هذا خطابٌ من نوعٍ جديد، لغةً وفكراً ومضموناً. خطابٌ يؤسس لفهم جديد. سابقاً كنا نسمع تبريرات وأعذاراً ولغة مدافعة. الآن نحن في مواجهة الحقيقة، وهي البوابة الصحيحة لمعالجة المشكلات.
خلال كلمته في مؤتمر «معالجة العنف الممارَس باسم الدين» الذي نظّمته وزارة الخارجية البريطانية في العاصمة الإيطالية روما، أكد الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، أن الإقصاء والتهميش يؤدي إلى العنف. يقول: «إن الأفكار الكارهة الإقصائية هي التي تولّد العنف، بسبب رفضها أن تتشارك الحياة مع مَن يختلف معها»، داعياً إلى القبول بالاختلاف والتنوع بين البشر.
يشير العيسى إلى خطورة عبارات التحريض العنصري واستفزاز العاطفة الدينية والطائفية والثقافية التي لها آثار محفزة للعنف باسم الدين.
يقول: إن العنف باسم الدين لم يتمدد مطلقاً إلا في منطقة الفراغ من مواجهته، أو التساهل معه تحت أي ذريعة كان التقصير». ثم يقول: «الأفكار المتطرفة تقود أحياناً إلى العنف، والعنف ربما قاد إلى الإرهاب في حلقات متواصلة تطول أو تقصر، من زمن لآخر».
التهميش والإقصاء ليس مجرد ثقافة، بل هو سياسة وسلسلة قوانين وإجراءات ينبغي تفكيكها، لأنها قائمة على تقسيم الناس على أساس تفاضلي، الكاتب الأميركي المناهض للعبودية هنري ديفيد ثورو (1817 – 1862)، يقول: «يستلقي الناس على ظهورهم ويتحدثون عن سقوط الإنسان دون بذل أي جهد للنهوض»، هذا هو الحال فيما يتعلق بالكثير من الشكاوى بشأن ظاهرتي التهميش والإقصاء. ولذلك تكبر هذه المشكلة وتصبح ورماً اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً، تدفع ضحاياها إلى السقوط في العزلة التي هي إحدى البيئات الخصبة للكراهية والانغلاق والعنف.
في المقالة المهمة «مفهوم الإقصاء» لأديتيا أنوبكومار، ترجمة بثينة الإبراهيم (موقع حكمة)، نقرأ هذا السؤال: «هل يكفي العمل على كبح انتشار نظرية التهميش، في أثناء العمل –مثلاً- لتأسيس مجتمع المساواة للقضاء على مشكلة التهميش أو تقليصها على الأقل؟». ثمة دور للقانون، وآخر لوسائل الإعلام، وثالث للمجتمع، ورابع للمهمشين أنفسهم بأن يكسروا عزلتهم. لكن، أين يتمظهر هذا التهميش حتى يمكن التوجه إليه مباشرة؟ يقول أنوبكومار: «من الأمثلة على التهميش: التوظيف الانتقائي، أو التفرقة بين المتقدمين للوظائف بناءً على دينهم أو أصلهم أو توجههم الجنسي، أو حتى تاريخهم الطبي». ويضيف: «ويمكن اعتبار استهداف بعض الجماعات بالعنف أو النقد القاسي ونشر الكراهية والخوف من الأجانب... إلخ، نوعاً صارخاً للتهميش».
القانون هو الأساس، لكن من الإجحاف التعويل عليه فقط. فالتهميش كالعنصرية، لا يزول بمجرد قرار، في الولايات المتحدة تم إلغاء الرقّ عام 1863 وبقيت العنصرية جاثمة على صدور الملايين من البشر مائة عام بعدها.
ماذا يفعل التهميش...؟ يقول أنوبكومار: «إن آثار الإقصاء كبيرة، إذ يعاني المهمشون من أزمة هوية (إذ يُنظر إليهم غالباً على أنهم «أشخاص سيئون») وربما يؤدي هذا إلى إثارة قتال أو جرائم اجتماعية».
التهميش يعني الموت... هذا ما يقوله لي الصديق الروائي عبده خال ذات حديث: «كارثتنا أننا نموت أحياء، بسبب أن وضعنا داخل سجن التهميش، تكوّن من سوء الظن والزيف والكذب».
هذا بالتحديد ما عناه الدكتور العيسى في كلمته، هو يرى أن: «أغلب هذا العنف قام على آيديولوجية كارهة إقصائية، لا تريد لأحد أن يشاركها الحياة إلا إذا كان يؤمن بعقيدتها وأفكارها، وهذا الخلل العقلي له أسباب غير صحية اجتماعية وتعليمية وفكرية وسياسية».
بالمناسبة، التهميش مؤذٍ ومدمِّر ولكنه لا يلغي شخصية ضحاياه، ولا كينونتهم، ولا رؤيتهم للآخر، هو فقط يكرّس عزلتهم ويدفعهم إلى تبادل الدور. يقول عبده خال: «التهميش لفظة تواطأنا على ترديدها، فالمهمَّش هنا هو السيد هناك». ويضيف: «انظر إلى إشارتك إلى الأشياء، فحين تشير إلى الشارع –مثلاً- تثبت جهة واحدة وتهمِّش خمس جهات، بينما الجهات الخمس المهمشة من قِبلك تهمِّشك –بدورها– أنت وشارعك الذي تشير إليه».
التهميش والعنف!
التهميش والعنف!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة