بعد سبع سنوات من الحرب، تبدو حمص، مدينة المتناقضات الصارخة، بين أحياء مدمرة يسميها معارضون بـ«ستالينغراد سوريا»، وأخرى تقطنها غالبية موالية للنظام تسودها حياة طبيعية، ما أدى إلى شرخ كبير بين الشرائح الاجتماعية.
أول ما يلفت الانتباه في البوابة الجنوبية لحمص حاجزان لقوات النظام: الأول يتبع للاستخبارات العسكرية، يليه على بعد أمتار قليلة حاجز آخر للاستخبارات الجوية، يقوم عناصرهما بتدقيق كبير بالسيارات الداخلة إلى المدينة والبطاقات الشخصية، والاستفسار عن أسباب الزيارة والجهات التي يود «الزائر» الذهاب إليها. ووضعت في المكان صور للرئيس بشار الأسد، وعبارات تأييد تزيد في أول ساحة بعد الحاجزين.
حركة المارة خجولة، والقسم الأكبر من المحلات التجارية لا يزال مغلقاً، بينما يوحي المظهر الخارجي للأبنية، بأن معظم الأهالي لم يعودوا إلى منازلهم، إضافة إلى ترهُّل كبير في الشوارع سببه إهمال حكومي للخدمات وصل إلى حد عدم الاكتراث بإنارة الطرقات وتنظيفها، الأمر الذي يضفى على المكان مشهداً باهتاً وطابعاً من الحزن والكآبة، وذلك بخلاف الحيوية والنشاط الذي كان يشهده مدخل المدينة قبل الحرب.
مدينة حمص هي ثالث أكبر المدن السورية، وصل عدد سكانها قبل الحرب نحو 800 ألف نسمة، وهي ذات أغلبية سنية، وتقطن في عدد من أحيائها أيضاً أقليتان علوية ومسيحية. واكتسبت أهمية خاصة، ووُصِفت بـ«عاصمة الثورة»، ذلك أنها كانت الأهم من حيث الالتحاق بالحراك السلمي في بداياته.
تطوَّرَت الأحداث في المدينة فيما بعد إلى صراع مسلح مع عسكرة النظام للأحياء التي تقطنها غالبية موالية للنظام وتحويلها ثكنات عسكرية. ودارت معارك عنيفة بين المعارضين من جهة وقوات النظام والموالين من جهة ثانية، قصف خلالها النظام بعنف الأحياء الثائرة، قبل أن يفرض حصاراً خانقاً عليها انتهى بتهجير قسري للمعارضين وعائلتهم في مايو (أيار) 2015 إلى ريف المحافظة الشمالي وإدلب، في حين توجه آخرون إلى حي الوعر، الذي تم تهجير المعارضين وعوائلهم منه في مايو 2017.
أثار «الانتصار العسكري» للنظام، تتضح أكثر مع الدخول إلى قلب المدينة، إذ يتجسد بأكوام ركام وأنقاض تحولت إليها أحياؤها القديمة، القصور وجورة الشيّاح وباب هود وباب دريب وبستان الديوان والصفصافة وباب السباع (أقدم أحياء المدينة، الذي انطلقت منه أولى المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية والكرامة)، وذلك بسبب شدة قصف قوات النظام وميليشيايه لها.
صورة «الانتصار» تبدو في الأحياء المجاورة للمدينة القديمة، الخالدية والبياضة وبابا عمرو الذي شكل رمزاً لـ«الثورة» في المرحلة السابقة، لكن حي الحميدية، كانت نسبة الدمار فيه أقل، والحياة فيه شبه عادية، وربما ما شفع له أن أغلب سكانه من الأقلية المسيحية.
نسبة الدمار في أحياء المدينة القديمة، بحسب المشاهدات تقدر بأكثر من 80 في المائة من دون أي اكتراث للنظام لإعادة إعمارها. وقال أحد النازحين لـ«الشرق الأوسط»: «حولها (النظام) إلى ستالينغراد سوريا».
وأضاف: «يحاول باستمرار طرح فكرة إعادة إعمارها، بالأخص وسط المدينة التجاري المدمر، لكن الموضوع لن يتعدى التصريحات الإعلامية»، بينما يقول آخر: «لا يريد النظام إعمارها... ولو تم ذلك هل سيسمح للأهالي بالعودة؟ لا أعتقد ذلك فكلهم ثوار وهو حاقد عليهم».
الأحياء القريبة من المدينة القديمة، كان الدمار فيها جزئياً، ويقدر بـ30 في المائة، لكن النظام لا يسمح لأي من الأهالي بترميم بيته والعودة إليه، وفق أحد النازحين، الذي تحدث عن محاولات كثيرة لبعض الأهالي لترميم منازلهم من أجل العودة إليها، لكن اصطدمت برفض النظام وانعدام الأمن والخدمات وكثرة أعمال «البلطجة». وأضاف: «السوق التجارية للمدينة (جورة الشياح وسوق الناعورة) ما زال فارغاً إلا من ذكريات أهله».
بعد سيطرة قوات النظام، لم تحظ المدينة القديمة بأي تغطية إعلامية، أو دعم من حكومة النظام، أو زيارة مسؤولين منه على غرار حلب، ما عزز الاعتقاد السائد بأن النظام لا يريد إعادة إعمارها وإحيائها انتقاماً من أهلها بسبب تحديهم له.
وعلى نقيض الوضع في المدينة القديمة، تبدو الحياة طبيعية في الأحياء الموالية (عكرمة والزهراء والنزهة ووادي الذهب...) التي شكَّل مسلحوها طوقاً أمنياً مشدداً على الأحياء الثائرة، وذلك مع توفر الكهرباء والماء والخدمات والمدارس فيها.
كما يلاحظ، أن أسواق الأحياء الموالية، ازدادت ازدهاراً بعد تدمير السوق القديمة في المدينة القديمة، ويبدو أن أحد أبرز الأسباب في ذلك الازدهار هو افتتاح أسواق جديدة في حيي عكرمة والزهراء أطلق عليها اسم «أسواق السنة»، و«أسواق الغنائم»، يُباع فيها الأثاث والأدوات المنزلية التي نهبها عناصر ميليشيات النظام من منازل الثوار خلال الحملات العسكرية الممنهجة التي قاموا بها ضد الأحياء الثائرة.
وبدا، أن شرخاً طائفياً كبيراً حصل بين أهالي المدينة بعد ارتكاب مسلحي الأحياء الموالية كثيراً من المجازر المروعة بحق أهالي الأحياء الثائرة خلال الأحداث، كما حدث في 18 أبريل (نيسان) 2011 حيث قُتِل ما بين 200 إلى 300 شخص في فض اعتصام «ساحة الساعة»، و«مجزرة الخالدية» في فبراير (شباط) 2012 والتي سقط فيها ما يقارب 300 قتيل، ومجزرة حي كرم الزيتون في مارس (آذار) من العام ذاته، وراح ضحيتها ما لا يقل عن خمسة وأربعين مدنياً ذُبِحوا بالسكاكين، إضافة إلى كثير من الانتهاكات. وتنفي السلطات السورية هذه الاتهامات وارتكاب انتهاكات.
ناشطة في المجتمع المدني قالت لـ«الشرق الأوسط»: «السنة في حمص لم ولن تنسى ماضي المدينة البائس خلال سنوات الحرب»، مشيرة إلى أن «الخوف لا يزال حاضراً في كل التصرفات المجتمعية أو الحياتية». وأضافت: «يزيد في معاناتهم أن مداخل المدينة ومخارجها تقع إلى جانب أو ضمن مناطق ذات أغلبية موالية (طريق دمشق) أو (طريق طرطوس)، بينما الطريق لحماة يمر عبر قرى موالية أيضاً، أما شرقاً باتجاه الصحراء فهو غير مهم لأحد وكل هذا يعزز شعور الخوف لدى البعض داخل المدينة».
بدوره، رجل في العقد السادس من عمره يلفت إلى أن «السنة هم الأكثر خوفاً وحرصاً على أنفسهم في ظل اليد الطولى للموالين. المدنية وريفها الرازح تحت سيطرة النظام محكوم منهم وهؤلاء مدعمون من الأجهزة الأمنية المتنافسة ومن إيران وحزب الله اللبناني»، وأضاف: «يشعر الأهالي باستمرار بنظرات الشك والريبة من قبل العناصر الأمنية أو الحكومية حول انتمائهم وموقفهم من النظام».
أكثر ما يلفت الانتباه في تلك الأحياء غياب القانون والسلوكيات اللاأخلاقية التي يتبعها عناصر الميليشيات وبعض المدنيين. وقال أحدهم: «الشبيحة قامت بطرد عائلات معارضة تقطن منذ عشرات السنين في تلك الأحياء»، مشيرين إلى أن كثيراً من الأهالي، وتحت وطأة القصف الذي تعرضت له أحياؤهم نزحوا إلى حي الوعر وأحياء أخرى بعيدة نوعاً ما عن سطوة الميليشيات الموالية.
أحد سائقي سيارات الأجرة، المنحدر من حي الحميدية، ونزح إلى إحدى بلدات ريف دمشق ويتردد إلى مدينة حمص باستمرار لتفقد منزله في الحي، قال إنه لا يجرؤ على الذهاب إلى أي من الأحياء الموالية بمفرده، وإن اضطر إلى الذهاب لإجراء معاملة رسمية «سوف أذهب بصحبة من أعرف المنطقة ويمون على أهلها!».
بعض الأهالي توسّموا خيرا بعد انتهاء القتال في المدينة، ومنوا أنفسهم بالعودة واستئناف عملهم هناك بيد أنه سرعان ما خاب أملهم، بسبب سلوكيات موالين. وأحد أصحاب ورشات تصليح السيارات في المدينة أعاد فتحها بعدما أغلقها خلال سنوات الحرب، لكنه قال لـ«الشرق الأوسط»: «لم أستطع الاستمرار سوى لفترة قصيرة وأعود أدراجي إلى دمشق للعمل هناك، فكل ساعة يأتي إلى عنصر من «الشبيحة» أو الجيش أو أحد الفروع الأمنية، ويطلب مني تصليح هذه السيارة لـ(المعلم) من دون أن يدفعوا لقاء ذلك».
من جانبه، تحسر أحد السكان على ما وصل إليه الوضع في مدينة حمص التي كانت تلقب قبل الحرب «بمدينة أم الفقير»، في إشارة إلى طيبة أهلها وعطفهم على بعضهم مقارنةً بدمشق أو حلب، مؤكداً أنها باتت في عام 2010 خالية من أي متسوَّل نتيجة «جهود كبيرة من الجمعيات الأهلية لمكافحة هذه الظاهرة وإيجاد حلول اجتماعية واقتصادية مناسبة لها».
أما «الظرافة» التي اشتهر بها أهل حمص، وتسببت بإطلاق سلسلة لا تنتهي من «النكات». فآسف أحد الأهالي لأنها باتت «من الماضي». وأضاف: «يوم الأربعاء الحمصي السعيد، الذي يرمز لفكاهة أهل حمص وبات (قصة تاريخية)، لم يعد كذلك بعد الحرب الطاحنة، فمشاهد الدمار في كل مكان نسفت الإرث الفكاهي للمدينة».
حمص شاحبة... وشرخ عميق بين أحياء مدمرة وأخرى مزدهرة
«الشرق الأوسط» تستطلع خفايا «الانتصار العسكري» في «عاصمة الثورة»
حمص شاحبة... وشرخ عميق بين أحياء مدمرة وأخرى مزدهرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة