خليل حاوي في غربته المتمادية

بعد ستة وثلاثين عاماً على غيابه

خليل حاوي
خليل حاوي
TT

خليل حاوي في غربته المتمادية

خليل حاوي
خليل حاوي

ليس بالضرورة أن تكون نصوص الشعراء مطابقة لطرائق عيشهم أو لسلوكهم الظاهري. ذلك أن الإبداع يتكون في مناطق النفس المعتمة، ويتصل بما لا نعيه من تعقيدات الداخل وجينات التكوين، على أن ذلك لا يمنع بالمقابل أن يمتلك البعض من الشفافية والصدق ما يصل بهم إلى حد المماهاة التامة بين مواقفهم وسلوكياتهم من جهة، وبين نتاجهم الإبداعي من جهة أخرى. وإذا كنت أزعم أن خليل حاوي هو واحد من هؤلاء، فإن ذلك الزعم يكتسب مصداقيته من معرفة بالشاعر تعود إلى أكثر من أربعة عقود خلت حيث قدّر لنا، نحن طلاب ذلك الزمن الوردي، أن نتتلمذ في كلية التربية التابعة للجامعة اللبنانية على أحد أبرز رموز الحداثة الشعرية في لبنان، وأن نعاين ذلك التطابق اللافت بين خليل حاوي الشاعر وخليل حاوي الإنسان. فمنذ اللحظة الأولى التي دخل فيها أستاذ مادة النقد الحديث إلى غرفة الصف بدا لنا شخصاً مختلفاً عن سواه، حيث كانت حركات جسده ويديه تنمّ عن توتر وعصبية باديين، فيما لم تكن عيناه تحدقان في مكان معلوم، بل تسبران غور المجهول، وتعكسان كل ما يعتمل في داخله من مشاعر الغربة والقلق. كانت قامته أقرب إلى القصر، ورأسه مكتمل الصلَع سوى من بعض الشعيرات المتباعدة. وكانت سحنة وجهه السمراء وصوته العريض الأجش يحيلاننا إلى نشأته الريفية وسلوكه العفوي، وهو الذي نظم الزجل وأنشده في مطالع صباه، كما عمل في البناء وتقصيب الصخور. أما اطلاعه العميق على الثقافتين الشرقية والغربية فقد شكل بالنسبة لنا نوعاً من المفارقة اللافتة بين مظهره الجبلي المحلي وبين أفقه الفكري العابر للحدود. ونادراً ما كان حاوي يترك لنا فرصة للاستراحة أو الفكاهة أو التقاط الأنفاس، بل كان يندمج بالمادة التي يدرّسها إلى حد الانخطاف، ولا يصحو من سكرة شروحه الطويلة إلا على صوت الجرس الكهربائي المؤذن بنهاية الحصة الدراسية.
لقد بدت منظومة القيم التي آمن بها خليل حاوي، والمفرطة في مثاليتها، بمثابة نقطة قوته وضعفه في آن. فهي من جهة جعلت منه شخصاً عصامياً ودائم البحث عن معنى للحياة أبعد من ترهات عالمه البائس، وعن معنى للكتابة أبعد من رطانة الخطب الحماسية أو غثاء الزخرف اللفظي. ولكنها من جهة ثانية أوقفته عند التخوم الأخيرة للإحباط وخيبات الأمل، حيث السقوط المدوي هو المحصلة الطبيعية للارتفاعات الفائضة عن الحد. ولم نكن، نحن قراء خليل حاوي ومتابعيه، بحاجة إلى انتظار نهايته الفاجعة لكي نعرف مقدار ما قدمه على مذبح مثاليته من تضحيات، وهو الذي كتب شعره بجماع الشرايين وبكل ما يمتلكه من كهرباء العصب وضراوة النيران. وإذا كان الخلود والبريق الدائم للاسم هو المكافأة الطبيعية التي يستحقها المبدعون كتعويض رمزي عن التضحية بالنفس ومباهج العيش، فإن من حق أي منا أن يتساءل عما إذا كان خليل حاوي، الذي نال في زمنه الكثير من التقدير والاهتمام النقديين، لا يزال يلقى الحظوة نفسها والاهتمام إياه، أم إن صرخته المدوية من أجل النهوض قد ضاعت كغيرها من الصرخات في برية التيه والترهل والنكوص القومي؟
قد يكون من الصعب تقديم إجابة قاطعة على سؤال كهذا، ولكن التبصر في مآل الأمور لا بد أن يفضي إلى الاستنتاج بأن ذلك الاسم الذي شغل الكثيرين في عصره لم يعد يملك الرجع إياه الذي كان له بين عقدي الخمسينات والسبعينات من القرن الفائت، وأن الاهتمام به يقتصر الآن على بعض النخب المثقفة والمخضرمة، كما على بعض الدارسين والمختصين. أقول ذلك وأنا أدرك تمام الإدراك أن الشاعر لن يُعدَم أبداً ومهما قست الظروف مَن يحتفي بنتاجه ويحفظ قصائد ومقطوعات له، وأنه ليس ظاهرة اجتماعية وإعلامية تنتهي برحيل صاحبها، كما كان حال الكثير من شعراء الخطب الحماسية والآيديولوجيا المعلبة. فهل كان على شعره أن يدفع بعد حياته ثمن الرهان الخاسر على نهوض الأمة من كبوتها بعد قرون عجاف من التراجع والانحطاط؟ أقول ذلك وأنا أعرف أن هذه التجربة الجادة والعميقة لن تُعدم من يتابعها باهتمام، كما لن يعدم الكثير من نصوصها ونماذجها من يحفظه عن ظهر قلب، كما هو حال «الجسر» و«المجوس في أوروبا» و«الكهف» و«لعازر 1962».
على أن الملاحَظ في شعر خليل حاوي خلوّه من الانكباب على أحوال العيش ويومياته. إذ ليس ثمة اهتمام بالوقائع والأحداث الآنية، ولا اشتغال دؤوب على التفاصيل، ولا صدى للذة حسية أو إخفاق عاطفي. وربما أسهمت فكرة ربط الشعر بالنبوة والحدس الروحي والرؤيوي، في جعل الشعراء منوطين بأخطر المهام المتصلة بتغيير العالم ونقله من العتمة إلى الضوء. وقد وجدت هذه الفرضيات في تكوين حاوي المثالي تربتها الخصبة التي عززتها دراسته في كامبردج، وتأثره البالغ بالرومانسيين الألمان وبحركة الانبعاث التي مثّلها شليغل وهيردر وكلايتس وهلدرلن وغيرهم من المفكرين والشعراء. فيما تأثر من جهة ثانية بالرومانسيين الإنجليز، وبمبدأ الحيوية الخلاقة لدى كولردج، دون أن نغفل تأثره في مراحل إحباطه بتوماس إليوت في «الأرض الخراب». ومن يقرأ حوارات الشاعر، التي جمعتها ريتا عوض في كتاب مستقل، سيقف على المداميك الأساسية التي نهضت فوقها قصيدته، مثل البناء العضوي الذي يمنع القصيدة من التشتت، واعتبار الرؤيا الضلع الأهم في مثلث الإبداع الشعري الذي تشكل التجربة والتعبير ضلعيه الآخرين، واستثمار الأساطير التراثية دون سواها، في رفد القصيدة بما يلزمها من رموز، والأخذ بمبدأ «الكلي العيني» في التوفيق بين الأفكار المجردة والصور المحسوسة، وصولاً إلى تعلقه بقصيدة الوزن التفعيلي واعتبار قصيدة النثر شكلاً للكتابة متصلاً بطبيعة اللغات اللاتينية وتركيبها الخاص. وفيما لم يكن تنوع الأوزان والبحور واحداً من هواجس الشاعر الذي اقتصرت معظم قصائده على بحر الرمل، كان التوتر الدرامي المستند إلى بنية حكائية سردية، هو الذي يعصم شعره من الرتابة والإملال. ولعل إعجابه بتجربة إلياس أبو شبكة لم يكن وليد الصدفة بل هو شاطر صاحب «أفاعي الفردوس» بعض سمات لغته العصبية وتمزقه العنيف بين الأضداد، وصولاً إلى معجمه الشعري الذي تكثر فيه مفردات الحمى والملح والفحم والعفن والكبريت والشرر والتنين والسموم وما سوى ذلك.
لن يبذل قارئ خليل حاوي كبير جهد ليكتشف أن شعره برمته كان «ترجمة» أمينة لأفكاره المتعلقة بالموت والانبعاث، والبحث عن الخصب والبراءة الأولى المتمثلة بصورة الغجر والبدوية السمراء وعرافة المستقبل. ورغم أنه حاول أن ينأى بنفسه عن تسمية الشعراء التموزيين، والتأكيد على كونه شاعر الانبعاث الحضاري، كتعبير عن انتقاله العقائدي من خانة قومية إلى خانة أخرى، فإن قصيدته «بعد الجليد» تعكس بشكل جلي استلهامه للأساطير المشرقية المتصلة بالموت والقيامة: «يا إله الخصب \ يا بعلاً يفضّ التربة العاقر \ يا شمس الحصيدْ \ يا إلهاً ينفض القبرَ ويا فصحاً مجيدْ \ أنت يا تموز يا شمس الحصيدْ \ نجّنا، نجّ عروق الأرض من عقمٍ دهاها ودهانا \ أَدْفئ الموتى الحزانى والجلاميد العبيدْ \ عبر صحراء الجليدْ». سنقع في مجموعات خليل حاوي الثلاث الأولى «نهر الرماد» و«الناي والريح» و«بيادر الجوع» على نماذج له مشغولة بعناية، دون أن يسمح لها شرر الداخل وعصب التجربة المتوتر بالوقوع في فخ الزخرف البلاغي والتوشية اللفظية. وهو يترنح دائماً بين حدي اليأس والأمل، وبين الخيبة والإيمان بالمستقبل. فتارة يقف الشاعر بأم عينه على تمسك بني جلدته بقشور الحضارة وأقنعتها الزائفة: «نحن من بيروت مأساة ولدنا \ بوجوه وعقول مستعارة \ تولد الفكرة في «السوق» بغياً \ ثم تقضي العمر في لفْق البكارة». وتارة أخرى تنتصر في داخله فكرة التغيير والتجدد المتمثل بأولئك الفتية النابضين بالحياة، والذين «يعبرون الجسر في الصبح خفافاً \ أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ \ من كهوف الشرقِ \ من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديدْ \ أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ».
حين كتب خليل حاوي قصيدته الشهيرة «لعازر 1962» لم يكن ثمة ما يشير إلى التحول الدراماتيكي الذي نقله من خانة الرهان على الحيوية المختزنة في رماد الماضي إلى خانة اليأس من كل شيء. فبعد أن راهن مرة أخرى، وبلسان زوجة لعازر، على فكرة القيامة التي اتحدت فيها الأساطير الوثنية بالمقدس الديني: «من يظن الموت محواً \ خلّه يحصي على البيدر غلّات الحصاد \ ويرى وجه حبيبي \ وحبيبي كيف عادْ»، سرعان ما تكشفت العودة عن تهالك في الجسد وغياب للفحولة وخواء في الروح: «كنتُ أسترحم عينيه \ وفي عيني عار امرأة \ أنّتْ تعرّت لغريبْ \ ولماذا عاد من حفرته ميْتاً كئيبْ \ غير عرق ينزف الكبريت مسْودّ اللهيبْ». ولما كان الشاعر على المستوى الذاتي في ذروة عطائه ولم تكن الهزائم الشخصية قد أدركته بعد، فقد رأى البعض في القصيدة الفريدة نوعاً من الرد على انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا قبل كتابتها بعام واحد، فيما رأى البعض الآخر أن حاوي كان يستشرف بحدسه الثاقب هزيمة العرب المدوية في حزيران 1967. ستمر سنوات عديدة بعد ذلك دون أن يكتب الشاعر قصيدة واحدة. حتى إذا عاد إلى الكتابة عبر مجموعتيه الأخيرتين «من جحيم الكوميديا» و«الرعد الجريح»، بدت لغته خامدة ومكررة وخالية من نبضها الأول، وبدا هو نفسه وجهاً من وجوه لعازر وقيامته المجهضة. لم يستطع الحب بالمقابل أن يُخرج الشاعر من دائرة العزلة والإحباط، بل أضاف خيبة أخرى إلى خيباته، وهو الذي يخلو ديوانه من قصيدة حب واحدة بالمعنى العاطفي المباشر. ولأنه وضع كل أوراقه في سلة القضايا الكبرى والرهان على فكرة الانبعاث، فقد بدت الطلقة التي سددها إلى أم رأسه بمثابة رصاصة الرحمة التي وضعت الحد الأخير لتمزقات نفسه ومسلسل عثراته المتعاقبة.



قضية ابنة شيرين عبد الوهاب تجدد الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني»

شيرين وابنتها هنا (إكس)
شيرين وابنتها هنا (إكس)
TT

قضية ابنة شيرين عبد الوهاب تجدد الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني»

شيرين وابنتها هنا (إكس)
شيرين وابنتها هنا (إكس)

جدد الحكم القضائي الصادر في مصر ضد شاب بتهمة ابتزاز وتهديد الطفلة «هنا»، ابنة الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب، الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني» عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وسبب انتشاره بكثافة، ومدى المخاطر التي يحملها، لا سيما ضد المراهقات.

وقضت محكمة جنايات المنصورة بالحبس المشدد 3 سنوات على المتهم، وهو طالب بكلية الهندسة، بعد ثبوت إدانته في ممارسة الابتزاز ضد ابنة شيرين، إثر نجاحه في الحصول على صور ومقاطع فيديو وتهديده لها بنشرها عبر موقع «تيك توك»، إذا لم تدفع له مبالغ مالية كبيرة.

وتصدرت الأزمة اهتمام مواقع «السوشيال ميديا»، وتصدر اسم شيرين «الترند» على «إكس» و«غوغل» في مصر، الجمعة، وأبرزت المواقع عدة عوامل جعلت القضية مصدر اهتمام ومؤشر خطر، أبرزها حداثة سن الضحية «هنا»، فهي لم تتجاوز 12 عاماً، فضلاً عن تفكيرها في الانتحار، وهو ما يظهر فداحة الأثر النفسي المدمر على ضحايا الابتزاز حين يجدون أنفسهم معرضين للفضيحة، ولا يمتلكون الخبرة الكافية في التعامل مع الموقف.

وعدّ الناقد الفني، طارق الشناوي، رد فعل الفنانة شيرين عبد الوهاب حين أصرت على مقاضاة المتهم باستهداف ابنتها بمثابة «موقف رائع تستحق التحية عليه؛ لأنه اتسم بالقوة وعدم الخوف مما يسمى نظرة المجتمع أو كلام الناس، وهو ما يعتمد عليه الجناة في مثل تلك الجرائم».

مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «أبناء المشاهير يدفعون أحياناً ثمن شهرة ومواقف ذويهم، مثلما حدث مع الفنانة منى زكي حين تلقت ابنتها حملة شتائم ضمن الهجوم على دورها في فيلم (أصحاب ولاّ أعز) الذي تسبب في موجة من الجدل».

وتعود بداية قضية ابنة شيرين عبد الوهاب إلى مايو (أيار) 2023، عقب استدعاء المسؤولين في مدرسة «هنا»، لولي أمرها وهو والدها الموزع الموسيقي محمد مصطفى، طليق شيرين، حيث أبلغته الاختصاصية الاجتماعية أن «ابنته تمر بظروف نفسية سيئة للغاية حتى أنها تفكر في الانتحار بسبب تعرضها للابتزاز على يد أحد الأشخاص».

ولم تتردد شيرين عبد الوهاب في إبلاغ السلطات المختصة، وتبين أن المتهم (19 عاماً) مقيم بمدينة المنصورة، وطالب بكلية الهندسة، ويستخدم حساباً مجهولاً على تطبيق «تيك توك».

شيرين وابنتيها هنا ومريم (إكس)

وأكد الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع، أن «الوعي لدى الفتيات والنساء هو كلمة السر في التصدي لتلك الجرائم التي كثُرت مؤخراً؛ نتيجة الثقة الزائدة في أشخاص لا نعرفهم بالقدر الكافي، ونمنحهم صوراً ومقاطع فيديو خاصة أثناء فترات الارتباط العاطفي على سبيل المثال»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «كثيراً من الأشخاص لديهم وجه آخر صادم يتسم بالمرض النفسي أو الجشع والرغبة في الإيذاء ولا يتقبل تعرضه للرفض فينقلب إلى النقيض ويمارس الابتزاز بكل صفاقة مستخدماً ما سبق وحصل عليه».

فيما يعرّف أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر، الابتزاز الإلكتروني بوصفه «استخدام التكنولوجيا الحديثة لتهديد وترهيب ضحية ما، بنشر صور لها أو مواد مصورة تخصها أو تسريب معلومات سرية تنتهك خصوصيتها، مقابل دفع مبالغ مالية أو استغلال الضحية للقيام بأعمال غير مشروعة لصالح المبتزين».

ويضيف في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «مرتكب الابتزاز الإلكتروني يعتمد على حسن نية الضحية وتساهلها في منح بياناتها الخاصة ومعلوماتها الشخصية للآخرين، كما أنه قد يعتمد على قلة وعيها، وعدم درايتها بالحد الأدنى من إجراءات الأمان والسلامة الإلكترونية مثل عدم إفشاء كلمة السر أو عدم جعل الهاتف الجوال متصلاً بالإنترنت 24 ساعة في كل الأماكن، وغيرها من إجراءات السلامة».

مشدداً على «أهمية دور الأسرة والمؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإعلامية المختلفة في التنبيه إلى مخاطر الابتزاز، ومواجهة هذه الظاهرة بقوة لتفادي آثارها السلبية على المجتمع، سواء في أوساط المشاهير أو غيرهم».