كانت طفلة من «ضيعة» تقبع على مرتفعات جبل لبنان. الطموح والحلم كانا يرافقانها، على الرغم من أنّهما كانا ممنوعين عن الأطفال، كما اللعب في ساحات الضيعة، خوفاً من قذيفة تسقط هنا أو هناك. فمعظم الوقت كانت في الملجأ، وإذا توقف إطلاق النار تذهب أياماً قليلة إلى المدرسة.
مرّت السنين وانتهت الحرب الأهلية، وبقي لهذه الطفلة حلم تجتهد لتحقيقه، ألا وهو الوقوف أمام عدسة الكاميرا والإمساك بالمايكروفون. وضع الله أمامها بعض الأشخاص الذين أمسكوا بيدها لتخطو خطوة الألف ميل. منهم من أسهم في إنهاء دراستها الجامعية، ومنهم من شجَّعَها وآمن بموهبتها، ومنهم من أعطاها الفرصة الأولى لتبدأ حياتها المهنية، ومنهم من علمها الاحتراف.
ولهؤلاء جميعاً لا تكفي الكلمات لشكرهم؛ فبعضهم أصبح في ذمة الله. وهذه الطفلة الشابة اليوم، تستمر بالدّعاء لمن بقي منهم على قيد الحياة، أن يمدهم الله بالعمر الطويل والحياة الكريمة التي أغدقها تعالى عليها بفضلهم.
طفلة الأمس باتت امرأة اليوم، وتحقق الحلم الذي ترافق مع نجاحات وإخفاقات، لحظات سعادة عاشتها، وخيبات أمل واجهتها في هذه المهنة التي لطالما عُرِفت بمهنة المتاعب، ولكنّها لم تكن تتوقع يوماً أنّها ستنقل للمشاهدين مأساة وإجراماً ووحشية لم يشهدها العالم القديم والحديث. لم تكن تصدق يوماً على الرّغم من عيشها الحرب الأهلية اللبنانية، أنّ العالم فقد كل ما في داخله من إنسانية، وبات يحسب أعداد القتلى وكأنّها مجرد أرقام تذاع كل يوم على هذه القناة أو تلك.
طفلة الحرب، لم تصل إليها فظائع القتل على الهوية والتهجير والجرائم في بلدها بصور وفيديوهات يومية، فذلك الزمن لم يكن زمن التكنولوجيا المتطورة ولا زمن كل ما تحويه شبكات التواصل الاجتماعي من مواقع، تبثّ وتنشر دون رقيب ما يحدث في أرض تأكلها حرب أهلية، سمعت صوت المدافع والرشاشات وهي تقبع في ملجأ... وامرأة اليوم باتت ناقلة الخبر وصور المآسي وأعداد القتلى.
طفلة استطاعت الاختباء من الحرب وكبرت لتحقيق حلم راودها لسنوات، فلم تكن تتوقع يوماً أنّ الطفولة تتمزق وتنزف وتصارع في الحروب من أجل لقمة عيش قد لا تحصل عليها غالباً، أو تسارع للوصول حيّة إلى مخيم تعيس تتقوقع به هروباً من البراميل المتفجرة أو من بطش المتطرفين، ومن جماعات يبيعون أوطانهم من أجل آيديولوجيات عقيمة.
على الرغم من سوء الأوضاع وصعوبة العمل الصحافي في ظل هذا الاصطفاف العمودي في منطقتنا، يبقى الشغف والإيمان بهذه المهنة المحرِّك والدم الذي ينبض في دواخلنا كي نستمر، علّنا نطلّ على شاشاتنا العربية يوماً، للحديث عن تحول في عالمنا الممزق إلى آخر يحتضن إنجازات أبنائه من ابتكارات علمية وآداب وفنون وإعلام ورياضة، إلى تبوُّء المناصب العالمية، عالمٌ عربي ينعم بالسلام، ويلهو أطفاله بألعاب خاصة بهم عوضاً عن البنادق والسكاكين، يعيشون ويترعرعون بفرح لا بدموع البؤس والألم، يحلمون بالحياة ولا ينامون والخوف يأكلهم من الموت.
الأحلام لا تنتهي وحبر القلم لا ينضب والكلمة الحرة يجب أن تُصان لترافق الأجيال القادمة، وتكون الدافع الحقيقي لدخولهم هذه المهنة، لأن الشهرة مجد باطل.
* إعلامية لبنانية
مذيعة في قناة «العربية»
حلم طفلة الحرب
قصتي مع الإعلام
حلم طفلة الحرب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة