انهض.. فأنت لم تمت!

جيلان ورؤيتان عن الثورة المصرية

غلاف «سيجارة سابعة»
غلاف «سيجارة سابعة»
TT

انهض.. فأنت لم تمت!

غلاف «سيجارة سابعة»
غلاف «سيجارة سابعة»

توقظ البنت والدها..
تلبسه ثيابه..
البنت، تحضّر الشاي والإفطار لوالدها.. تأخذه إلى شقتها الخاصة وترعاه بعيدا عن شقة العائلة..
ثم تأخذه معها إلى ميدان التحرير بعد أن وافقت على إلحاحه. هي خائفة عليه، وهو يريد أن يرى الثورة التي حلم بها وحاكمته أنظمة سياسية متلاحقة بسبب هذا الحلم..
وها هي الثورة الآن في ميدان التحرير في القاهرة. الأيام الأخيرة من يناير (كانون الثاني) عام 2011.
البنت هي الكاتبة دنيا، والأب هو والدها كمال القلش، والرواية اسمها «سيجارة سابعة» (دار «ميريت» - القاهرة).
لكن لعل القراء لا يعرفون إلا في نهاية الرواية أن الأب كان قد رحل عن عالمنا قبل ذلك بسنوات. أعرف أنا ذلك لأني رافقته رحلة حياة ومرض وموت. هو كان زميل زنزانتي في معتقل الواحات الخارجة (1962 - 1964) بعد محاكمات عسكرية لكلينا.. هو سبق بسنوات خمس متواصلة في السجون والمعتقلات المصرية.. لم يكن قد تزوج بعد، ولم تكن دنيا قد ظهرت إلى «الدنيا». من هنا شكلت لي الرواية وبشكل خاص نستولوجيا معقدة وأحاسيس مركبة مرتبطة بالابنة التي أعرفها منذ طفولتها، وبالثورة التي نحاول أن نفهم ما جرى لها، وبالكتابة عن الثورة بطريقة فيها كثير من الحميمية، وإعادة بعث علاقة خاصة بين ابنة ووالدها بكل ما في هذه العلاقة من تناقضات ومتاعب ومباهج وأحزان.
بعد الإفراج عن المعتقلين السياسيين اليساريين والماركسيين في أبريل (نيسان) 1964 بمناسبة زيارة الزعيم السوفياتي خروشوف إلى مصر.. خرجنا جميعا من المعتقلات وتفرق معظمنا «إيدي سبا» عدا قلة تواصلت طويلا وكثيرا. من هذه القلة كان كمال القلش الذي تواصل معي ومع آخرين.
بقيت متواصلا معه سنوات حياته كلها بعد المعتقل، حتى رحيله قبيل الثورة بسنوات قلائل. في البداية حينما كنت أزوره بعد أن تزوج كلانا وأنجب كنت أرى البنت دنيا في أرجاء الشقة.. ثم سافرت ورجعت إلى مصر لأسافر مرات أخرى إلى بلاد مختلفة لتكبر دنيا ابنة صديقي وأعرف أنها تدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة. كنا نلتقي بالصدفة في بيت الأب حينما أكون في زيارة لمصر.. وكانت تحب الجلوس إلينا وتستمع إلى حواراتنا وجدلنا.
لألتقي بها بعد وفاة الوالد مرة بالصدفة في الطريق العام، لأعرف أنها تعمل «فري لانس» في قناة فضائية شهيرة وأنها تسافر كثيرا. قالت إنها كتبت رواية قصيرة أعطتني إياها وطالبتني بأن اقرأها وأن أبعث برأيي فيها إليها. ثم تختفي مرة أخرى وتظهر مع صدور هذه الرواية، التي أعطتني إياها - أيضا - وطلبت رأيي - أيضا - فقرأتها باهتمام وقلت لها رأيي.
اهتمامي بالرواية نابع من اهتمامي بالشخصيتين الأساسيتين في الرواية أيضا وفي الحياة: صديقي ورفيقي كمال الذي رحل، والذي تقوم ابنته «بإيقاظه» من نومته الطويلة تأخذه معها إلى الميدان. واهتمامي بالابنة.. ابنة السياسي والكاتب القصصي والروائي (رواية واحدة هي «صدمة طائر غريب» وبضع مجموعات لقصص قصيرة)، فهي تهتم بالسياسة مثل والدها وتكاد تحترف الكتابة الإبداعية مثله أيضا.
اهتمامها؛ حرفي أيضا، يتمركز حول رغبة البنت في أن يشاركها والدها (المتوفى) بضعة أمور.. هي أيضا تريد أن تقدمه لأصدقائها، ولعل هناك صديقا محددا له وضع خاص، تريد من والدها أن يتعرف عليه!
أن تعرف موقفه من ثورة جديدة الطابع لا علاقة لها بالثورات التقليدية (من وجهة نظري)، فهو المشارك في التنظيمات السرية تحت الأرضية لكن ليس في ثورة علنية..
أن تقدمه «لأصدقائها» الشباب الذكور من ثوار ومن مبدعين ومن محبين، وهي التي لم تكن تستطيع (ولعلها لم تجرؤ) على أن تقدم هذا النمط من الأصدقاء لوالدها حينما كان حيا يُرزق.
إذن أجد نفسي في وضع غريب ومبهج ويدعو للأسى أيضا بعض الشيء.. فها هو رفيق درب عاجلته المنية قبل أن يرى «الثورة» التي ضحى من أجلها والتي كنا - صراحة - لا نعتقد أننا سنراها.. لكن الأقدار وفرت بعضنا، وأبقت على بعضنا لكي يشاهد أعجوبة مصرية خالصة وخاصة..
وها هي ابنة رفيقي تشارك في الثورة التي حضّرت لها أجيال متعاقبة من المناضلين المصريين ومنهم والدها وجيله. ولما لم تجد والدها بجوارها، أخرجته من أكفانه وألبسته ثيابه وأخذته إلى شقتها الخاصة والى «الثورة والشباب».
قرأت الرواية منبهرا بالفكرة.. فهي تطبخ لوالدها الطعام الذي يحبه، وتصف التحضير للطعام بدءا بالتسوق واختيار حبات الطماطم والباذنجان.. إلخ.. مرورا بعملية الطبخ وانتهاء بتقطيع السلاطة بالطريقة التي يفضّلها. تحضر له دواءه، وتذكره بتناوله.. تقول له على برنامج يومها في الميدان وأين سيكونان. هي خائفة عليه من الغازات الخانقة فهو مصاب بأزمة قلبية مع ضيق تنفس.. كان قد أجرى عملية القلب المفتوح قبيل وفاته بسنوات قلائل. تخشى أن يصيبه حجر طائر أو رصاصة طائشة.
سوف نسمع تعليقات والدها.. إعجابه بالثوار الشباب.. وقفاته معهم في ميدان طلعت حرب. سوف نقلق معه حينما تتأخر دنيا عن موعد عودتها إلى الشقة التي «أخذته» إليها.. سيفتح لها الباب صائحا فيها معبرا عن قلقه وترتمي هي في حضنه باكية وهو أيضا لا يستطيع مغالبة دموعه. سوف نفهم موقف الأب من الثورة.. بالتحديد ما تعتقده دنيا، الابنة الراوية؛ ما سيكون موقف والدها من الثورة.
لم أعرف بالطبع ماذا سيكون موقف كمال القلش الوالد من الثورة.. لأن جيلنا اتخذ عدة مواقف من الثورة وحاول أن يطبق على هذه الظاهرة الثورية القوانين الماركسية التقليدية.. وبالطبع فهو أمر خاطئ، لأن هذا معناه وضع العربة أمام الحصان وليس العكس.
تحادثنا كثيرا أنا ودينا كمال عن الثورة.. لم أقل لها رأيي، لكني كنت أريد أن اسمعها هي. فهي كانت «تداوم على الحضور» إلى التحرير مرة في الأسبوع في البداية حينما تركب الطائرة من البلد الذي تعمل فيه وتحضر إلى القاهرة لتقضي الـ«ويك إند» مع الثوار في الميدان. ثم تركت عملها في النهاية والتحقت بدوام يومي بالتحرير.
بالطبع حدث لها ما حدث للكثيرين من إحباط وهي ترى الثورة يتم اختلاسها، وترى الثوار ينشغلون بخلافاتهم الصغيرة ثم ينصرفون إلى بيوتهم.. إلخ
أهمية هكذا عمل أنه غير مسبوق في الإبداع المصري المعاصر من أكثر من ناحية.. فهو عن الثورة وقد ساح مداد كثير في كتابات إبداعية عنها، قليل منها موفق.. وهو عن بنت ووالدها والعلاقة الدقيقة بين الاثنين وفارق عمر نحو نصف قرن بينهما..
ثم هو إنجاز لفعل «المشاركة» الخاصة بين جيلين ورؤيتين عن الثورة.. تفصل بينهما عدة أجيال ومياه كثيرة تجري بلا انقطاع. ثم تجربة «رفض الموت»، وهي تجربة أيضا نادرة في الثقافة العربية لم تظهر بوضوح إلا في ألف ليلة وليلة باعتبارها فعلا فانتازيا له علاقة بالسحر والجان. لأن دينا المؤمنة لم تستطع أن تقبل فكرة أن يغادرها والدها بدون سابق إنذار هكذا.. فقررت استدعاءه وتطييب خاطره بعد أن كانت لا تحب له أن يتدخل في حياتها الخاصة.
ها هي تدخله معها في الثورة وفي أصدقائها وتؤمن بأنه لا يزال حيا يرزق ويتنفس ويقول رأيه في ما يحدث حوله وحولها ولها!



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.