التنين الصيني يحدد مستقبل العالم

كتاب فرنسي يطرح أسئلة عن مساراته سياسياً واقتصادياً وثقافياً

التنين الصيني يحدد مستقبل العالم
TT

التنين الصيني يحدد مستقبل العالم

التنين الصيني يحدد مستقبل العالم

فرضت الصين نفسها بقوة على منظومة السباق العالمي، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وأصبح «التنين الصيني» واحداً من الدول الأقوى التي تحكم مؤشرات الصراع فوق ظهر هذا الكوكب.
حول هذا الموضوع، صدر أخيراً بالعاصمة الفرنسية كتاب بعنوان «القدرة الصينية في مائة سؤال» للكاتبة الفرنسية فاليري نيكويت «Valérie Niquet» عن دار النشر الفرنسية «تالاندير Tallandier». يقع الكتاب في 304 صفحات من القطع المتوسط، وعبر هذه الصفحات طرحت الكاتبة مائة سؤال، تشكل فيما بينها لوحة كاملة للصين اليوم بصفتها قوة اقتصادية وثقافية وديموغرافية ونووية وعسكرية، مؤكدة في الوقت ذاته أسباب بلوغ الصين هذه المكانة المهمة دولياً خلال بضعة حقب زمنية لتتبوأ اليوم المرتبة الثانية عالمياً على المسار الاقتصادي والأولى على مسار الصادرات والواردات، وبخاصة فيما يتعلق بواردات النفط والمواد الأولية، وكذلك مكانتها الثانية على المسار العسكري عالمياً بعد الولايات المتحدة الأميركية؛ إذ تقدر ميزانيتها في مجال الدفاع بـ144 مليار دولار وفقاً لإحصائيات 2017. بل، أصبح يحدد سوقها وتبادلاتها وخياراتها الاستراتيجية مستقبل العالم. ورغم التباطؤ النوعي للنمو الاقتصادي على مستوى العالم في 2015 وما أحدثه من تراجع حاد وواضح في الميزان التجاري، فإنه ما زال ينظر للصين بصفتها رائداً للنمو العالمي ومُنقذاً للاقتصاديات التي تعاني من أزمات اقتصادية.
أضفت الأسئلة المائة المطروحة من قبل المؤلفة على الكتاب طابعاً معلوماتياً شيقاً لما ينطوي عليه من حجم معلومات كبير يساعد على فهم واستيعاب ما توصلت إليه الصين اليوم، فبحسب الكتاب أنتجت واستخدمت الصين خلال الفترة من 2011 إلى 2013 كميات من الإسمنت أكثر من تلك التي أنتجتها واستخدمتها الولايات المتحدة الأميركية طوال القرن العشرين كاملاً.
ويلفت الكتاب إلى أن الصين حققت نجاحات حقيقية مذهلة على أرض الواقع تتمثل في خروج 500 مليون نسمة من مواطنيها من عباءة الفقر منذ 1980 حتى الآن، وهو رقم مذهل في الواقع؛ لأنه يمثل تخفيض معدل الفقر عالمياً بنسبة 75 في المائة عن الفترة نفسها. ولذلك؛ يسعى قادة الصين ليس فقط نحو الحفاظ على ما حققوه من نجاحات ملموسة، لكنهم أيضاً يعملون جاهدين على تطوير هذه النجاحات؛ خشية عليها من تعرضها لأي تهديدات، أو أن يضربها الضعف؛ لأن نموذج انهيار الاتحاد السوفياتي ليس ببعيد عن أعينهم؛ فهو حاضر وبقوة في أذهانهم.
ورغم ذلك، تنتقد المؤلفة الوضع الاقتصادي للمواطن الصيني، مؤكدة أنه على الرغم من قوتها الاقتصادية العاتية، فإن هذا لم ينعكس إيجاباً على المواطن الصيني؛ إذ تشير الأرقام إلى أن الصين تحتل المرتبة الـ74 عالمياً فيما يتعلق بنصيب الفرد من الثروة القومية، وهي مرتبة متواضعة للغاية، حيث تأتي الصين بعد روسيا وفنزويلا والمكسيك، وبالتالي فإن تطلعات الشعب وآماله لا تزال كبيرة وأحلامه في الثراء لا تزال صعبة المنال، وبخاصة لدى الأجيال الجديدة التي لم تعرف الخصخصة. ولذلك؛ فمنذ تعيينه رئيساً للبلاد في 2012، أنعش شي جينبنغ الآمال بتعميق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية من خلال تعزيز التوجهات الوطنية والقومية، وبخاصة أن منطقته تشهد تحولات عميقة وجوهرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

عباءة الثقافة والاقتصاد سياسياً
وفي حديثها عن البعد الثقافي والمجتمعي، تناولت المؤلفة أوجهاً كثيرة، منها دور الأديان وثقلها في قلب المجتمع الصيني الذي شهد تغيراً كبيراً في تركيبته الديموغرافية جراء سياسة الطفل الواحد، وهي السياسة التي انتهجتها الإدارة الصينية لموجهة زيادتها السكانية، إلا أن مردودها السلبي كان كبيراً على المجتمع الصيني داخلياً وخارجياً؛ إذ تشير الإحصائيات إلى تراجع السكان في سن العمل خلال عام 2015 بمقدار 4.87 مليون نسمة، وهو ما يعد تغيراً جوهرياً في تركيبة المجتمع الصيني الذي ظلت تمثل الأيدي العاملة ولسنوات طويلة إحدى أدواته المميزة وقوته الناعمة المهمة، إضافة إلى ذلك، فإن 1 في المائة فقط من السكان يمتلكون 33 في المائة من إجمالي ثروات البلاد. وتناولت المؤلفة أيضاً مسألة شبكات التواصل الاجتماعي، مؤكدة على أن شبكات التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت لا تزال تخضع لرقابة صارمة من قبل النظام وحزبه، ورغم ذلك، فإن موقع (Alibaba) الاقتصادي الصيني له أكثر من 400 مليون مستخدم. كما أن الحزب الشيوعي الصيني يسيطر على شبكة الإنترنت، وأن 80 في المائة من الـ34 مدينة صينية تعاني من معدل تلوث أعلى بكثير من المعدلات العالمية، حيث شهد عام 2015 انفجاراً غير قانوني لـ700 طن من المواد الكيميائية.
لا ينفصل هذا عن السياسة الصينية التي يناقشها الكتاب في فصله الثالث لمعرفة من يحكم ويدير الصين، مؤكداً أن «التوترات تزداد رويداً رويداً، وبقوة كبيرة بين المبادئ التسلطية»، كما أن حالة التضييق والرقابة الصارمة المفروضة على شبكة الإنترنت جعل منظمة «مراسلون بلا حدود» تصنف الصين في المرتبة الخامسة عالمياً للدول التي لا تحترم حرية الصحافة. كما تناولت المؤلفة كذلك حالات الانشقاق التي طالت المجتمع الصيني، فهناك منشقون عدة لجأوا إلى خيار المنفى في الخارج في مواجهة صرامة النظام الصيني.
خصصت المؤلفة في الكتاب فصلاً كاملاً حول الاقتصاد الصيني لمعرفة ماهيته وتوجهاته، وهل هو اقتصاد سوق أم اقتصاد اشتراكي؟ وتوصلت إلى أنه من الصعب تحديد ذلك الآن؛ فهناك 103 شركات صينية مملوكة للدولة الصينية، وتعد من بين أكبر وأهم 500 شركة عالمياً. كما أن الاستثمارات الأجنبية تمثل أهمية للصين، سواء من وجهة النظر الاقتصادية أو من وجهة نظر صورة الصين خارجياً.
وعلى الرغم من أن العملة الصينية «اليوان» لا تعد عملة دولية إلا بنسبة 2 في المائة فقط من حجم التعاملات، وعلى الرغم كذلك من أن الصين وأميركا يمثلان 40 في المائة من الاقتصاد العالمي، فإن الصين تحتل، منذ 2013، المرتبة الأولى عالمياً في حيازة العملة الأجنبية.
وتؤكد المؤلفة أن الشواهد تشير إلى صعوبات تجابه النظام الصيني اليوم، وتتساءل عما إذا كان ذلك يمثل ضعفاً عابراً أم طويل الأمد؟ وهل يستطيع النظام الصيني الخروج من عباءة الطاغية على المدى القصير؟ وهنا تشير المؤلفة إلى أن هذا الوضع يتطلب إحداث نمو قوي بأي ثمن لحفظ وصيانة شرعية النظام؛ ولذلك فقد وعد الرئيس الصيني بأن تصبح بلاده قوة معتدلة تنموياً في 2020 لإحداث تطور ملحوظ في متوسط دخل الفرد وتقليل الفروق الشاسعة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
- الجغرافيا والاستراتيجية الخارجية
في الفصل الأخير من كتابها، تتناول المؤلفة أوجهاً كثيرة للصين الساعية نحو البناء كقوة عظمى، مشيرة إلى أن الرئيس الصيني يسعى نحو صياغة ما يسمى بـ«الحلم الصيني» لترسيخ مكانة الصين عالمياً من جانب، وأن تصبح الصين مستقلة من كل النواحي من جانب آخر. إلا أن التاريخ لا يزال متوقفاً اليوم عند نقطة غريبة تكمن في أن أكثر من نصف المسلسلات في الصين اليوم تتناول الحرب الصينية اليابانية، هذا رغم العلاقات الجديدة التي ترتسم الآن بين الصين وروسيا والتي تغير من شأنها الكثير من المعطيات الإقليمية والدولية.
كما تناولت المؤلفة خلال هذا الفصل محاور أخرى، مثل التواجد الصيني في آسيا الوسطى والهند وأفريقيا لتخلص في النهاية إلى التأكيد على قوة الصين الناعمة خارج نطاقها الجغرافي، وبخاصة في المناطق سالفة الذكر، حيث فتحت الصين أكثر من 500 معهد في 125 دولة منذ عام 2004.
يشار إلى أن مؤلفة الكتاب متخصصة في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية في آسيا ومسؤولة مهمة في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية بفرنسا؛ ما جعلنا أمام عمل مميز يجمع بين الأبعاد النظرية والحقائق المعلوماتية المأخوذة من الميدان الواقعي.


مقالات ذات صلة

غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.