بينما يحتفل صانعو فيلم «بلاك بانثر» بنجاح تجاوز سقف توقعاتهم بلغ ملياراً و244 مليون دولار، فإن الظاهرة التي يمثلها هذا الفيلم هي نجاح الفيلم المبني على شخصية بطل أسود ونجاح الممثل الذي يقود تلك الشخصية وبالتالي الفيلم. وها هو «باسيفيك ريم: ثورة»، يؤكد ذلك من حيث إن بطولته الحقيقية هي لشخصية أفرو - أميركية.
ويتردد الآن في هوليوود أن ديزني التي أطلقت «بلاك بانثر» تقوم بتعديل بعض مشاهد الجزء المقبل من «The Avengers: Infinity War» المبرمج للعروض بعد أقل من شهر لكي ترفع من حضور شخصية «بلاك بانثر» فيه.
بيضة ذهب
لكنها ليست المرّة الأولى الذي يستطيع فيها نجم الممثلين السود في هوليوود على نحو تيار أو ظاهرة، وليست المرّة الأولى أيضاً التي تسعى فيه هوليوود للاستفادة من زخم إقبال مفاجئ على بطل فيلم أكشن أسود وهي التي داومت الاعتماد على ممثلين بيض في مثل هذه الأدوار منذ نشأتها.
فالنجاح الحالي يذكِّر بنجاح مفاجئ آخر كان وقع في مطلع السبعينات عندما توالى خروج مجموعة كبيرة من أفلام البطولة السوداء قدّمتها شركات هوليوودية رئيسية بمصاحبة شركات هوليوودية أصغر شأناً. في الحالتين (الماضية والحاضرة) يمكن لنا تلمس قدر من عطش المشاهدين للتغيير ولتلوين الشاشة بشخصيات تختلف، ولو تنميطاً، عن سواها.
التيار المذكور في مطلع السبعينات وحتى ما قبل نهاية ذلك العقد بقليل، سمي بتيار «الاستغلال الأسود» (Black Exploitation) وتم تأليف كلمة واحدة من هذه العبارة الفاضحة للمرمى المنشود من هذا التيار، وهي «Blaxploitation» التي شملت كل فيلم محض تجاري قامت هوليوود بإنتاجه في ذلك الحين لأجل استهلاك واستغلال الممثلين الأفرو - أميركيين لبطولات أفلام لا يُتوخى منها أكثر من أن تبيض ذهباً، ومعظمها فعل ذلك لأن تكاليفها كانت زهيدة (بالمقارنة) وتحقيقها كان سريعاً ولم تتطلب كتابتها سوى تقديم بطل أسود يواجه أشراراً من السود والبيض معاً ويحمل مسدساً (أو رشاشاً) يحل به مشكلاته ومشكلات مواطنيه.
هذا لا يمنع من تسجيل حقيقتين بالغتي الأهمية.
الأولى أن هذا التيار انطلق في البداية كنقد للمنوال التي تجاهلت فيه هوليوود السود الأميركيين إلا من بعض اللفتات المحدودة التي كان لا بد منها.
الثانية أن هذا التيار التجاري المحض أنتج أفلاما جيدة بقدر ما أنتج أفلاماً هزيلة لا قيمة فنية أو ضمنية لها.
أيضاً لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن تلك الموجة العارمة من الأفلام كانت في الأساس مشاركة من قِبل السينمائيين القائمين بها في التعليق على العقد السابق الذي حفل بسعي الأفرو - أميركيين للحصول على حقوق اجتماعية وقانونية متساوية مع خلانهم البيض.
هذا ما كان في بال ملفين فان بيبلز (ولد الممثل والمخرج الحالي ماريو فون بيبلز) عندما أنجز، سنة 1971، كتابة وإنتاج وتصوير ووضع موسيقى وتمثيل وإخراج فيلم حمّله عنواناً التقى سريعاً مع نبض الشارع الأسود وهو Sweet Sweetback›s Baadasssss Song. صوره في أسبوعين بميزانية بضعة ألوف من الدولارات حول بطل أسود في صراع مع المؤسسة النظامية الجائرة حسب الفيلم وبالتلاقي مع ملايين المشاهدين الأميركيين السود في الولايات المتحدة.
بعد أشهر قليلة، خرج استوديو «مترو غولدوين ماير» بمفاجأة كبيرة: فيلم بوليسي من بطولة تحر خاص أسود اسمه جون شافت. الفيلم (وعنوانه Shaft) تحلّى بأغنية من وضع وتأليف أيزاك هايز وبإخراج من الأفرو - أميركي غوردن باركس. وللبطولة تم اختيار ممثل لم يسبق له أن ظهر على الشاشة الكبيرة مطلقاً هو رتشارد راوندتري (لديه الآن قرابة 70 فيلماً في جعبته). شافت سيعاين أسباب الجريمة التي تقع في حي هارلم النيويوركي وسيجد من هي القوى البيضاء التي تعمل مع عناصر سوداء محلية لإشاعة المخدرات، ولم ينس الفيلم وجود تحر عنصري من المؤسسة الرسمية ولا مشاهد غرامية تلهب المشاهدين بصرف النظر عن لون بشرتهم في الوقت التي تمنح فيه بطل الفيلم الموقع الإثاري المتقدم الذي يغازل ذكورية الرجل الأسود.
سيل أكبر
«شافت» الذي تكلف مليون دولار جلب سريعاً 12 مليون دولار بحسبة ذلك الزمان، والشركة المنتجة لم تتأخر وأقدمت في العام التالي على تحقيق جزء ثانٍ بعنوان «ضربة شافت الكبيرة» Shaft›s Big Score.
لكن السينما لم تكن في وضع انتظار الجزء الثاني بل ألهب نجاح «شافت» و«سويت سويتباك» حماس الآخرين سريعاً فتم إطلاق سيل من تلك الأفلام في الأشهر الأخيرة من سنة 1971 وطوال العام التالي. أحد أهم هذه الأفلام كان «الحافلة آتية» (The Bus is Coming) لوندل جيمس فرانكلين وموضوعه يصبّ مباشرة في موضوع العنصرية كون بطله مايك ب. سيمس عاد من فيتنام ليجد أن شقيقه قُتل على أيدي عصبة من رجال البوليس العنصريين فقرر الانتقام منهم.
على أثره فيلم أقرب إلى «شافت» منه إلى «الحافلة آتية» وهو «نسيم بارد» (Cool Breeze) الذي سارعت م. ج. م. لتحقيقه قبل إطلاقها «ضربة شافت الكبيرة». هذا الفيلم كان إعادة صنع لفيلم كلاسيكي بعنوان «الغابة الإسفلتية» (The Asphalt Jungle) الذي أخرجه جون هيوستون ولم يحمل، تبعاً للقصة التي وضعها ويليام بارنت أي شخصية ملوّنة. «نسيم بارد» أخرجه سينمائي أبيض هو باري بولاك.
في مطلع عام 1972 بدأ سيل أكبر بالوثوب إلى شاشات العرض وبنجاحات متوالية. والفيلم الأول من بينها كان من إخراج غوردن باركس جونيور، أي ابن غوردن باركس الذي حقق «شافت». الفيلم الذي اختاره بوليسي المعالجة وعنوانه «سوبر فلاي» مع أغنية مناسبة من كيرتس مايفيلد تحذّر من سطوة بطله رون أو نيل الذي كان ظهر في فيلم من بطولة سيدني بواتييه عنوانه «المنظمة» (The Organisation لدون مدفورد).
دور سيدني بواتييه، وهو الممثل الذي كان حقق نجومية كبيرة قبل بداية تيار «الاستغلال» لكن في أفلام أعلى شأناً درامياً وفنياً وإنتاجياً من تلك الموجة (من بينها مثلاً «في حرارة الليل» لنورمان جويسون)، كان مصاحباً وموحياً لتلك الحقبة. كان اعتبر من أواخر الستينات بمثابة الأمل الأسود الكبير بين أترابه. تحوّل إلى نجم بموازاة نجوم الشاشة البيضاء آنذاك ومنهم وورن بايتي وجاك نيكولسون وروبرت ردفورد. لكنه لم يشترك في فيلم رخيص التكلفة ومنتم إلى تيار السينما الاستهلاكية التي بدت أقل شأناً من تلك الإنتاجات الأرقى التي كانت هوليوود لا تزال تنجزها.
بعض ممثلي هذه السينما الاستهلاكية تبوأوا لاحقاً مكانة موازية لمكانة سيدني بواتييه أو كادت ومنهم جيم براون الذي انطلق بفيلم عنوانه «سلوتر»، من إخراج جاك ستارت، ونجاح هذا الفيلم أدى لجزء ثان هو «غنيمة سلوتر الكبيرة».
سنة 1972 ذاتها شهدت الانتقال إلى استخدام شخصيات رعب كلاسيكية تم تلوينها مثل «دراكولا» الذي بات اسمه «بلاكولا»، وفي العام التالي «بلاك فرنكنستين»، كلاهما ضخَّ بعض النجاح لكنهما ابتعدا عن جادة المعالجات المعادية للعنصرية. هذه المعالجات استمرت في سلسلة من الأفلام من بينها «هامر» (من بطولة فرد ويليامسون الذي أكمل الدرب حتى ما بعد انتهاء سنوات التيار منفرداً) و«رجل المتاعب» و«بلاك غن» و«تريك بايبي» وكلها كانت من إخراج سينمائيين بيض سارعوا لامتطاء الجياد المتوفرة.
لكن عام 1973 شهد تطوراً مثيراً للملاحظة، وهو: دخول المرأة مجال البطولة لهذه الأفلام وبدأ كل شيء بفيلم رديء الصنع اسمه «كوفي» (باسم القهوة السوداء) الذي قامت ببطولته بام غرير التي تحوّلت إلى أيقونة في هذه السينما. «كوفي» تعلن الحرب على مروّجي المخدرات بعدما تسبب مروّجوها بإدمان شقيقتها الصغيرة. أخرج هذا الفيلم (الأبيض) جاك هِل الذي اشتغل أيضاً على سلسلة من أفلام السجون النسائية.
أفضل من «كوفي» كان «كليوباترا جونز» إخراج جاك ستارت مع تامارا بودبسون في دور مقاتلة في سبيل الغاية ذاتها، وهي إيقاف انتشار المخدرات. الفيلم يبدأ بإشراف كليوباترا على حرق حقل من حشيشة الكيف في تركيا، قبل أن ينتقل إلى قلب هارلم لأن إحدى العصابات تتضرر مما قامت به البطلة وتقرر قتلها.
نهاية الموجة العامرة دنت بحلول سنة 1977، وبعد أن شهدت أكثر من 40 فيلماً من هذا النوع. فيلم النهاية كان «أخوة» (إنتاج «وورنر») الذي عاد إلى نطاق الأوضاع العنصرية التي فجرت ذلك التيار بداية. «أخوة» كان في الوقت ذاته رومانسياً مستوحى من أحداث فعلية المناضلة المعروفة أنجيلا ديفيز.
أين هم الآن؟
> تامارا دوبسون بطلة Cleopatra Jones: اعتزلت التمثيل سنة 1983 بعد حفنة أخرى من الأفلام آخرها فيلم سجون اسمه «Chained Heat».
> بام غرير: بعد «كوفي» وأفلام أخرى مشابهة وجدت سبيلاً للتمثيل في أفلام درامية أفضل لكنها غابت لفترة إلى أن وضعها كوينتن تارانتينو بطلة فيلمه «جاكي براون» سنة 1997.
> جيم براون: حالياً منتج منفذ لحلقات The All Summit التلفزيونية. سينمائياً شق طريقه بنجاح حتى منتصف الثمانينات قبل قيامه بأدوار مساندة غالباً.