز سانتي فيلا بما كان يردّده المؤسس الأول للمشروع الأوروبي جان مونّيه بأن «لا شيء ممكناً من غير الأشخاص، ولا شيء دائماً من غير المؤسسات»، معتبراً أن إنقاذ كتالونيا من محنتها بات مستحيلاً خارج المؤسسات الديمقراطية الوطيدة، وبمعزل عن قيادات حكيمة ومنزّهة عن المصالح الحزبية أو الشخصية.
بيد أن المعضلة الأساسية المستعصية في الأزمة التي تعاني منها كل من كتالونيا وإسبانيا راهناً، تكمن في انحباس الأطراف داخل دوّاماتها وشعاراتها الموروثة، وفي عجزها عن أدنى مستويات التواصل حول مسلمّات التعايش والبديهيات الديمقراطية.
ولعلّ أكثر ما يستوقف المراقب للمشهد السياسي والاجتماعي الإسباني، منذ عقود، هو أن البلد الذي أدهش العالم بنضج تجربته الانتقالية من حكم ديكتاتوري مديد إلى نظام ديمقراطي عصري وراسخ، وكان للكاتالونيين الدور الأبرز في معادلة استقراره ونموه السريع والمذهل، يغرق اليوم في أوحال أزمة عبثية يدرك الجميع أن المنتصر فيها خاسرٌ.
وهنا أشير إلى أنني كنت أجريت عام 2014 حواراً مطوّلاً مع رئيس الوزراء الإسباني الأسبق ادولفو سواريث - الذي قاد عملية تفكيك ديكتاتورية الجنرال فرنكو التي استمرت 35 سنة، ولعب الدور الأساس في إرساء قواعد النظام الديمقراطي - قبل أشهر من وفاته. وخلال الحوار سألته عن سر نجاح تلك التجربة الفريدة في التاريخ الحديث، التي أصبحت مادة تُدرّس في العديد من كليات العلوم السياسية في العالم، فأجاب سواريث: «انتقلنا من القانون إلى القانون بواسطة القانون». وهو ما يعطي الانطباع أن المأزق الكتالوني اليوم هو ثمرة إصرار الانفصاليين على تحقيق أهدافهم خارج الأطر القانونية التي شاركوا في وضعها وارتضوها، وإصرار حكومة مدريد على استخدام القانون لمآرب غير قانونية.
- سمات «الأسرة» الإسبانية
من الشائع في المُتخيّل الاجتماعي الإسباني أن أهل كتالونيا يمثّلون الاعتدال في المسلك والحصافة في التعاطي مع الشأن العام والحرص على الاستقرار بأي ثمن، بعكس الباسك المعروفين بتطرّفهم ونزوعهم إلى العنف، أو الأندلسيين الموصوفين بالمبالغة والإفراط.
ولعلّ في هذه الصفات المتأصلة عند الكتالونيين، إضافة إلى شغفهم بالتجارة واتقانهم أساليبها، ما يساعد على فهم الأسباب التي أبقت هذه المقاطعة في منأى عن الصراعات والاضطرابات الكبرى التي شهدتها إسبانيا منذ القرن التاسع عشر، لتغدو اليوم الإقليم الأغنى من حيث القوة الاقتصادية الخامسة في الاتحاد الأوروبي. إلا أن الحركة الانفصالية التي تتعاقب فصولها على المشهد السياسي الإسباني منذ خريف العام الماضي، وتتدرّج وقائعها بين انقطاع «خيط الحوار» السياسي والعصيان المدني والتمرّد على المنظومة القانونية، تدفع إلى الحذر في التسليم بصواب الأفكار الموروثة، وتنصح بالتروّي عند مقاربة هذه الأزمة، والتكهّن بتداعياتها وتشخيص مخارجها.
لا شك في أن اعتقال بوتشيمون قبل أيام على يد أجهزة الأمن الألمانية، وإيداعه السجن بانتظار البتّ في طلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية، شكّل ضربة قاسية للحركة المطالبة باستقلال كتالونيا. غير أنه، من ناحية أخرى، فتح الباب أيضاً على احتمالات التصعيد التي ما زالت تتصدّر برنامج الانفصاليين رغم ظهور بعض بوادر التصدّع في صفوفهم خلال الأسابيع الأخيرة، إثر الدعوات الخجولة – الآنفة الذكر – لفتح قنوات للحوار مع القوى السياسية الأخرى، وإعادة النظر في المسار الصدامي الذي انتهجته الأحزاب والقوى المطالبة بالاستقلال حتى الآن.
- ملاحقة استخباراتية
تفيد معلومات موثوقة بأن أجهزة الاستخبارات الإسبانية كانت تتعقّب بوتشيمون منذ فراره إلى بلجيكا، وإنها هي التي أبلغت الأجهزة الألمانية عن مكان وجوده. ومن المرجّح، أن هذه الأخيرة لم تقدم على اعتقاله من دون إيعاز من السلطات السياسية في برلين، التي تدرك تمام الإدراك أن ردّها على طلب الاسترداد الذي تقدّمت به مدريد، سلباً أو إيجاباً، ستكون له تداعيات ذات شأن على العلاقات بين البلدين.
ومن هذا المنطلق تأتي الخطوة الألمانية لتؤكد أن الاتحاد الأوروبي - الذي كان اكتفى بدور الشاهد على هذه الأزمة المعتملة في دياره، متذرّعاً بأنها «مشكلة داخلية» - أدرك أخيراً أن المشكلة الكتالونية، على غرار القوميات الكثيرة النائمة في البيت الأوروبي: «مشكلة أوروبية» لا بد من التصدّي لها واحتوائها قبل فوات الأوان. ومما لا شك فيه، أن خروج البريطانيين من الاتحاد وصعود الأحزاب والحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة - كما بيّنت الانتخابات الإيطالية الأخيرة - هي التي تشكّل الخطر الأكبر على المشروع الأوروبي الذي تسخّر له برلين وباريس طاقات كبيرة لإنهاضه من كبواته الحالية.
القراءات القانونية من جهتها، ترفد القراءة السياسية لاعتقال بوتشيمون وطلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية. إذ يستند الحقوقيون إلى التشابه الكبير بين أحكام الدستورَين الألماني والإسباني فيما يتعلّق بتنظيم الإدارة الفيدرالية في الحالة الأولى وأقاليم «الحكم الذاتي» في الثانية. ومن ثم، يستبعدون أن يقرّر القضاء الألماني رفض طلب مدريد، ولا سيّما، وأن التمرّد الانفصالي ملحوظ في الأحكام الدستورية الألمانية ضمن باب الانتهاكات الخطيرة التي تهدد وحدة الدولة وانسجام المجتمع.
- شعور بالخذلان الخارجي
المعسكر الانفصالي، من جهته، بدأت تظهر عليه بالفعل علائم الوهن والإحباط بعدما تيقّن من أن الدعم الخارجي الذي كان يراهن عليه لم يتعدَّ اهتمام وسائل الإعلام لفترة محدودة. وهذا، بينما تتراجع شعبيته داخل الإقليم بفعل الأضرار التي بدأ الاقتصاد الكتالوني يعاني منها بعد هجرة آلاف الشركات والمؤسسات الكبيرة إلى مدريد ومدن إسبانية أخرى. أما الخطوات التصعيدية الأخيرة، كالمظاهرات والصدامات مع الشرطة في شوارع برشلونة، عاصمة كتالونيا، وتصريحات كتلك التي وردت على لسان رئيس البرلمان، عندما قال: «ليس من حق أي قاضٍ أن يلاحق رئيس كل الكتالونيين»، لا بد من إدراجها ضمن السهام الأخيرة في جعبة الانفصاليين إثر انسداد الأفق أمامهم، والملاحقات القضائية في حق زعمائهم، وقلة التجاوب الأوروبي مع مطالبهم.
لكن إذا كان الانفصاليون يجدون صعوبة في استيعاب الأضرار التي لحقت بمشروعهم والتكيّف مع المعطيات الجديدة التي فرضتها عليهم الهزائم التي لحقت بهم، فمن الخطأ الاعتقاد أن سلطات مدريد حقّقت نصراً حاسماً في مواجهتها المفتوحة مع الحركة الانفصالية. فالحقيقة أن الحكومة المركزية المترنّحة التي يرأسها ماريانو راخوي (زعيم الحزب الشعبي اليميني) لا تختصر إسبانيا التي صنفّتها مجلة «الإيكونوميست» في طليعة الديمقراطيات الراسخة، وأوروبا ليست هي البيروقراطية القامعة للهويات... كما روّج الانفصاليون ومعهم الساعون إلى ضرب المشروع الأوروبي.
ومن ثم، فالمجازفة التي أقدم عليها الانفصاليون عندما تجاهلوا أحكام الدستور وقرار المحكمة الدستورية وأعلنوا الجمهورية من طرف واحد، كانت تتويجاً لهروب الحكومة المحلية إلى الأمام بعدما أنهكتها فضائح الفساد، وتراجعت شعبيتها، وانسدّت قنوات الحوار بينها وبين الحكومة المركزية. وفي المقابل، كانت أيضاً ثمرة حسابات مدريد الخاطئة في التعاطي مع الشأن الكتالوني بجمود مذهل وتشدّد مُستلهم من «التجربة الباسكية» التي طويت صفحتها أخيراً بعد أربعة عقود من القمع والعنف المسلّح والإرهاب.
- المسؤولية... والحل
صحيح أن ثمّة مسؤولية كبيرة ملقاة اليوم على عاتق الأحزاب الكتالونية التي دفعت بالملف الانفصالي في طريق من غير منافذ قانونية أو سياسية، وذهبت في التصعيد إلى شفا الانهيار الاقتصادي والعزلة الاجتماعية.
لكن المسؤولية الأكبر تقع على حكومة مدريد، التي قد يغريها الوقوع في فخ توهّم أنها ضربت رأس الأفعى الانفصالية، فتجنح إلى المزيد من التشدد واللجوء إلى أدوات القمع - القانونية والأمنية - كاشفة وجه «الموروث الفرانكوي» الذي جهد الانفصاليون لاستدراجها إليه منذ اللحظة الأولى.
وبناءً عليه، فإن المخرج الوحيد الآمن على الأمد الطويل أمام مدريد هو الإسراع في الإعداد لمراجعة دستورية بالتوافق مع الأحزاب الوطنية ترسي قواعد جديدة لنظام فيدرالي يعطي صلاحيات أوسع للأقاليم التي تنشط فيها حركات وأحزاب تطالب بالمزيد من «الحكم الذاتي» أو الاستقلال قبل أن يرتفع الستار عن مشهد انفصالي آخر.
- كاتالونيا في سطور
> يقع إقليم كتالونيا في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الإيبرية وتبلغ مساحته 32 ألف كيلومتر مربع (6 في المائة من مساحة إسبانيا) ويبلغ عدد سكانه 7.5 مليون نسمة. ويعود تاريخ المؤسسات المحلية، المستقلة أو ذات «الحكم الذاتي»، في كتالونيا إلى أواخر العصر الوسيط عندما كانت تتمتع بصلاحيات إدارية وسياسية واسعة تحت مملكة آراغون، ثم ضمن مملكة إسبانيا.
في عام 1714 وقفت كتالونيا إلى جانب سلالة الهابسبورغ النمساوية في الحرب التي خسرتها ضد سلالة البوربون، التي أسست نظاماً ملكياً مركزياً مطلقاً في إسبانيا، وألغت كل المؤسسات المحلية في كتالونيا.
بعد سقوط النظام الملكي في إسبانيا وإعلان الجمهورية عام 1931، أعلن الكتالونيون قيام جمهوريتهم إثر فوز الأحزاب اليسارية الكتالونية في الانتخابات، لكن بعد التفاوض مع مدريد اكتفوا بالحصول على حكم ذاتي بصلاحيات واسعة بإشراف الحكومة المحلية التي ما زالت إلى اليوم تعرف باسم الجنراليتات.
عام 1939 ألغى الجنرال فرانشيسكو فرنكو المنتصر في الحرب الأهلية الإسبانية مؤسسات الحكم الذاتي الكتالوني، وباشر نظامه حملة قمع قاسية حظّرت على الكتالونيين استخدام الرايات المحلية وسماع الأناشيد الوطنية، بل حتى التكلم باللغة الكتالونية.
ثم في العام 1940 ألقت قوات «الغستابو» (الشرطة السرية) النازية القبض على رئيس «الجنراليتات» (مجلس القيادة) الكتالوني، الذي كان فاراً إلى فرنسا، وسلمّته إلى نظام فرنكو، الذي حاكمه بسرعة وأعدمه في برشلونة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.